24-يناير-2024
جمال بلماضي

(تركيب: الترا جزائر)

وضع الناخب الوطني جمال بلماضي في الساعات الأولى من 24 كانون الأول/جانفي 2024، حدًا لتعاقده مع اتحاد الكرة المحلي، بإبلاغ لاعبيه ومقربين بتقديمه استقالته، ليُنهي بذلك أحد أهم الفترات في مسيرته الكروية التي بدأها بطلًا متوجًا محبوبًا، وختمها بالخروج منبوذًا مغضوبًا عليه من الجميع.

جمال بلماضي قدّم استقالته لرئيس الاتحاد الجزائري بكوت ديفوار وأبلغ اللاعبين برحيله بعد السقوط أمام موريتانيا وتضييع التأهل لدور الـ16 من المنافسة القارية

واحتكمت مسيرة جمال بلماضي مع "الخضر"، ربما لقوانين الفيزياء، فالرجل مثلما حقق تتويجًا حمَلَه إلى أعالي السماء في بداية مهمته، أنهاها على العكس تمامًا بسقوط حرّ إلى قاع الأرض. لم يجد حوله اليوم أي متعاطف جراء الخيبات القاسية التي تعرض لها الجمهور الكروي بسبب خططه التكتيكية التي لم يُرِد تغييرها أو الاستماع إلى أي رأي مخالف بشأنها.

الحل الأخير..

عندما تعاقد الاتحاد الجزائري مع جمال بلماضي في آب/أوت 2018، أشارت وكالة الأنباء الجزائرية وقتها إلى أن بلماضي لم يكن الخيار الأول لـ"فاف"، حيث جاء تكليف ابن مستغانم بعد أن فشلت إدارة خير الدين زطشي وقتها في التعاقد مع أي مدرب يمحي الانتكاسات المتوالية، التي لحقت بالمنتخب الجزائري عقب رحيل البوسني وحيد حليلوزيتش عن العارضة الفنية عقب مونديال 2014 بالبرازيل.

وقتها، كانت حصيلة رابح ماجر والفرنسي كريستيان غوركوف والصربي ميلوفان راييفاتش والبلجيكي جورج ليكانس والإسباني لوكاس ألكاراز كلها سلبية.

وما يؤكد أن جمال بلماضي كان خارج اهتمامات اتحاد الكرة، وقتها، هي تصريحات الرئيس السابق لـ"فاف" الدين زطشي الذي قال في أكثر من مرة  "سننتدب مدربًا يمتلك خبرة في كرة القدم الأفريقية، وسيكون حتمًا من الأسماء التي سجلت حضورها في مونديال روسيا 2018".

وكل هذه الشروط لم تتوفر في جمال بلماضي، إلّا أن زطشي الذي كان مضطرًا لإيجاد ناخب وطني يُسكِت الشارع الغاضب من كل شيء في ظل سعي الرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة ومحيطه تكريس الولاية الخامسة لشخص افتقد كل الشروط القانونية للترشح لرئاسة الجزائر، فأصبح الأربعيني جمال هو الحل وقتها.

وبالرغم من هذه الظروف، إلّا أنّه من باب الإنصاف، فإن جمال بلماضي كان يمتلك سيرة مقبولة على الأقل لا تختلف كثير عن بعض من أشرفوا سابقًا على تدريب "المحاربين".

والتحق جمال بلماضي بالعارضة الفنية، بعدما كان  قد قاد نادي الدحيل  القطري للفوز بثنائية اللقب والكأس دون تلقي أية هزيمة في 2018، فضلاً عن التأهل إلى ربع نهائي رابطة أبطال آسيا، وتدريبه المنتخب القطري الذي فاز معه بكأس الخليج في 2014 وبطولة غرب آسيا في السنة نفسها.

وإضافة إلى مسيرته التدريبية، فإن بلماضي يحمل مشوارًا محترمًا لمّا كان لاعبًا، فقد تقمّص ألوان المنتخب في 19 تموز/جويلية سنة 2000 في وقت كان من الصعب التحاق المحترفين بـ"الخضر" لأسباب قانونية ورياضية، وهو ما سمح له بالمشاركة في 20 مباراة سجل خلالها 5 أهداف، لم يحقق فيها أي تتويج، لكن مردوده كان مقبولاً، عدا حادثة رميه قميص المنتخب في مباراة أمام مصر بالقاهرة.

وبلماضي المولود في 25 آذار/مارس 1967 لعب لنوادٍ أوربية كثيرة كباريس سان جارمان ومارسيليا وكان وفالنسيان الفرنسية ومانشيستر سيتي وساوث هامبتون  الانجليزيين وسيلتا فيغو الإسباني، إضافة غلى تجربة مع التحاد والخريطيات القطريين.

برتبة وزير

تزامن التحاق جمال بلماضي بالمنتخب الوطني، بعَيْش البلاد جوًا من الإحباط  جراء الأوضاع السياسية الموجودة وقتها، والتي أدت إلى اندلاع حراك 22 شباط/فيفري 2019، الأمر الذي جعل من انتصارات كرة القدم متنفسًا للبعض ورسالة بإمكانية تحقيق النجاح في بلد كان كل شيء فيها يقود إلى الاخفاق وانعدام الأفق، وهو ما استطاع تحقيقه جمال بلماضي حينما أنهى تصفيات التأهل إلى "كان" 2019 بمصر في المرتبة الأولى بـ11 نقطة، محققًا نتائج إيجابية متوالية.

وانعكست هذه النتائج الإيجابية في القاهرة، حيث استطاع المدرب الشاب وقتها أن يفي بوعد التتويج باللقب الأفريقي الغائب عن خزينة المنتخب منذ دورة 1990 بالجزائر، وهو الوعد الذي كان الجميع يشكك في تحقيقه، إلاّ أنّ الرجل الأكثر تفاؤلًا كذّب الجميع، وحقق ما كان مستحيلًا  للمدربين الذين سبقوه، حيث عاد بالنجمة الأفريقية الثانية في أقل من عام على التحاقه بـ"الخضر" بعد الفوز على السنغال بـ(1 -0) في تموز/جويلية 2019.

وحظي جمال بلماضي ولاعبوه عند عودتهم إلى الجزائر باستقبال واسع، وأصبحت كل كلمات المدح والتبجيل تطلق عليه حتى لقبه البعض بـ"وزير السعادة"، خاصة وأنه استطاع أن يواصل نتائجه الإيجابية في التصفيات المؤهلة للمونديال ولكأس أفريقيا 2022 بالكاميرون التي أجلت حتى 2023 جراء وباء كورنا.

واستثمر جمال بلماضي في الشعبية التي حققها، فأصبح يتكلم عن القضايا السياسية التي تعيشها البلاد، فأعلن دعمه للحراك الوطني، ودعا في ندوة صحفية رسمية إلى ضرورة الاستجابة لمطالب الشباب الذين كانوا ينزلون أسبوعيًا للشارع.

وزادت سلطة جمال بلماضي بعدها، فقد حظي بدعم رسمي واسع حتى من الرئيس عبد المجيد تبون الذي قال في مقابلة تلفزيونية في نيسان/أفريل 2021 إن "بلماضي إنسان طيب قام بعمل جبّار رفع بموجبه من معنويات كل الشعب الجزائري، وهو يستهل كل الخير".

وأضاف تبون وقتها أن "الناخب الوطني حقق نتائج إيجابية مع المنتخب الوطني وسيحقق نتائج أخرى مستقبلًا، لذلك فالكثير من الدول تحسدنا عليه".

الصفعة الأولى

بعد التتويج المحقق في 2019، لم يكن أحد من الجزائريين أو المتابعين للكرة الأفريقية ينتظرون من جمال بلماضي في "كان" الكاميرون 2022 الذي أجل حتى 2023 جراء وباء كرونا سوى تحقيق اللقب الثاني أو الوصول إلى دور الأربعة على أقل تقدير، خاصة وأن "الخضر" استطاعوا وقتها التأهل للمرة الـ19 في تاريخهم بكل سهولة بعد حصد 14 نقطة من 6 مباريات تصفوية، إلا أن ذلك لم يتحق بالرغم من الوقوع في مجموعة وصفت بـ"السهلة"، والتي ضمت منتخبات سيراليون، غينيا الإستوائية  وكوت ديفوار الذي كان يعيش أسوء فترة في مسيرته الكروية.

وبدأ "الخضر" مغامرة الكاميرون بانهزام أمام غينيا الاستوائية التي وضعت حدا لمشوار 35 مباراة دون انهزام منذ 2018، بعد الفوز عليهم بـ(1–0)، وهي النتيجة التي أثرت على باقي المشوار ليغادروا المنافسة في المركز الرابع والأخير بعدما اكتفوا بنقطة وحيدة، وتسجيل هدف وحيد واستقبال 4 أهداف.

وبالنظر لهول الصدمة التي كانت نتاج بعض الخيارات التكتيكية لبلماضي، واعتماده على طريقة لعب واحدة أصبحت معلومة للجميع، طالب البعض برحيل  صاحب كأس أفريقيا 2019 لضمان خروج مشرف له، إلا أن ذلك لم يتم بسبب ارتباط الجزائر بالمباراة الأخيرة من التصفيات المؤهلة لمونديال قطر 2022.

خارج المونديال

في يناير 2020، أجرى جمال بلماضي مقابلة مع قناة "كنال بلوس" الفرنسية سئل فيها عن رؤيته بشأن مدى قدرة فريقه على التأهل لمونديال قطر 2022، فأجاب المدرب الاكثر تفاؤلا وقتها "إن تأهلنا إلى كأس العالم فسيكون الهدف هو الفوز بالبطولة".

وأضاف "لنتحدث جديًا.. الهدف لن يكون المشاركة ولن يكون فقط تقديم ما يمكننا القيام به.. سنعمل على تقديم كل شيء ولن نؤمن بالمستحيل.. اللاعبون لن يضعوا أي حد لطموحهم".

وأُخذت تصريحات جمال بلماضي بجدية، بالنظر إلى أنه كان وعد قبل السفر لمصر في 2019 بالتتويج باللقب القاري، وهو ما حققه، ما جعل الجماهير تصدقه وتتفاءل بشأن التأهل على الأقل حتى بعد أن خرج المنتخب خائبا من كان الكاميرون بالنظر إلى أنه كان قد حقق مشوارًا جيدًا في التصفيات، وتحقيقه بعدها في المباراة ما قبل الأخيرة فوزا على الملاحق الكاميرون خارج الديار بهدف لصفر، إلا أن كل ذلك لم يكن كافيا بعدما استطاع أشبال سونغ الفوز على الخضر بـ(2-1) في البليدة، وحرمانهم من المشاركة في أول مونديال ينظم في المنطقة العربية.

صدمة جديدة

بالنسبة لكثير من خبراء الكرة، كان الفشل في التأهل إلى مونديال قطر 2022 هو نهاية عصر جمال بلماضي على رأس المنتخب الجزائري، وكان الرحيل الأنسب له وللخضر معا، لكن لا بلماضي ولا الفاف اتخذوا القرار المناسب في الوقت المناسب، ما جعل عقد المدرب الذي أخفق مرتين يمنح فرصة ثالثة وبتوقيع عقد يمتد حتى 2026 بهدف تحقيق التأهل لمونديال الولايات المتحدة الأمريكية، والذي أصبح سهل التحقيق بعد رفع الفيفا لعدد المشاركين إلى 48 بلدا بدل 32، مارفع حصة أفريقيا من 5 منتخبات إلى 9.5 مقاعد.

ورغم خيبتي "كان" ومونديال 2022، إلا أن الاتحاد الجزائري لكرة القدم قبل بتجديد عقد جمال بلماضي براتب خيالي يصل إلى 208 ألف يورو شهريًا، وهو ما يقابله مبلغ 4.8 ملايير سنتيم، ليكون بذلك المدرب الأعلى أجرًا أفريقيا.

وأُثير موضوع راتب جمال بلماضي في مرات عدة من قبل الإعلام إلّا أن "فاف" والمعني تجنبا في كل مرة الحديث عنه، وذلك بالتغطية عليه عبر استعادة المنتخب نغمة الانتصارات في تصفيات "الكان" والمونديال، متجاهلين الانتقادات الكثيرة الموجهة لبلماضي الذي صار اسمه مرادفًا للقب "الفاشل" على مواقع التواصل الاجتماعي.

راتب الناخب الوطني جمال بلماضي الذي يصل إلى 208 ألف يورو شهريًا (الأعلى في أفريقيا) أثار في عدّة مرات جدلًا واسعًا بالجزائر وخارجها

وفي "كان" كوت ديفوار الحالي، حدث ما حذّر منه الجميع ومالم يتوقعه حتى أكثر المتشائمين بعد أن خرج المنتخب الوطني من جديد تحت قيادة جمال بلماضي من الدور الأول دون تحقيق أي فوز، رغم امتلاكه أرمادة من اللاعبين الذين تفتقر إليهم باقي المنتخبات المنافسة.

ومهما اختلفت التقييمات لمسيرة جمال بلماضي الذي بقي على رأس "الخضر" لـ4 سنوات و7 أشهر، بتسجيل 105 أهداف وتلقي 35، فإن جميع العاقلين يتفقون على أن رحيله قد آن، بل إنه تأخر بكثير.