أبرز ما شاهدناه في حرب التصريحات الأخيرة، بين المرشّحين المحتملين للرئاسيات علي بن فليس وعبد المجيد تبون، هو محاولة كلّ واحدٍ منهما أن ينفي عن نفسه تهمة انتمائه لنظام بوتفليقة السابق، فالأوّل وصف ترشّح غريمه باستكمال مشروع العهدة الخامسة، والثاني قاله إنّه دفع وابنه الثمن غاليًا من النظام السابق، وكان يُشير إلى تورّط ابنه في قضيّة الكوكايين المعروفة إعلاميًا بقضية "البوشي".
بدخول بن فليس وتبون السباق الانتخابي بشكلٍ رسمي، بدأت تتّضح ملامح المعركة الانتخابية الساخنة
منذ أوّل انتخابات رئاسية في الجزائر عام 1995، وحتى آخر انتخابات رئاسية ملغاة كانت مقرّرة في نيسان/أفريل الماضي، كان للسلطة مرشّحها الذي تنتهي إليه التوافقات السياسية بين مجموعات النظام، والتي كان يطلق عليه إعلاميًا بـ "صنّاع الرئيس"، وقد بدا جليًا وقتها، من خلال تحليلات الفاعلين السياسيين، أن صانع الرئيس في الجزائر ليس شخصًا، بل هي مجموعة من الزّمر الحاكمة من وراء الستار في البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: حوار | علي بن فليس: حاصر الحراك الجزائري التصحر السياسي والمغامرة بمصير الدولة
قبل انتخابات 1995، كان اليامين زروال يشغل منصب وزير الدفاع سنة 1993، ثم رئيسًا للدولة في 30 أيّار/ماي 1994، بإجماع من المؤسّسة العسكرية، وبعدها تصدّر أوّل انتخابات تعدّدية تنظمها الجزائر، وتولّى رئاسة الجزائر من تشرين الثاني/نوفمبر 1995 إلى غاية 1999، وفي أربع انتخابات رئاسية متتالية، بين عامي 1999 و2014، كان للسلطة أيضًا مرشح واحد هو الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
حتى الانتخابات التي كانت مقرّرة في الرابع من نيسان/أفريل الماضي، كانت السلطة تُراهن على الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لكن دخول الحراك الشعبي على الخطّ واندلاع المظاهرات الحاشدة، أحبط تنظيم هذه الانتخابات، بعدما كانت الجزائر على مرمى حجر من إعادة ترشحّ الرئيس بوتفليقة لولاية خامسة، ونجح الحراك الشعبي في خلط أوراق السّلطة في اللحظات الأخيرة.
وجوه وتساؤلات
في الانتخابات المنتظر تنظيمها يوم 12 كانون الأوّل/ديسمبر من السنة الجارية، يُطرح سؤال بالغ الحساسية، يتعلّق باتجاهين: أوّلهما، هل تنوي السلطة الدفع بمرشّحٍ معيّن، في ظلّ تفكك داخلي وارتباكٍ واضح للأجهزة السياسية الموالية للنظام، والأحزاب المحورية، جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، ومن ثم؛ ما هي هويةّ هذا المرشّح وطبيعته، في ظلّ الحراك الشعبي المستمرّ منذ شبّاط/فيفري الماضي، الرافض علنًا لوجوه النظام السابق.
منذ أن أعلن رئيس الدولة عبد القادر بن صالح رسميًا عن موعد الانتخابات الرئاسية، أصبح هذا السّؤال أكثر حضورًا في المشهد الجزائري، يقول أستاذ العلوم السياسية عبد العالي حيرش، في تصريح لـ"الترا جزائر"، إذ اتسعت رقعة المتسائلين عن الشخصية التي ستدفع بها السلطة نحو الرئاسيات المقبلة، مع تزايد التسريبات في طرح أسماء عديدة تنال رضى السلطة الفعلية في الجزائر، لتمريرها إلى قصر المرادية بالجزائر العاصمة، حسب قوله.
بعد فترة من التوقّعات التي كانت تدفع بمجموعة من الأسماء إلى السياق الانتخابي، بات السؤال أكثر حضورًا اليوم بعد إقدام عبد المجيد تبون الذي كان قبل سنة ونصف رئيسًا لحكومة بوتفليقة حتى آب/أوت 2017، عن إعلان ترشّحه رسميًا للانتخابات الرئاسية المقبلة، تزامنًا مع ترسيم رئيس الحكومة الأسبق ورئيس حزب طلائع الحريات علي بن فليس لترشّحه أيضًا في مؤتمر صحفي، ثم إطلاقه لتصريحات مثيرة ضدّ منافسه تبون، وصف فيها ترشّح الأخير بأنه استمرار للعهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة، أو "خامسة بثوب آخر" كما قال.
بدخول بن فليس وتبون السباق الانتخابي بشكلٍ رسمي، بدأت تتّضح ملامح المعركة الانتخابية الساخنة، وتتشكّل الرؤى حول تركيبة المرشّحين في هذه الاستحقاقات.
خاض بن فليس الذي يمثل أحد المرشحين المقرّبين من دوائر النظام، استحقاقين رئاسيين في عام 2004 و2014، واجه فيهما الرئيس بوتفليقة وحلّ في المرتبة الثانية، لكنه قبل ذلك كان في عام 1999 مديرًا للحملة الانتخابية للرئيس بوتفليقة، ثم عيّنة الأخير مديرًا لديوان الرئاسة، ثم رئيسًا للحكومة في 2000، ثم أمينًا عامًا لحزب جبهة التحرير الوطني في بداية 2003، قبل أن يحدث شرخٌ في علاقتهما ويترشّح ضدّ بوتفليقة، لكنه ظلّ محسوبًا على جناح في النظام.
أمّا تبون، فيعتبر من أهمّ الشخصيات في فترة حكم الرئيس بوتفليقة، إذ تقلّد عدة مناصب أهمّها وزيرًا للإعلام في العام 2000، ثم السكن على فترتين ( 2001-2002) ثم (2013-2017)، وفي 4 حزيران/جوان 2017، عيّنه الرئيس بوتفليقة رئيسًا للحكومة خلفًا لعبد المالك سلال، غير أنه أقيل من منصبه في 16 آب/أوت 2017، على خلفية تصريحات وإجراءات خاضها ضدّ بعض رجال المال المقرّبين من بوتفليقة.
احتمالات أخرى
برغم تعهّدات نائب وزير الدفاع قائد الجيش الجزائري، الفريق أحمد قايد صالح بعدم تدخّل الجيش، وعدم وجود أيّة طموحات سياسية له في الانتخابات المقبلة، فإن قوى المعارضة والحراك الشعبي لم تطمئن لهذه التعهّدات، كما قال المحلّل السياسي عبد النور بخوش لـ"الترا جزائر".
يضيف المتحدّث، "أن الطرفان أي المعارضة والحراك الشعبي، يشكّكان في وجوه أحرقت كامل أوراقها في فترة حكم بوتفليقة"، موضّحًا أنه رغم ترشّح شخصيتين لهما وزن ثقيل في المشهد السياسي، مثل بن فليس وتبون، فإن هناك احتمالًا قويًّا أن تكون "السلطة بصدد البحث عن مرشّح ما، من جملة أسماء ومرشّحين آخرين، يمكن لها الاعتماد عليهم خاصّة وأنها ما زالت تبحث عن خياراتها".
إذا قرّرت السلطة فعليًا الدّفع بمرشحها إلى الرئاسيات، فثمّة سؤال آخر يطرح عن الطريقة التي تمكّنها من فعل ذلك، خاصة وأن الظروف السياسية وتصاعد الموقف الشعبي والقواعد الجديدة للعملية الانتخابية التي نقلت من يد وزارة الداخلية إلى سلطة مستقلّة عليا للانتخابات، لا تساعد على أي تدخل للسلطة في خدمة أي مرشّح، ناهيك عن أن أية محاولات للتزوير والتلاعب بالانتخابات الرئاسية المقبلة، تنطوي على مخاطر حادة، في اتجاه الردّ الشعبي.
في مقابل هذا المشهد، لم تحسم كثير من قوى المعارضة خيارها باتجاه المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة من عدمه، فعدى حركة "البناء الوطني" التي يقودها وزير السياحة السابق عبد القادر بن قرينة، والتي قدمت الأخير إلى السباق الانتخابي، فإن باقي القوى الأخرى كحركة مجتمع السلم وجبهة العدالة والتنمية، أرجأت اتخاذ قرارها النهائي إلى غاية انعقاد مجالس الشورى، في ظلّ وجود كتلة ثانية من قوى المعارضة، حسمت موقفها بمقاطعة الانتخابات كجبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية.
لم تكشف السلطة بعد عن كامل أوراقها فيما تعلق بالانتخابات الرئاسية المقبلة، خاصّة أنها منشغلة في الفترة السابقة بالجوانب التنظيمية
لم تكشف السلطة بعد عن كامل أوراقها فيما تعلق بالانتخابات الرئاسية المقبلة، خاصّة أنها منشغلة في الفترة السابقة بالجوانب التنظيمية والقوانين المتعلّقة بالانتخابات وإدارة الأزمة السياسية، لكن الأيّام القليلة المقبلة قد تفصح عن الخيار الذي تتجه إليه السلطة سواءً ظهور مرشح مركزي جديد، أو الاكتفاء بالمرشّحين الحاليين والاختيار في النهاية بينهما ضمن كتلة من الأسماء التي يتم قبول ملفاتها لتنشيط العملية الانتخابية.
اقرأ/ي أيضًا:
حرب تصريحات بين فليس وتبّون.. نيران صديقة؟
إفلاس الأحزاب السياسية.. موسم الهجرة إلى التنسيقيات