07-أكتوبر-2020

أحداث أكتوبر 1988 في الجزائر (جورج ماريلون/Getty)

الأمكنة والشوارع نفسها، تغيّرت الوجوه فقط، هو حوار حِقبتين، ثورتين أو انتفاضتين، بين الخامس تشرين الأول/أكتوبر 1988 والـ 22 شباط/فيفري 2019 مسافتان بأعمار جيلين في الجزائر؛ جيل الأحادية الحزبية وجيل التعدّدية السياسية، جيل الاشتراكية وجيل السّوق الحرّة، جيل التّلفزيون الواحد وجيل السّماء المفتوحة، جيل حزب الواحد وجيل الـ 45 حزبًا.

 أطلق البعض على أحداث أكتوبر "ثورة الخُبز" لأنّها اندلعت كردّ فعل شعبي على أوضاع اجتماعية 

 بين الانتفاضتين أكثر من 30 سنة كاملة، فمن خرج في ذلك اليوم للشّارع وانتفض شابًا، صار اليوم شيخًا ولازال ينتظر أن تنضج الثمار، يقول الأستاذ المتقاعد سيد أحمد أوقاسي 71 سنة من منطقة تاحمامات بولاية خنشلة شرقي البلاد لـ "الترا جزائر"، ومن خرج في الـ 22 فيفري/شباط 2019، مازال ينتظر أن تتحقّق مطالب الحرّية والديمقراطية، تقول المحامية فريدة سلامن من ولاية غيليزان لـ "الترا جزائر"، كلاهما ينتظران مثل كثير من الجزائريين الذين خرجوا للشارع على مدار أكثر من ثلاثة عقود بهدف التغيير وأي تغيير؟

اقرأ/ي أيضًا: مصير المفقودين في العشرية السوداء

الانتفاضة والجيش

لم تكن أحداث الخامس تشرين الأوّل/أكتوبر عَفوية أو عابِرة، كما أفادت به أغلبية القراءات حيال تلك الفترة التاريخية، هي تراكمات ربع قرن من الحكم عقب الاستقلال 1962، وفي فترة حكم الرئيس الشاذلي بن جديد ( 1979-1992)، ونتيجة حتمية للظّلم والضيم ونضالات سياسية وحقوقية في الأوساط الجزائرية في السرّ قبل العلانية، حيث يؤكّد الأستاذ في علم الاجتماع السياسي، البروفيسور عبد المجيد بلوناس على ارتباط تلك الانتفاضة بأحداث سبقتها أهمها: "أحداث العنف التي اندلعت في الـ20 أفريل/نيسان 1980، في منطقة القبائل عقب منع السلطات آنذاك للكاتب مولود معمري من إلقاء محاضرة في جامعة تيزي وزو، اعقبتها مظاهرات تطالب بالاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة رسمية، زيادة على المظاهرات العنيفة التي شهدتها كل من ولايات وهران وقسنطينة وسكيكدة عشية الدخول الاجتماعي في نوفمبر 1986، علاوة على ما شهدته سنوات الثمانينيات، ارتفاع منسوب الاحتجاجات والغضب العمالي في المناطق الصناعية الكبرى، كأرزيو بولاية وهران والرويبة بالعاصمة الجزائرية ومركب الحجّار بعنابة.

في يوم الخامس من أكتوبر، شهدت معظم الولايات الجزائرية احتجاجات في الشوارع، أطلق عليها البعض "ثورة الخُبز" لأنّها اندلعت كردّ فعل شعبي على أوضاع اجتماعية واقتصادية صعبة، خاصّة بعد انهيار أسعار النّفط عام 1986، كما استهدفت الاحتجاجات كل ما يرمُزُ إلى الدولة ومقرّات الحزب الحاكم "جبهة التحرير الوطني"، أدت إلى تدخّل قوات الجيش لقمع المتظاهرين، خلفت الأحداث 169 قتيلًا في حصيلة رسمية، ومئات المفقودين، إضافة إلى اعتقال المئات، أعلن على إثرها الرئيس بن جديد اتخاذ تدابير إجرائية وإصلاحات شاملة.

بينما ذكر المختصّ في العلوم السياسية الكاتب محمود بلحيمر، أن تلك الأحداث "لم تكن حامِلة لمطالب اجتماعية فحسب، بل كانت حامِلة أيضًا لمطالب سياسية، تتعلق بانتقاد نمط التسيير والتوجهات الاقتصادية وحتى الأيديولوجية للدولة وفساد الجهاز الإداري واستغلال النخبة الحاكمة لنفوذها في السلطة".

وبذلك فالخامس من أكتوبر هو محصّلة لتراكم مجموعة من العوامل أهمها يذكر بلحيمر:"انخفاض حادّ في أسعار المحرقات، وهو ما يعني تراجع النظام من تسديد مبالغ ضخمة للحفاظ على السلم الاجتماعي من خلال الإنفاق في تقديم المساعدات وتوفير الوظائف وبالتالي دفع أجور لقطاع واسع من المواطنين ودعم المواد واسعة الاستهلاك".

كما مثّلت هذه الأحداث انفجارًا علنيًا للصراع الخفيّ في غرف السلطة وقتذاك، وانقسام النخبة الحاكمة، فضلًا عن انعدام التجانس بينها بشأن الخيارات السياسية والاقتصادية وحتى الأيديلوجية، ثم خرج الخِلاف بين أنصار الشاذلي بن جديد وأنصار محمد الشريف مساعدية الذي كان يرأس الحزب الواحد، خرج من الدّوائر المغلقة إلى العلَن، وهو ما كشفته آنذاك جريدة "الجزائر الأحداث" الصادرة بالفرنسية.

نقلت الأحداث الجزائر من الأحادية الحزبية إلى التعددية السياسية والإعلامية، بعد إقرار أول دستور تعددي، في 23 فيفري/شباط 1989.

سياسيًا، في عام 1990 أحصت الجزائر، 60 حزبًا ينشط في الساحة السياسية، وإعلاميًا ظهرت في الساحة أزيد من 40 صحيفة خاّصة باللغتين العربية والفرنسية، وهي من إيجابيات التغييرات التي شهدتها الساحة السياسية والإعلامية.

غير أن ذلك لم يكن سوى الشجرة التي ستغطي الغابة، فأدى توقيف المسار الانتخابي في التشريعيات بعد فوز "الجبهة الاسلامية للإنقاذ" المحظور، إلى دخول الجزائر في دوامة العنف وصدر قانون حالة الطوارئ في شبّاط/فيفري 1992، وارتفعت حوادث الاغتيالات التي عبّدت الطريق نحو مسار العشرية الدموية، ما كلّف الجزائريين أكثر من 200 ألف قتيل وأكثر من ثمانية آلاف مفقود، والآلاف من العائلات المشرّدة، لم تنته بعد فصول مأساتها لليوم.

إيجابيات المرحلة

نظريا؛ كانت ثورة أكتوبر منعطفًا تاريخيًا، كما قالت الباحثة في العلوم السياسية نورة بودهان في حديث لـ "الترا جزائر"، أسفرت عن تعددية سياسية، بتشكيلات سياسية مختلفة، موضحة أن "الأحزاب السياسية هي الحاضنة للديمقراطية، وهي بدورها وعاء للحرّية بما فيها حرية التعبير وحرية الممارسة السياسية، غير أنها تطرح تساؤلات عديدة حول تداعيات تلك الواجهة السياسية، عقب الأحداث: هل تعني التعددية الحزبية في الجزائر الديمقراطية؟ وهل تعني التعددية الحزبية التعددية السياسية؟ وهل تعني التعددية الإعلامية حرّية الممارسة الصحافية؟، تساؤلات مازالت قائمة لليوم، كما أوضحت الأستاذة بودهان.

في المقابل من ذلك، افرزت التجربة الإنتخابية التعددية في التسعينيات، فضاءً غير مؤهل لنمو الأحزاب والفكر السياسي، إذ أصبحت الأحزاب بتعدد أقطابها، تابعة للسلطة، أو أحادية جديدة بتعدّد الأوجه، مبتعدة عن دورها كسلطة مضادة، غير قادرة على أن تنتقد الحكومة في أعمالها.

يعتقد البعض أن من إفرازات أحداث تشرين الأوّل/كتوبر، هي ولادة أحزاب سياسية لا تملك قاعدة جماهيرية خارج الأطر الانتخابية، بل هي مجرد "دكاكين أو نوادي تجذب الانتهازيين في مختلف المناسبات الانتخابية"، كما أنها تدفع مناضلين لا يملكون الثقافة السياسية لتسيير المجالس البلدية، ما يؤثر تأثيرًا سلبيًا على التسيير، فيما يذكر البعض أن الأحزاب التي تؤثّث المشهد السياسي الجزائري منذ بداية التسعينيات إلى يومنا هذا، تسعى فقط نحو تحقيق المكاسب.

ماذا تغيّر؟

بين شعار "مساعدية سرّاق المالية" سنة 1989، وشعار "كليتو البلاد يا السراقين" سنة 2019، مسافة 30 سنة من الاحتجاج والتظاهر في الشارع، الأولى عرفت عنفًا غير مسبوقًا، إذ تذكر شهادات جمعتها "الترا جزائر"، أن السلطات الأمنية وقتها فقدت السيطرة على أعمال التخريب والنهب، أعلن على إثرها الرئيس الشاذلي حالة الحصار وتدخّل الجيش لأول مرة للسيطرة على الوضع، وكانت الحصيلة 156 قتيلًا بحسب الأرقام الرسمية، وأكثر من 1200 جريحًا، إضافة إلى خسائر مادية معتبرة.

أمّا مسيرات الحراك الشعبي فكانت سلمية، حيث خرج الآلاف يوم الجمعة 22 شباط/فيفري 2019، في مظاهرات ومسيرات عبر مختلف ولايات الوطن، مطالبين بعدم ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة (1999-2019)، دفعت بتأجيل موعد الانتخابات الرئاسية التي كانت مقرّرة في الرابع نيسان/أفريل 2019، ثمّ إعلان استقالة الرئيس بوتفليقة يوم الثاني/أفريل من السنة نفسها، قبل انتهاء عهدته الرئاسية الرابعة بأقل من أسبوعين، استجابة لدعوات جماهيرية رفض بقائه في الحكم.

يصِف كثير من المتتبعين للساحة السياسية في الجزائر، انتفاضة الخامس أكتوبر 1988، بأنها مرحلة مفتوحة، لم تنتهِ محطّاتها، بل هي دوافع حراك الـ 22 شباط/ فيفري 2019، كما ينظر إليها الإعلامي مروان الوناس، مسار طويل من أجل التغيير، الفرق بين المحطتين أن الاولى لم تكن تحمل مطالب سياسية.

يضيف المتحدّث، عبر تدوينته فيسبوكية: "لم نكن نعي ما يدور، لكن كنّا نعيش الندرة وشظف العيش وتجليات الأزمة الاقتصادية.. يومها لم نسمع عن شعارات سياسية أو مطالب تغييرية كما هو شأن الحراك اليوم... انتهى أكتوبر إلى تعددية سياسية حقيقية كانت قوسًا سريعًا ما أغلقه جنرالات الدم".

يختم مروان الوناس قائلًا "بعدها قيل لنا إن أحداث أكتوبر كانت صراع أجنحة داخل النظام، ألقوا به إلى الشارع الغاضب. مثلما يقال اليوم عن الحراك بأن هناك جناحًا استثمر في غضب الشعب وركب الحراك ليأخذ السلطة من العصابة المغلوبة. متى تغلب إرادة الشعب؟"

رغم التباعد الزمني، الثابت أنه لا يمكن أن "تُؤكل الفاكهة وهي لم تنضج"، كما يردّد كثيرون ممن كانوا شاهدين على الفترتين، (تشرين الأوّل/أكتوبر1988 وشبّاط/فيفري2019)، حيث تحققت بعض مطالب الحراك الشعبي، وغادر الرئيس بوتفليقة الحكم، ولم ينل مراده بالترشح للعهدة الرئاسية الخامسة.

أكبر منجز تحقق من وراء جمعات الحراك أن الشعب كسّر حاجز الخوف من مآلات "العشرية السوداء"

 لكن أكبر منجز تحقق من وراء جمعات الحراك أن الشعب كسّر حاجز الخوف من مآلات "العشرية السوداء"، وأنهى مرحلة الاستقالة الشعبية من الفعل السياسي، كما أعاد المطلب الديمقراطي للواجهة، لكن هناك خطوات لم يحقّقها الحراك بعد بحسب بعض الناشطين، تتمثّل في عدم التوصل بعد إلى  وحدة التصوّر لدى قوى المعارضة التي لم تنجح في أن تكون فاعلًا داخل السّلطة ولم تتمكّن من فرض الخيار الديمقراطي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أحزاب وجمعيات تحيي الذكرى.. "حراك فبراير استكمال لانتفاضة أكتوبر 1988"

حوار| خالد زياري: خالد نزّار تآمر على انتفاضة أكتوبر والحراك الحالي أيضًا