03-مايو-2022

في شوارع الجزائر العاصمة (تصوير: بلال بن سالم/أ.ف.ب)

يردّد قطاع واسع من الجزائريّين عبارة "نشربو الما"، خلال أيّام شهر رمضان، كنايةً عن الإفطار بعد انقضائه، كلّما وجدوا أنفسهم أمام موعد أو التزام أو شغل؛ فيُؤجّلوه إلى ما بعد العيد، حتّى إذا جاء هذا الأخير استعملوا عبارة "ساهل الحال" التّي تدلّ هي الأخرى على التّأجيل والتّسويف. 

إذا حدث أن أنجز لك مهنيّ ما شغلًا وبقي منه شطر قبل رمضان، فسيقول لك إنّه سيتمّه لك بعد أن يشرب الماء

وليس الأمر مقتصرًا على الأفراد، بل يشمل الإدارات أيضًا. إذ ليس مستبعدًا أن يسمع مواطن من إدارة قصدها مضطرًّا لقضاء حاجة مستعجلة في رمضان عبارة "حتّى نشربو الماء" أو عبارة "ساهل الحال" إذا قصدها بُعيد العيد، بما يعطّل مصالحه أو يُهدّد حياته. 

فقد قال سكّان الحيّ الذّي تعرّض لانفجار الغاز في مدينة برج بوعريريج، خلال رمضان الماضي، كما هو متداول في مواقع التّواصل الاجتماعيّ، مخلّفًا تسعة عشر إصابةً بين قتيل وجريح، إنّهم قصدوا إدارة الغاز وأبلغوها بالتّسرّب، فأرسلت أعوانًا لها عاينوا الوضع الذّي تعاملوا معه بترميم مرتجل، ثمّ قالوا "نشربو الما ونُصلح الأمر".

 

دخلت عند واحد الإدارة نفري في شغل قالي خلي نشربو الما مور العيد ساهل ! صاكومونص!

Posted by Sofiane Belabbas on Monday, April 12, 2021

يقول النّاشط والجامعي بوعلام بحري إنّ العبارتين اللّتين وصفهما بالمشؤومتين تستعملان عادةً في ما يتعلّق بالدَّين، "ستسمعهما إذا قصدت شخصًا لك عليه دَين، فكأنّ أيّام رمضان والأيّام التّي تلي عيد الفطر ليست صالحةً لقضاء الدّيون"؛ وفي ما يتعلّق بالأشغال؛ "إذا حدث أن أنجز لك مهنيّ ما شغلًا وبقي منه شطر قبل رمضان، فسيقول لك إنّه سيتمّه لك بعد أن يشرب الماء؛ فكأنّ ثلاثين يومًا التّي تشكّل الشّهر ليست صالحةً لإنجاز الأشغال!". 

وينبّه محدّث "الترا جزائر" إلى أنّ الجزائريّين في عمومهم تشرّبوا ثقافة التّأجيل والتّسويف في رمضان وما بعده بقليل، حتّى تقبّلوها وباتوا يعذرون أصحابها. يكفي أن يسمعوا "العبارتين المشؤومتين"، حتّى يخضعوا لهما، وينصرفوا مردّدين عبارة "ربّي ورحمتو".

إنّ تقبّل الجزائريّ لأعذار المعتذرين، حسب النّفسانيّ بوحجر بودشيش تأتّى من تقديسه لشعيرة الصّيام نفسها؛ "فهو يعتقد أنّه ليس على الصّائم حرج، ومن احترام الشّهر الكريم ألّا يضغط على النّاس، خاصةً إذا تعلّق الأمر بالدّبون، وهو بهذا مؤشّر على فهم محدود للدِّين لدى البعض، واستغلال باسم الدِّين لدى آخرين". 

 

صباحكم بالخير راهي بدات يفوت رمظان ويرحمهة ربي ولى ساهل ساهل نشربو الما ونهدرو حنا رمظان نتاعنا فيه ثلاثة اشهر وانتا افهمها كي بغيت هههههههههه

Posted by Nadjib Patron on Thursday, March 10, 2022

لو فعل رمضان بصفته مناسبةً سنويّة ربّانيّة للتّطهير، يقول محدّث "الترا جزائر"، فعلتَه الإيجابيّة في النّفوس لكان العكس هو الحاصل. أن يكون فرصةً لقضاء الحاجات وإنجاز الأشغال. فما الذّي حدث حتّى انتقل الجزائريّ من عبارة كان يردّدها الأجداد هي "يجي سيدنا رمضان وساهل" أي أنّ رمضان كان لديهم شهرَ عمل، إلى عبارة "حتّى نشربوا الما" التّي تعني أنّه بات شهرَ كسل؟

نقلنا السّؤال إلى الباحث في علم الاجتماع الثّقافيّ محمّد بن زيّان؛ فقال إنّ تحوّلاتٍ كثيرةً حصلت في السّياق الجزائريّ نفسيًّا وذهنيًّا وفكريًّا، خلقت فروقًا بين سلوك الجزائريّ قديمًا وبينه حديثًا، منها الفرق في فهم الدّين والتديّن؛ "ففي الوقت الذّي كان فيه رمضان، مثلًا، فرصةً لمضاعفة العمل، حتّى أنّ بعضهم كان ينجز فيه بيتًا أو يسافر أو يحجّ من غير أن يفطر، بات فرصة لتأجيل الأعمال والمهمّات، ذلك أن المفهوم الذّي أمسى سائدًا للصّوم هو الكفّ عن الأكل؛ وبما أنّ الأكل مقطوع؛ فعلى العمل أن يكون أيضًا مقطوعًا". 

 

قالولكم نشربو الما ويرحمها ربي

Posted by Export or import from Algeria to all countries on Thursday, April 28, 2022

لقد سادت في السّنوات الأخيرة شكلانيّة خطيرة للتديّن في الوسط الجزائريّ، يواصل محدّث "الترا جزائر"، فبات سائدًا مراقبة من يفطر في رمضان، عوضًا عن مراقبة من لم يجد ما يأكل! واستفحل الحماس لبناء المساجد، عوضًا عن استفحال الحماس لتطبيق روح الصّلاة في الواقع، وبات النّاس يتنافسون على اكتساب لقب "الحاجّ" عوضًا عن التّنافس في تحقيق معاني ومقاصد الحجّ في تعاملاتهم، حتّى أنّنا انتبهنا إلى أنّ معظم من دخلوا السّجن بتهمة الفساد المالي يحملون لقب الحاجّ!". 

ويرجع محمّد بن زيان هذه الشّكلانيّة في التّديّن على حساب جوهر الدّين الذّي أدركه الأجداد وعملوا به، إلى جملة من العوامل الموضوعيّة منها افتقار المنظومة الوطنيّة إلى برنامج حضاريّ يستثمر في الإنسان، والخلخلة التّي وقعت في مفهوم الهوّيّة الدّينيّة والفقهيّة للجزائريّين، خلال العقود الأخيرة، "حيث تمّ التّساهل مع قدوم تيّارات فقهيّة ومذهبيّة من خارج البلاد، فعملت على تفكيك وتبديع معالم الفقه والتّديّن الجزائريّين، وراحت تكرّس ثقافة التّبديع والتّحريم، خاصّةً فيما يتعلّق بالعادات والتّقاليد التّي أقرّتها الهوّيّة الفقهيّة الوطنيّة المتجذّرة تاريخيًّا، من خلال الاستحسان الذّي هو مصدر من مصادر التّسريع لدى المالكيّة". 

ويُعطي بن زيّان مثالًا على ذلك، الجدل الذّي يدور هذه الأيّام حول طبيعة زكاة الفطر؛ هل تكون طعامًا أم نقودًا؛ "فقد تعوّد الجزائريّون بإشراف من فقهائهم وعلمائهم على أن يدفعوها نقدًا انسجامًا مع المقصد منها؛ فإذا بهم يجدون أنفسهم أمام من يقول لهم إنّهم مطالبون بدفعها طعامًا انسجامًا مع بعض النّصّوص الموروثة عن بيئة نبويّة شريفة كان إخراج زكاة الفطر فيها طعامًا أنفعَ للفقراء من دفعها نقدًا".

منظوماتٍ كثيرةً معنيّةً بإصلاح التّفكير والسّلوك العامّين، مثل المنظومة المسجديّة والمنظومة التّربويّة والجامعيّة والمنظومة الثّقافيّة والمنظومة الإعلاميّة

إنّ منظوماتٍ كثيرةً معنيّةً بإصلاح التّفكير والسّلوك العامّين، مثل المنظومة المسجديّة والمنظومة التّربويّة والجامعيّة والمنظومة الثّقافيّة والمنظومة الإعلاميّة، مطالبةٌ بترك الاستقالة المعنويّة من أداء مهامّها؛ وإطلاق برامج مدروسة وواعية لإعادة المجتمع إلى سكّة التّفكير السّيلم، قبل مزيد من الخلخلخة في القيم والمفاهيم، فتحدث انهيارات سلوكيّة هي أخطر على الأمن الاجتماعيّ العامّ من الغزو العسكريّ الأجنبيّ.