14-أغسطس-2023
 (الصورة: Getty)

بالنسبة لشخص طموح ومالت كفّة شغفه للقراءة وللبحث العلمي والتدرج في الجامعة الجزائرية، وكأيّ مواطن استفاد من مجانية التعليم وعرف دواليب الكليات والأقسام والأحياء الجامعية، يمكنه أن يستشعر معنى أن يصبح المنصب في الجامعة الجزائرية عبارة عن: "تسوية وضعية".

في الجامعة هناك كثير من القصص التي تبرز تحديات كثيرين في إتمام أطروحة الدكتوراه

وأنت تتسلق سلالم التدرج في المستوى الأكاديمي، ستضطر لربط الدراسة والبحث من أجل الحصول على منحة خارجية، ولكن بعد أن تحصل عليها، وتختار عدم الاجتهاد لإجراء بحثك، تجربة عاشها البعض ومرّت أمام أعين الكثيرين بل وتعودوا على سماعها مثل التعود على قهوة الصباح.

من هم الباحثون في الجامعات الجزائرية؟ من أين جاؤوا؟ وماذا يفعلون؟ ومع من يبحثون؟ وكيف يبحثون؟ وهل لديهم القدرة على التعبير عن الثغرات بين أسوار الجامعة الجزائرية، في وقت باتت لغة الكلام لا تسمن ولا تغني من جوع؟

قد نتحدث هنا عن وضعيات مختلفة، وهذا لا يمنع من أن هناك في المقابل حالات لباحثين مرموقين أحبوا الورق والقلم والقراءة والتعب والسهر والإنجاز، لكن كفتهم تتأرجح نحو الأسفل، بخفة عالية وبانسيابية في وقت كفة "تسوية الوضعية" تغلبت على مشاهد الجامعة ورجحت للأعلى.

لقد رفعت "تسوية الوضعية" في الجامعة راية المجد والفخر لكل من عرف كيف يتسلّل إلى بوابة الشّهادات العليا دون جلبة، لكنه بقبول كبير يفضل أن يُفرِّط في حق التفكير والتعبير وحرية الرأي، كقيم عالية لا يمكن أن نجدها سوى عندما يصدح صوت العقل والتفكير.

نعم، لقد فوّتوا على أنفسهم فرصة تعلم لغة الحجة وإبداء الفكرة داخل الجامعة، في مقابل حرم منها الآلاف بل الملايين، والسبب يعود إلى فكرة "تسوية وضعية"، فالشهادات والمناصب تستحق برأيهم أن يركنوا لزاوية السُّكوت، في حين صمت ضميرهم الذي كثيرًا ما يؤرقهم، لأن الصمت يتكلم بألف كلمة حتى وهم نائمون.

التخلي

هناك قصة يتداولها كثير من الأساتذة في جامعة جزائرية عن أستاذ كان يترنح بين البقاء في هيئة التدريس والتدرج في المناصب القيادية، أم يركن إلى محاضراته مرتين في الأسبوع والسكوت عن امتعاضه عن الطرق الممارسة في الموافقة على إجازة أطروحة الدكتوراه لتعرض على لجنة المناقشة، أو ملفات التأهيل، فكان منه أن يطلب إعفاء نهائيًا، بل وتحول إلى التدريس في الثانوية ومنه تفرغ  للدروس الخصوصية ودعم تلاميذ الباكالوريا؛ فيما يوصف اليوم بـ"مستودعات التدريس"، لكنه ينتشي لأن أجرته الشهرية تعادل أجرة الأستاذ الجامعي لمدة سنة كاملة.

عندما تتحدث لهؤلاء، يقولون لك "نبحث عن تسوية وضعية للتقدم للوظيفة"، إنجاز الدكتوراه بعد انقضاء آجالها، في نظرهم عبء ثقيل وجب التخلص منه ولو بطريقة: "قص ولصق" أو بلغة: "أكمل فقط"، فالجميع يعرف الجميع وكل أستاذ يعرف كيف يجلب الحظ لنفسه في نهاية مناقشة والحيازة على تهنئة خالصة من اللجنة.

هناك قصة مثيرة لخصها أحدهم بأنها "حلم تحول لكابوس"، فبعد حصوله على منحة بحثية إلى تركيا،رافقته في الرحلة على مدار تلك المدة لـ 11 شهرا زوجته، فاختيار تلك الوجهة كان يستهدف العثور على جو دراسي يمكنه من إتمام أطروحة الدكتوراه التي تعطله من التدرج في السلم الوظيفي، لكنه التقى هناك بإغراءات السياحية وغيرها من المحلات الساحبة بامتياز، فاقتصر وقته بين تلبية الإجابات على فضول اكتشاف المدن، وإرضاء رغبة الشراء التي تغدق بها مختلف تخفيضات المحلات وتحفّز هرمون الاستهلاك وإشباع حاجة النفس.

المثير في الموضوع، أن مهلة المنحة انتهت، وتبخرت الأحلام دون كتابة فصل واحد من فصول الأطروحة، فرجع من تركيا بوثيقة موقعة من بعض الجامعات التي زراها ونسخة من جواز السفر لإثبات خروجه وعودته بحسب التوقيت المحدد له سلفا من الجامعة، وفور وصوله للجزائر ظل يخبر معارفه وأقاربه أنه عاد من تركيا محملا بالهدايا في حين بقي لأيام طويلة يستجدي بعض زملاءه بأن يوقظوه من رحلة السبات العميق ورجوعه دون إنهاء المشوار.. لكنه اقنع نفسه بـ "حلّ سحري" أن يكملها بأي طريقة كانت..

من زاوية أخرى..

في الجامعة هناك كثير من القصص التي تبرز تحديات كثيرين في إتمام أطروحة الدكتوراه، وإصرار البعض على تنحية هذه الشهادة من طريقهم للاستمرار في البحث العلمي والتفرغ له أيضًا، ولو على حسابهم الشخصي ودون الحصول على منحة من الجامعة، ولكنه في مؤخّرة ركب قوائم الفائزين بالتأهيل الجامعي ثم درجة الأستاذية، فالرحلة ليست سهلة وشاقة وتحتاج إلى صبر وقوة.

هذه قصة زوجين من ولاية جيجل ( أتحفظ على ذكر الأسماء والتخصصات)، كانت لهما تجربة أكاديمية لمدة طويلة بين المخابر الطبية في عدد من الدول، لإنجاز أطروحتهما، مرت السنوات بين الجامعة والمشاغل الاجتماعية، لكن لم تنته الأطروحة إلا بعد عشرة أعوام كاملة، لقد قررا مغادرة الجزائر لمدة سنة واحدة نحو بلد عربي وتأجير مسكن بسيط لا يكلف الكثير، والانكباب على البحث العلمي من الصباح الباكر إلى الثامنة ليلًا، روتين يومي طيلة 12 شهرًا حتى خلال شهر رمضان والأعياد، لكنهما في الأخير عادا للجزائر وهما محملان بأطروحتين لا تزيد عدد وريقات الواحدة منها المائة وخمسين صفحة، وقليل من الهدايا والكثير من الكتب.

المثير في القصة أنهما نسيا كتابة "الإهداء" و"الشكر" اللذان يتصدران أي أطروحة علمية، وفي آخر لحظة تم تسليم النسخ الأولى من دونهما، فلعل المنجز في حدّ ذاته لا يمكن إهداءه لأحد سوى لصاحبه.

نقطة ضوء

في مثل هذه الظروف لا يعدو أن يكون للموضوع نهاية، سوى طرح حالات يتداولها العارفون بدواليب الجامعة: "تسوية وضعية" أصبحت لغة شائعة بين الأساتذة، لكنها أثمرت عدة أساليب للتمكن من الوصول إلى خط النهاية، أهمها التخندق بين مجموعات تعتبر السّند يتكئ عليه كل أستاذ اختار طوعًا الانضمام إلى واحدة منها، فلا أحد منهم ينكر  هذا،  بل هو في نظرهم أمر مفروغ منه إن أراد أحدهم تسوية ملفه دون ضوضاء أو جلبة، وسعيد الحظ هو من يستطيع أن يميل إلى الكفة الأقوى والبارزة في مكاتب الإدارة والتسيير، حتى وإن تعدى حقوق الآخرين، مادام الأمر في صالحه.

هناك قصة يتداولها كثير من الأساتذة في جامعة جزائرية عن أستاذ كان يترنح بين البقاء في هيئة التدريس والتدرج في المناصب القيادية، أم يركن إلى محاضراته مرتين في الأسبوع والسكوت عن امتعاضه عن الطرق الممارسة في الموافقة على إجازة أطروحة الدكتوراه

الاستثناءات كثيرة، وتسطع مثل الضوء في آخر النفق، هناك من اجتهد وتدرّج في المؤسسات الأكاديمية، لكن عندما تتناقش معهم حول الموضوع يردون: "انحني للعاصفة حتى تقضي مصلحتك"، إنهم أفراد عرفوا من أين تؤكل الكتف، لكنني أغبطهم على طرق تعاملهم مع البحث العلمي في جو سلس وهادئ ويجلب المنفعة، حتى وإن كان على حساب حقوق الآخرين، إذ ستظهر لهم تلك الحقوق المهضومة في كل مكان وبأشكال وصور متعددة ومختلفة، داخل الجامعة وخارجها، في الشارع في الأسواق وفي المستشفى وفي الإدارات العمومية، بل وستضطرهم إلى الانحِناء في كلّ مرة.