17-سبتمبر-2020

اعتصام فنانين جزائريين أمام وزارة الثقافة (تصوير: رياض كرامدي/أ.ف.ب)

توفي الفنان المسرحي موسى لكروت مطلع الشهر الماضي، في حادثة أربكت الوسط الفني والثقافي، حيث أنقذ بكُلِّ بطولةٍ طفلتين من الغرق في أحد شواطئ الغرب الجزائري، ليستسلم جسده متعبًا غَرَقًا في البحر.

لا يكون غضب الفنّان على الفن في حدّ ذاته فهو عالمه الخاص الذي يحيا فيه بعيدًا عن أذية الواقع

رحيلُ هذا الشاب كان صادمًا بحقٍّ لِكُلِّ مقرّبيه الذين غلبتهم الدهشة والحيرة، فاجعةٌ بقدر ما كانت صادمة، إلاّ أنها أثارت من جديد عدة تساؤلات كانت تدور في خلد الكثيرين منذ فترة، إذ أنَّ الأوضاع المادية المزرية جراء البطالة التي كان يعاني منها موسى لكروت في الفترة الأخيرة قد أرهقته نفسيًا، وبدا ذلك جليًا من خلال تصريحات الأصدقاء والمقربين الذين عاشروه في أيّامه الأخيرة، إضافة إلى تعليق لشقيقة الفقيد على أحد منشورات أصدقائه، تقول فيه إن أخاها لم يتسلم حقوقه، وأن حالته النفسية كانت سيّئة جدًا لوضعه ذاك، كما أنه رحل "غاضبًا على الفن".

اقرأ/ي أيضًا: رحيل الفنان المسرحي موسى لكروت

في الحقيقة، لا يكون غضب الفنّان على الفنّ في حد ذاته، فهو عالمه الخاص الذي يحيا فيه بعيدًا عن أذيّة الواقع، كما أنه بمثابة طوق نجاة من البلادة والروتين الذي يقتل البشر، لكن الغضب والنقمة يكونان على المُمسكين بخناقِ الفنّ.

يحضرني قول الشاعر أنسي الحاج: "واحدةٌ من أهميات الفنّ هي أنَّه يذكّر الجسد بأنه مخلوق للمتعة لا للكدح"، مع هذا، تدفع الظروف القاهرة بمثل المرحوم موسى إلى الكدح لكي يمنح المتعة للجمهور ولو على حساب ذاته، ثم يرحل في صمت وتطوى مع رحيله ملفات هذا العوز الروحي للكرامة.

لا يختلف وضع موسى "الموهوب جدًا" بشهادة زملائه الذين فُجعوا برحيله، عن الكثير من الفنانين بأوضاعهم الحالية وما مضى منها، إذ لم تبشر يومًا أحوالهم بوجود خير لتسوية أوضاع الفنان في الجزائر.

لعل هذه الفظائع التي تُلِمُّ بالفنانين من وقت لآخر قد تأتي دائمًا لتحيل أنظارنا نحو الأمور بشكل مُعمَّق، لكنها مع الأسف لا تدفع إلى الانتفاضة بالشكل الكافي لتُطرح حلول ناجعة، قد تأتي بها في المقام الأول تلك الجهات المسؤولة التي لم تمنح إلى حد الساعة سوى جرعات مُسَكِّنة لا تُنسي الفنان جرحه الحقيقي، الذي عليه أن يُداوى بشكل عميق، ولا تبترُ العضو الفاسد جذريًا من جسد الثقافة في هذا البلد.

يشتكي الفنانون الجزائريون إذن من أوضاعهم المزرية هذه منذ سنوات، ولعل الأحوال صارت الآن أكثر كارثيةً وحساسية، مع تواصل فترات الحجر التي جاءت عقِبَ انتشار فيروس كورونا، إذ تسبب الوباء في تأجيل وتعطيل كل النشاطات الثقافية والفنية من مسرحيات وحفلات ومهرجانات، حتى أن العروض الافتراضية لم تأتِ لهم بمقابل مادي، مما أحال أغلب الفنانين الذين يعتمدون بشكل تام على الفن كمصدر رزق إلى البطالة والعوز.

 كما أن البعض منهم قد تفاقمت أحواله المادية، اضطر للشكوى وطلب بعض المؤونة والأدوية والمساعدة المادية بشكل مباشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لسد حاجاته البسيطة اليومية، فهل هذا هو الحال الذي نبتغيه لفناني البلد والعابئين بثقافته؟

في المقابل، يتردد حديث منذ فترة أيضًا وبشكلٍ دوري، عن المنح المادية التي خصصتها وزارة الثقافة والفنون، والديوان الوطني لحقوق المؤلف، إلا أن الاستفادة من هذه "المساعدات"، التي هي في الحقيقة جزءٌ بسيطٌ من حقّ الفنان على الدولة، غالبًا ما تكون معقدة ومبهمة، يتم الحديث عنها بين فترات متقطعة، وكأنما تحاول الجهات الرسمية مَدَّ مصلِ آلامٍ مؤقت في عروق هؤلاء الفنانين، ليتناسوا مآسيهم وظروفهم الصّعبة بإجراءات ليست متاحة ليطلع عليها الجميع.

 قد تصل "هِبَاتُ الوزارة" هذه إلى البعض وقد لا يستفيد منها الأغلبية، تارة لغياب الإعلام والتوجيه، وتار لكبريائهم وتعفّفهم عن فتات الثقافة، وفي كثير من الأحيان لجهل الكثير من الفنانين بما يتوجّب عليهم القيام به نظرًا لنقص المتابعة الرسمية لأوضاع الفنانين، واعتماد مبادرات وزارة الثقافة بشكل أساسيٍّ على انتقاء الحالات بشكل عشوائي واعتباطي، من خلال منشوراتِ مواقع التواصل المستغيثة من حين لآخر، لتدعو الجميع أخيرًا للاستفادة من هذه المبالغ التعويضية الزهيدة التي بدت إلى حد الساعة رمزيةً، ولا تفي تكاليف شهر أو أقل من المعيشة المتدنية.

من جهة أخرى، تقف فئة مختلفة من الفنانين في زاوية ضيقة، صامدة أمام مغريات السلطة ممثلة بوزارة ثقافتها، إذ يرفض أفرادها التعامل مع كل ما يمثل هذه القطاعات الرسمية التي لا يعترفون بها كونهم خرجوا منذ أكثر من سنة في حراك شعبي ضد الظلم وطلبًا للحرّية.

 تدفعهم الرغبة في القضاء على كلّ أوجه الظلم الذي عانت منه شتى قطاعات الحكومة لسنوات طويلة، ويعتبر هؤلاء أن قبول أي إعانة أو مبلغ ما من هذه الحكومة، يعد خيانة للمبادئ التي تمسكوا بها  منذ مدة وما زالوا يرابطون تحت جناحها، رغم كل التهميش المنهج الذي يتعرضون له منذ فترة، لكن ومع تغير موازين القوى وتراجع الحراك الشعبي عن الشارع تلبيةً لقواعد الحجر الصحي، صار النضال لدى هؤلاء مقتصرًا على مواقع  التواصل الاجتماعي، وانحسر نشاطهم الفني، كما عزف عنهم المنتجون والمخرجون والمتعاونون الفنيون لأن حضورهم في أي عمل فني قد يجلب المتاعب وقد لا يحظى بالدعم الرسمي.

من هنا، يبقى الفنان في الجزائر حبيس خياراته وحرياته الأيديولوجية والسياسية، وقد يضطر في أغلب الأحيان إلى الرضوخ لما يعارض مبادئه فقط ليتمكن من إعالة نفسه وذويه، فكيف يمكن لهذا العضو الفاعل والمؤثر في التركيبة المجتمعية أن يتمتع باستقلاليته المادية وبحقوقه كاملة دون التعرض إلى شتى أنواع الضغوطات، إضافة إلى قيود العوز التي تؤثّر سلبًا على خياراته الفنية وتنزل به نحو الحضيض.

هل سنشهد يومًا ما ثورة ضد قطاع كامل "كارهٍ للفن"؟

هل سنشهد يومًا ما ثورة ضد قطاع كامل "كارهٍ للفن" لتُحفظ كرامة هذه الفئة التي تحمل على عاتقها الوعي الفني في هذا البلد؟  هل سنرى من كسرتهم الحياة وهم ينتفضون بغية إنقاذ هذا الوعي من مخالب البلادة والموت البطيء؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الترا جزائر" تقف على تفاصيل انتحار الممثّل هيثم حساسني

حوار | صبرينة قريشي: هزيمة الوطن حضاريًا هي هزيمة نكراء لفنّانيه