إنّ هذا الحراك ليس أغنية موسميّة يغنّيها الجميع ثمّ ينسونها. بل هو نشيد وطنيّ يردّده الجميع ويورّثونه، وكلّ محاولة لجعل حافظيه ينسونه تبوءُ بفشل الفاعل وإهانته في الوقت نفسه.
فشلت المنظومة الحاكمة في جعل الشّعب يتراجع عن حراكه، رغم أنّها اعتمدت على التّخويف والتّرغيب
قياسًا على هذا
أوّلًا: فشلت المنظومة الحاكمة في جعل الشّعب يتراجع عن حراكه، رغم أنّها اعتمدت على التّخويف والتّرغيب. وهي معطيات عميقة في الإنسان، وسبق لها أن نجحت بها في جعله خارج اللّعبة عشرين عامًا، لأنّ احتجاجاته السّابقة كانت شبيهة بالأغنية الموسميّة، تكون حارّة في البداية، ثمّ سرعان ما تنطفئ.
اقرأ/ي أيضًا: الظلّ الفرنسي في الجزائر.. حقيقة أم وهم؟
ثانيًا: يُسارع المسؤول الخائن لروح النّشيد الوطنيّ إلى مشاركة الجموع في الوقوف له وترديده، حتّى يظهر منها ويبرّر حكمه لها، لأنّ النّشيد يُعبّر عن وجدانها الوطنيّ والثّوريّ الجماعيّ، لكنّه لا يشاركها حفظ وترديد أغنية الموسم، التّي تعبّر عن وجدانها العاطفيّ، حتّى يتميّز عنها ويتعالى عليها.
ثمّة هوّة عميقة ظلّت تفصل ابنَ الشّعب البسيط عن ابن المسؤول الكبير في الجزائر
هل انتبهنا، في العشريتين السّابقتين، إلى أنّ أبناء المسؤولين الكبار كانوا يحفظون ويردّدون أغاني الموسم في الغرب خاصّةً فرنسا، في الوقت الذّي كان أبناء الشّعب يرددّون فيه أغاني موسميّة جزائريّة؟ واحتفل بعضهم في السّفارة الفرنسيّة بفوز الفريق الفرنسيّ بكأس العالم في روسيا، في الوقت الذي كان أبناء الشّعب يحتفلون في الشّوارع بتسجيل الفرق العربيّة والغربيّة الصّديقة أهدافًا.
اقرأ/ي أيضًا: دُور الثّقافة في الجزائر.. لأيّة ثقافة؟!
في هذا الحراك الشّعبيّ السّلميّ الكبير، كان رؤوس السّلطة يجوبون عواصم العالم ليقنعوها بوجاهة أوراقهم، في الوقت الذّي كان الشّعب يجوب شوارعه ليقنعهم بحتميّة الرّحيل.
ثمّة هوّة عميقة ظلّت تفصل ابنَ الشّعب البسيط عن ابن المسؤول الكبير في الجزائر. وقد ظهرت أكثرَ وضوحًا خلال هذا الحراك، الذّي فاجأهم، فانتقل إليهم الإحساس بالرّعب والخوف وانتظار الأسوأ.
ففي وقت بات فيه ابنُ الشّعب يعيش اللّحظة بطعم الحلم والمستقبل، حتّى أنّه كفّ عن التّفكير في الهجرة، ومن هاجر أصبح شغوفًا بالعودة، بات ابنُ المسؤول يعيشها بطعم الخوف ومحاولة الهجرة.
سنظلم هذا الحراك إذا اكتفينا في الحكم عليه من زاوية مدى نجاحه في تحقيق أهدافه السّياسيّة فقط، وغفلنا عن ثماره الثّقافيّة والاجتماعيّة، منها تجديد مفهوم الخائن والوطنيّ، ومحاصرة المنظومة الفاسدة في زاوية واضحة ومعروفة لدى الشّعب، بعد أن كانت معروفة لدى المخابرات فقط، قبل تفكيكها ونقل الإشراف عليها إلى يد العصابة.
الجمهوريّة الجديدة بغضّ النّظر عن كونها أولى أو ثانية، تقوم على قوّة الذّكاء
لا بدّ أن نتجاوز مرحلة ذهاب الخونة، إلى مرحلة ذهاب الأغبياء، الذّين يقرأون اللّحظة بمؤخّراتهم لا بعقولهم، في المستويات كلّها، لأن الجمهوريّة الجديدة، بغضّ النّظر عن كونها أولى أو ثانية، تقوم على قوّة الذّكاء.
اقرأ/ي أيضًا:
4 شهداء للحراك الجزائري.. هل يقتلهم النّسيان ثانية؟
عقول الجزائر والحراك.. عالِم ينقل الثورة السلمية إلى كوكب المريخ