11-مايو-2022

(صورة أرشيفية: رياض كرامدي/أ. ف. ب)

التقى محمد بوعروج وفريد علواش في الوكالة الولائية للتشغيل بولاية ميلة شرق الجزائر، كلاهما ينتظران دورهما في الدخول لمكتب استقبال ملفات طالبي منحة البطالة وتسوية الأوراق المطلوبة، وكلاهما يحملان معهما حكاية تختصرها المسافة والظرف الذي يقع فيه كل من كان يحلم بعمل أو وظيفة.

توجهت الشابة إسمهان رحماني إلى المهن الحرة تاركة خلفها تخصّصها في علم البيولوجيا الذي تحبه كثيرًا، لكنها وقعت في فخّ البطالة فقررت أن تجمع المال لتسافر إلى كندا وتكمل حلمها هناك

الغريب في قصّة محمد وفريد أن كلاهما يسردان وضعية عيش يقتسمونها مع من جاؤوا من كل أحياء المدينة فجرًا لتسوية هذه الوضعية، إذ تشبه إلى حدّ بعيد حكايات اكثير من القصص التي ترويها ظروف القادمين من مختلف الأحياء وبلديات الولاية، ومعظم البطالين الجزائريين عبر مختلف مناطق الوطن، لكن في مفارقة بين بطالة بعد الدراسات الجامعية والتكوين المهني وحلم الحصول على شهادات التعليم، وبطالة فرضتها ظروف الحياة بالتسرّب المدرسي.

المفارقة بين الحضور أن أغلبهم  طلبة جامعيون، ومتخرِّجين من مراكز التكوين المهني، وبطالون لم يسبق لهم أن دخلوا الجامعة، وودعوا مقاعد الدراسة مبكّرا، ليكون أملهم الوحيد هو بوابة وكالة التشغيل.

الحديث شيق بين الثنائي، إذ تحوّل في ظرف أربع ساعات من الانتظار إلى مقترحات وتنفيس عن حزن وسرد تفاصيل هامشية في الحياة، وتمكن الطرفان من تقليص المسافة الفاصلة بين دراسات الجامعة والحصول على أعلى شهادة؛ إذ طرح بوعروج (34 سنة) سؤالا لرفيقه في صفوف الانتظار على مضض: هل هناك فرق بين شهادة الدكتوراه التي حصلت عليها من كلية العلوم القانونية وشهادة البطالة؟

يصمت رفيق علواش وحتى القريبين منه ليطلق قهقهة كبيرة، ثم يباغته قائلًا: "أعذرني صديقي، لا فرق بينهما سوى الـ 13 ألف دينار جزائري (60 يورو شهريًا) التي سيحصل عليها كلانا: "أنت درست وسهرت واجتهدت، ونحن ساقتنا الأقدار إلى هنا، لنحصُل على نفس المبلغ ونفس الشَّهادة، لكنّها شهادة تثبِت أن جميعنا هنا بطّالون ومتساوون".

نعم الكلّ سواسية، أليس هذه مساواة اجتماعية بين جميع الجزائريين، عبارة تداولها البعض، بل وأكثر من ذلك، فإن منحة البطالة هي مفتاح لباب لا يمكن إغلاقه بسبب تداعياتها على الملايين.

كثيرون ممن يحصلون على الشهادات العليا أصبحوا يتنافسون في الحصول على شهادة "بطال" بغية الاستفادة من تلك المنحة، والغريب أيضًا أن الكثيرون من التلاميذ في الثّانويات وحتّى عائلاتهم باتت بالنّسبة لهم فكرة الدّراسة ضرب من ضُروب التّعب المُضني من الوقت والعمر والمال أيضًا.

مفارقة

في الجزائر هناك مثل شعبي يقول: "كلي قرا كلي ما قراش" أي من درس ومن لم يدرس كلاهما سيان، انتفض الدكتور البطال في حديث إلى "الترا جزائر" حملنا صفة "الدكاترة البطالين" لأكثر من أربع سنوات، وهي صفة صارت توزع على كل دكتور ناقش أطروحة الدكتوراه، وتوج بأعلى شهادة في الدراسات العليا، إذ يضاف كرقم لإحصائية تقدّر بـأزيد من ثلاثة آلاف دكتور بطّال عبر الجزائر، ومن مختلف التخصّصات العلمية والإنسانية والاجتماعية.

وأضاف قائلًا: "انتظرنا الفرج ووعود للتوظيف سواءً في الجامعات أو في المؤسسات الاقتصادية ضمن عقود الوظيف العمومي وانضمام الدكاترة لشوق الشغل عبر هذه البوابة، كما ذكر وزير التعليم العالي والبحث العلمي" لكن لا حياة لمن تنادي".

في هذه الأثناء، لم يحرّك بقية الحاضرين ساكنًا، فهناك من يرى في الشهادات العليا مجرد فترة ولا تفيد في عالم الشّغل المتحوّل كل يوم، حسب تصريح الشاب علواش (28 سنة) لـ"الترا جزائر" أنه من عائلة مكونة من ستة أفراد أغلبهم درسوا في الجامعات لكنهم لم يحصلوا بعد على وظيفة، بينما هو الوحيد الذي تعثّر في الحصول على الباكالوريا مرتين فاختار التجارة الحرّة، في الأسواق وفي مشاريع البناء وغيرها من الأعمال الموسمية واليومية أحيانًا.

يتحدث هذا الشاب من منطلق التجربة الحياتية في البيت، أن الشهادة العليا بالنسبة له توازي شهادة منحة البطالة، كان يتحدّث بمرارة  يتجرعها يوميًا في رحلة البحث عن عمل بشهادة عليا ولو عمل بأجرة لا تتواءم مع سنوات قضاها في التحصيل العلمي وعذاباته اليومية خلال أكثر من عقد من الزمن".

طريق مسدود

بين مسار التعليم العالي ووثيقة منحة البطالة، مسافة زمنية تفوق عشر سنوات، ما بين تحصيل شهادات الليسانس ثمّ الماستر ثم الدكتوراه، لتعود مشكلة الدكاترة البطالين للظهور مجددًا، وترجع معها معاناة شباب حلموا بالمناصب والدخول الحياة العملية بعد تحصيلهم الشهادات العليا، ليجدوا أنفسهم يلهثون لأجل وثيقة "منحة البطالة".

هي مفارقة كبرى، تقول إسمهان رحماني من منطقة عين السمارة بولاية قسنطينة لـ" الترا جزائر" إذ درست البيولوجيا في الجامعة وأتمّت دراساتها العليا لكنها لم تحصل على وظيفة، رغم أنها اشتغلت بعقود ما قبل التشغي، في عدد من المؤسّسات، لافتة إلى أن "الجامعة صارت حلمًا وشغفًا وليس لصناعة مستقبل".

توجهت رحماني إلى المهن الحرة تاركة خلفها تخصّصها في علم البيولوجيا الذي تحبه كثيرًا، لكنها وقعت في فخّ البطالة فقررت أن تجمع المال لتسافر إلى كندا وتكمل حلمها هناك، لكنها اليوم تشتغل في روضة للأطفال بأجر زهيد، معتبرة ذلك أقصى ما كانت تستبعده من ذهنها.

هو حلم الآلاف من الشباب الجزائري، فالجامعة تعادل تحصيل معرفي وعلمي تتوّج بعده بشهادات عليا، لكنه في المقابل من كلّ ذلك " عبارة عن انتقاص عمر والتهام حياة" حسب تعبير الباحث في سلك علم النفس بجامعة الجزائر وليد حراث لـ" الترا جزائر"، محمِّلا المسؤولية الكاملة للسلطات العليا للبلاد، معلقًا "هل يستوي الذي درس لسنوات طويلة والذي لم يدرس؟".

منحة البطالة في نظر الكثيرين نافذة يطلون بها على تأسيس مشاريع صغيرة

بالنسبة لمنحة البطالة، فهي في نظر الكثيرين نافذة يطلون بها على تأسيس مشاريع صغيرة، إذ بفضلها يمكن توفير المصروف اليومي لجميع المتوّجين بشهادة منحة البطالة، في المقابل لازال الحاصلون على الشهادات العليا وخاصّة الدكاترة يطالبون بحقهم في التوظيف، والتخطيط لتنظيم وقفات أمام وزارة التعليم العالي حتى يحصلون على حقّهم.