30-نوفمبر-2023
تبون

(الصورة: Getty)

أنهت اللجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ اجتماعها، الذي عُقد الأربعاء والخميس الماضيين، بقسنطينة، شرق الجزائر، دون الكشف عن تفاصيل رسمية حول ما توصلت إليه بشأن مناقشة الملف الذي تظل معالجته الحجر الأساس في تعزيز العلاقات بين البلدين، التي ظلت تمر بفترات توتر، جراء عدم امتلاك باريس الشجاعة للاعتراف والاعتذار والتعويض عن جرائمها الغاشمة خلال فترة احتلالها الجزائر.

الباحث في التاريخ المعاصر بجامعة الوادي لـ"الترا جزائر": الطرف الجزائري مطالب في مفاوضاته بتوخي الحيطة والحذر لتجنّب المغالطات التي قد يلجأ إليها الطرف الفرنسي لإخفاء حقائق استعمارية إجرامية

وتعمل اللجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ التي تم الاتفاق على تأسيسها خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر في آب/أوت 2022 إلى الجزائر على التوصل إلى كتابة "مشتركة وصريحة" للماضي الاستعماري الفرنسي بالجزائر، وهو الهدف الذي لا يوافق عليه البعض بالنظر إلى أن غايات الطرفين من هذه الكتابة مختلفة النيات والغايات، الأمر الذي يبقي عملها على المحك حول مدى التزام السلطات في البلدين بما سيتخرج به هذه الاجتماعات.

تكتم مُتواصل

لم يختلف ثالث اجتماع للجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ الذي عقد لأوّل مرة، حضوريًا، في الجزائر بعد لقائين سابقين أحدهما بباريس وآخر عن بُعد، حيث اتفق الطرفان على عدم إصدار بيان رسمي بشأن ما جرى في اجتماع قسنطينة، مع عقد اجتماعات لاحقة تنظر في الملفات العالقة، وفق ما ذكر مصدر لـ"الترا جزائر".

وبعد أسبوع من الاجتماع، نشر التلفزيون الجزائري العمومي بعض ما تم مناقشته بين الطرفين، حيث أشار إلى أن أعضاء اللجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ، اتفقوا على إجراءات عديدة من بينها استرجاع ممتلكات الأمير عبد القادر وإنجاز "كرونولوجيا الجرائم الاستعمارية" خلال القرن التاسع عشر.

وفي باب "الممتلكات المنهوبة"، اتفق أعضاء اللجنة على "استرجاع كل الممتلكات التي ترمز إلى سيادة الدولة الخاصة بالأمير عبد القادر وقادة المقاومة والجماجم المتبقية ومواصلة التعرف على الرفات التي تعود إلى القرن 19".

واستلمت الجزائر في 2020 من فرنسا رفات 24 مقاوًما استشهدوا في بداية الاستعمار الفرنسي للجزائر الذي استمر 132 عامًا بين 1830 و1962، غير أن ما تم استلامه لا يمثل سوى جزءًا بسيطًا من هذه الجماجم التي تعد أحد الأدلة التي تدين جرائم الاحتلال الفرنسي.

وفي ملف الأرشيف، أكد المصدر أنه "تم الاتفاق على تسليم مليوني وثيقة مرقمنة خاصة بالفترة الاستعمارية"، بالإضافة إلى "29 لفة و13 سجلًا ما يشكل 5 متر طولي من الأرشيف المتبقي الخاص بالفترة العثمانية" أي من بداية القرن السادس عشر حتى الاستعمار الفرنسي.

مصدر خاص لـ"الترا جزائر": أعضاء اللجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ اتفقوا على عدم إصدار بيان رسمي بشأن ما جرى في اجتماع قسنطينة

واتفق أعضاء اللجنة أيضًا على "مواصلة إنجاز بيبليوغرافيا مشتركة للأبحاث والمصادر المطبوعة والمخطوطة عن القرن 19" و"تنفيذ برنامج تبادل وتعاون علمي يشمل بعثات طلابية وبحثية جزائرية إلى فرنسا وفرنسية إلى الجزائر للاطلاع على الأرشيف".

لكن منذ بدء الاجتماعات لم يصدر أي تصريح تفصيلي من أعضاء اللجنة سواء الجزائريين أو الفرنسيين، إضافة إلى أنه لم يتم الحديث عن أجندة على تنفيذ ما تم الاتفاق عليه.

وتضم اللجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ من الجانب الجزائري خمسة مؤرخين هم: لحسن زغيدي ومحمد القورصو وجمال يحياوي وعبد العزيز فيلالي وإيدير حاشي.

أما الجانب الفرنسي فيتكون من بنجامان ستورا، وفلورانس أودوفيتز وجاك فريمو وجان جاك جوردي وترامور كيمونور.

مهمة صعبة

رغم التقدم المحقق في عمل اللجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ، خلال اجتماع قسنطينة، إلا أن الباحث في التاريخ المعاصر الزبير بن بريدي أوضح في حديثه لـ"الترا جزائر" أن "نجاح اللجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ في المهمّة المكلّفة بها، يظل أمرًا صعبًا."

متابعًا: "غير أنّ هناك عدّة شروط لو تحقّقت قد يكون ذلك بداية لنجاح عملها، وفي مقدمتها اعتراف فرنسا الرّسمي بجرائمها في الجزائر، وتقديم الاعتذار والتعويضات العادلة، والتزامها بما خرج به الطرفان حول الملف في اجتماعاتهما."

ووفق بن بريدي فإنّ "الطرف الجزائري أوضح شروطه ومبادئه وعلى رأسها استعادة الأرشيف، واسترجاع الممتلكات ورُفات وجماجم المقاومين الجزائريين إبّان الثورات الشعبية، وكذا ملف التّجارب النووية والمفقودين. والملاحظ أنّ الطرف الفرنسي مازال لحدِّ الساعة يُناور، ولم يُعلن صراحة نيّته الالتزام بكامل الملفات التي تمّ التطرّق إليها أثناء الاجتماعات السابقة."

ويعتقد الباحث في التاريخ المعاصر أنه من أساسيات نجاح اللجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ في مهمتها هو "تفادي مُحاصرة عملها بضوابط أو أهداف سياسية، وتركها تشتغل وفق معايير أكاديمية ومنهجية وعلمية تاريخية بحتة، إضافة إلى ضرورة تمتّع اللّجنة بصلاحيات كاملة واستقلالية حتى لا تفقد بريقها، والسؤال الذي يَطرح هنا هل ستكون اقتراحاتها إلزامية أم لا".

ذاكرة مشتركة؟

رغم مضي اللجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ في اجتماعاتها الدورية، إلّا أن وجودها بالأصل يظل يطرح الكثير من التساؤلات والجدل، بالنظر إلى الاتفاق على العمل سويًا كتابة الأحدث التاريخية سيوصل في النهاية إلى كتابة "ذاكرة مشتركة"، وهو ما لا يوافق عليه كثير من الجزائريين، بالنظر إلى أن ذلك قد يساوي بين الجلاد والضحية، وبالخصوص أن الطرف الفرنسي محترفي التنصل من التزاماته وعدم الوفاء بتعهداته.

وقال الباحث في التاريخ المعاصر بجامعة الوادي، الزبير بن بردي، لـ"الترا جزائر" إنّه "لا يمكن كتابة تاريخ وذاكرة مشتركة بقراءة موضوعية وصادقة بين المتآمر والمتآمر عليه، قبل أن يعترف ويعتذر الأول وبشكل رسمي على جرائمه الشّنيعة المتعدّدة الألوان والأشكال، التي ارتكبها في حقّ الشعب الجزائري طيلة 132 سنة من تواجده بالجزائر، بعيدًا تمامًا عن كلّ محاولة تبرير أو تجاوز أو استسهال، إضافة إلى تقديمه التعويضات اللّازمة والعادلة في حقّها، وتجريم الاحتلال الفرنسي في حدِّ ذاته".

لكن هذا المطلب يرفضه الطرف الفرنسي وفي مقدمته الرئيس إيمانويل ماكرون الذي كرّر في مرات عدة أن معالجة ملف الذاكرة مع الجزائر يكون بعيدًا عن مطلب "التوبة" عن الماضي الذي يرى أنه لا يمكن فيه تحميل الجيل الجديد في بلاده انشغالا ليس مسؤولًا عنه.

وقال ماكرون خلال زيارته إلى الجزائر "أحيانا يكون هناك شجار ليكون هناك تصالح، علينا النظر وجها لوجه فيما يتعلق بمسائل الذاكرة".

وتابع: "(فيما يتعلق بالذاكرة) دائمًا يفرض علينا الخيار، إمّا الاعتزاز أو التوبة، أنا أريد الحقيقة والإقرار، وإلا لن نتقدم أبدًا"، مضيفًا "أنا لست طفلًا ولست ابنا من أبناء هذه الحرب، ولكن لا فرنسا ولا الجزائر يستطيعان التقدم بهذه الطريقة، لأن تاريخانا مرتبطان".

وعنى ماكرون بكلامه أنه يرفض الاستجابة لطلب الاعتذار والاعتراف التي تطالب به الجزائر، وكذا تمجيد الاستعمار الذي يتبناه الفرنسيون، لكن في حقيقة الأمر يظل إلى اليوم يدعم النظرة المتبعة في بلاده، فهو إلى اليوم لم يلغ قانون تمجيد الاستعمار الصادر في فبراير 2005، إضافة إلى تكريمه المستمر للحركى.

أما بن بردي فيرى أن "البحث عن أيّ مخرج بعيدًا عن ثلاثية "الاعتراف، الاعتذار، التعويض"، سيكون بحثًا غير ذي جدوى، وأكيد أنّ هذا المخرج لا تُحدّده يقظة ضمير، ولا ميول أخلاقية مثالية طارئة؛ لكن تفرضه موازين قوى سياسية واقتصادية ومعرفية؛ تجعل المُجرم مُجبرًا على الإقرار بجرمه، ومن ثمّة الاستعداد الكامل لتسديد ثمن الجرم بكل أشكاله".

لكن قبول باريس بتنفيذ ثلاثية "الاعتراف، الاعتذار، التعويض" يحتم عليها التنازل عن فكرة "الجزائر فرنسية" التي ما تزال تسيطر إلى اليوم على بعض صانعي القرار هناك، وهو الحال الذي لن يتحقق إلا "باستخدام الجزائر لمبدأ التفاوض من باب قُوّة، وعدم التسامح في المظالم، واستخدامها أيضًا لأوراق الضغط السياسية والاقتصادية، حتى تًجبر فرنسا على تقديم تنازلات، والإقرار بجرمها دون تزييف للوقائع والحقائق، ومن ثمّة الاستعداد الكامل لتسديد ثمن الجرم بكلّ أشكاله، خاصّةً وهي في السنوات الأخيرة تعيش حالة انهيار اقتصادي وتراجع لمكانتها السياسية خاصة على مستوى قارة إفريقيا، فقد يكون ذلك دافعًا لها اليوم لتقديم تنازلات في هذا الملف، مقابل كسب مصالح اقتصادية وسياسية".

وبالنسبة لبن بريد، تظل كتابة معالجة وكتابة جميع القضايا المتعلقة بفترة الاحتلال الفرنسي للجزائر، مبادرة محفوفة بالكثير من المخاطر، تستدعي إنجاز بحوث مُفصّلة ودقيقة بمحاور عدّة، وعدم إهمال أيّ ملف، لكشف كلّ الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها فرنسا، وهو ما يتطلب من الطرف الجزائري في مفاوضاته توخي الحيطة والحذر لتجنّب المغالطات التي قد يلجأ إليها الطرف الفرنسي لإخفاء هذه الحقائق، لذا يجب أن يكون عمل اللجنة المشتركة الجزائرية-الفرنسية للتاريخ تاريخيًا محضًا، يحترم شروط البحث العلمي بمنح كل الأرشيف، الذي يبقى الوسيلة الوحيدة لكشف جرائم الاحتلال.