22-مايو-2022

(الصورة: فيسبوك/الترا جزائر)

بعد تسعة أشهر من طي ملفّ الانتخابات النيابية وتنصيب أعضاء البرلمان الجدد بصفة رسمية في الجزائر، طفى على السطح مشكل "حالات التنافي مع العهدة التشريعية" أو الجمع بين النيابة البرلمانية والمهام والنشاطات التجارية، بعد تلقي رؤساء الكتل البرلمانية مراسلة استعجالية بتاريخ 3 نيسان/ أفريل 2022 تؤكد وجود نواب في حالات غير شرعية بالمجلس، تتعارض مع الدستور.

سارع بعض النواب المدرجين في قائمة حالات التنافي بالتنازل عن أملاكهم بغرض الاحتفاظ بالمقعد البرلماني ويتعلق الأمر بـ20 نائبًا من إجمالي 70 يمسهم القانون

وتحوّلت هذه القضية في ظرف قياسي، إلى مصدر للكثير من اللغط والجدل الواسع في الأوساط السياسية، لدرجة أنها شغلت النواب المعنيين عن مهامهم البرلمانية منذ شهر نيسان/ أفريل الماضي، خاصة وأنه كان يُفترض تسوية حالات التنافي في ظرف بضعة أسابيع كأقصى حد من الانتخابات، إلا أن الجميع تفاجأ بإثارة هذا الملف بعد قرابة سنة من الاستحقاقات، عبر "النبش" في ممتلكات البرلمانيين ونشاطاتهم التجارية، وتوجيه إعذارات للمنتخبين، تخيّرهم بين مقعد البرلمان أو التجارة و"البزنس".

ويفصل القانون بشكل واضح وصريح في الحالات المعنية بالتنافي مع العهدة التشريعية، والتي حصرها في 10 خانات لا لبس فيها، إلا أن الغموض اكتنف الملف هذه المرة بسبب زوايا جديدة أثيرت بشأن قضيّة النواب التجار أو النواب رجال الأعمال، وهو ما وسّع قائمة المعنيين بالتنافي إلى 70 اسمًا من البرلمانيين، أغلبهم أُدرجوا في القائمة بسبب سجلّات تجارية لدى المركز الوطني للسجل التجاري، قالوا إنهم يحملون فيها صفة الشريك وليس صاحب النشاط أو المسيّر، ما يُفترض أن يُخرجهم من مأزق التنافي.

ومعلوم أن هنالك من يرفض منح امتيازات خاصة للنواب "تحت الطاولة"، على غرار تلك التي استفاد منها بعض البرلمانيين في حقبة النظام السابق، حينما تم إغماض الأعين عنهم، ورفض إشهار ورقة "حالة التنافي" ضدهم، ويؤكّد أصحاب هذا التوجه أن السلطة تريد اليوم فصل المال عن السياسة والضرب بيد من حديد لتطبيق القانون، مع ضمان تفرّع النائب لمهامه البرلمانية.

يأتي ذلك بالموازاة مع أولئك النواب سواءً كانوا من المعارضة أو الموالاة، الذين يؤكّدون أن قراءة مكتب المجلس بشأن ملف التنافي غير واضحة وصنعت من "الحبة قبة"، متهمة جهات نافذة بمحاولة تشويه من دخل البرلمان بانتخابات نزيهة، عبر تحريك هذا الملف في هذا التوقيت بالذات، خاصة وأن كثيرين يؤكّدون أنه لرجل الأعمال الحق في ممارسة السياسة إذا كانت أمواله نظيفة، فماذا سيكون مصير 70 نائبًا؟

التنافي.. من مادة دستورية إلى مشكل عويص

ويؤكّد الخبير الدستوري رشيد لوراري في إفادة لـ"الترا جزائر" أن حالات التنافي واضحة وجليّة حيث فصّل فيها الدستور الجزائري بشكل لا يترك مجالا للشك، إذ أن ممارسة النيابة تتنافى مع تولي أيّ منصب أو مهام داخل أجهزة الدولة، وغرض المشرّع من هذا الحرص هو توخّي قيام النائب بدوره على أكمل وجه طيلة 5 سنوات من العهدة التشريعية.

وتكمن مهام النائب وفق لوراري في التشريع وممارسة العمل الرقابي على أداء الحكومة، حيث تنصّ المادة 118 من الدستور على أن "كلّ منتخب سواءً كان عضوًا بمجلس الأمة أو نائبًا بالمجلس الشعبي الوطني، ملزم بالتفرّغ لممارسة عهدته كاملة ولا يمكن له الجمع بين عهدات أو وظائف أخرى"، على غرار عضو في الحكومة أو المحكمة الدستورية أو عهدة انتخابية أخرى في مجلس منتخب إضافة إلى منصب في الهيئات والإدارات العمومية والجماعات الإقليمية والمؤسسات العمومية، أو العضوية في أجهزتها وهياكلها الاجتماعية، أو منصب في مؤسسة أو شركة أو تجمع تجاري أو مالي أو صناعي أو حرفي أو فلاحي.

وعلى النائب أن يودع تصريحًا لدى مكتب الغرفة المعنية خلال 30 يومًا الموالية لتنصيبه، ليحيل مكتب المجلس التصريح المنصوص عليه في هذه المادة على اللجنة القانونية التي تبدي رأيها بشأنه في ظرف لا يتعدى 15 يوما من تاريخ إخطارها.

وفي حال ثبوت التنافي يبلّغ مكتب المجلس العضو المعني بذلك ويمنحه مهلة 30 يومًا للاختيار بين عهدته البرلمانية أو الاستقالة، وفي حال مخالفة ذلك يعتبر النائب مستقيلًا تلقائيًا. ووفق لوراري، فقد تحولت هذه المادة الدستورية إلى مشكل عويص في المجلس الشعبي الوطني مؤخرًا، بعدما تحدّثت بعض الأطراف عن تحريم اختلاط المال بالسياسة، وهو ما يفتح الباب أمام الانحرافات.

نقاط ظل

من جهته يعتقد رئيس لجنة الشؤون القانونية والإدارية والحريات بالمجلس الشعبي الوطني محمد عزيز في تصريح لـ"الترا جزائر" أن هنالك العديد من نقاط الظل التي تكتنف ملف التنافي، خاصة وأن المعنيين بهذه الحالات في العهدة التشريعية الحالية هم من يحملون صفة شريك تجاري في مشروع معين وفق سجل تجاري نظامي، وليس المسيّرين.

وأوضح المتحدّث أن اللجنة شرعت في وقت سابق في دراسة الملفات، وإعداد تقرير حسب كل حالة، وإرسالها إلى مكتب المجلس المخول الوحيد بالفصل بالملف، مع العلم أن "المسيّر" ممنوع قانونًا من الاحتفاظ بمقعده النيابي، حيث أنه مخيّر بين التجارة والنيابة، وهذا بشكل مفصول فيه ولا يحمل أيّ جدل، ولكن الغموض يلف اليوم من يحمل صفة شريك تجاري، هل تمسّه حالة التنافي، أم أنه غير ملزم بالاختيار بين وضعه المهني السابق وكرسي البرلمان.

ويكشف رئيس اللجنة القانونية أن دراستهم للملف أسقطت من قائمة المعنيين بحالات التنافي الشركاء التجاريين والموثّقين والصيادلة الذين لا يحملون صفة تاجر، حسبه، مشدّدا على أن الإشكال مطروح اليوم بين النوّاب ومكتب المجلس لا علاقة فيه للجنة القانونية التي قالت كلمتها بشأن الملف، وانتهى الأمر بالنسبة لها.

ما مصير 70 نائبا؟

ويأتي ذلك في وقت يتساءل النواب عن مصير الأسماء المدرجة في قائمة المعنيين بحالات التنافي، وسبب عدم الفصل في ملفاتهم لحد الساعة.

ويعتقد رئيس الكتلة البرلمانية لحركة البناء الوطني كمال بن خلوف، في تصريح لـ"الترا جزائر" أن هذه الحالات وبعد دراستها من الناحية القانونية، تبيّن أنها مجرّد ملفات فارغة، متسائلا عن سبب تدخّل مكتب المجلس للفصل في شرعية بقاء هؤلاء بالبرلمان من عدمه، رغم أنه من صلاحيات اللجنة القانونية.

كما تساءل عن سبب تأخّر إثارة الملف إلى هذا التوقيت بالذات، متهما أطرافا لم يحدّدها بمحاولة إقحام النواب في معركة الصراع من أجل البقاء في البرلمان، بدل التفرّغ لعملهم الرقابي والتشريعي.

ومن جهته يؤكد رئيس الكتلة البرلمانية لحزب المستقبل فاتح بوطبيق في تصريح لـ"الترا الجزائر" أن مثل هذا الضغط على البرلماني يسيء لسمعة الهيئة التشريعية، ويضرّ بمصداقية النواب، إذ كان يفترض الفصل في الملف وفق ما تقتضيه المادة 118 من الدستور، دون التشهير به بهذا الشكل، مضيفا "نحن مع تفرّغ النائب لمهامه، ولكن وفق ما ينص عليه الدستور دون مزايدة".

ويرد الخبير الدستوري لوراري على ذلك، بأن مسؤولي الملف بالمجلس الشعبي الوطني يجب أن يكونوا صارمين اليوم ويرفضوا التساهل في هذا الملف، ويمنعوا امتزاج المال بالسياسة لعدم تكرار خطايا الماضي.

نوّاب يفضّلون المقعد

ووفق ما علمته "الترا جزائر"، فقد سارع بعض النواب المدرجين في قائمة حالات التنافي بالتنازل عن أملاكهم بغرض الاحتفاظ بالمقعد البرلماني، ويتعلق الأمر بـ20 نائبًا من إجمالي 70، منهم نائب رئيس المجلس، والبرلماني عن حزب التجمع الوطني الديمقراطي منذر بوذن الذي قام ببيع صيدليته، في حين رفض أحد النواب، وهو طبيب وصاحب عيادة بالعاصمة، التخلّي عن عمله وفضّل الاستقالة من البرلمان.

وتكشف رسالة موجهة من النوّاب المعنيين بحالات التنافي لرئيس مكتب المجلس الشعبي الوطني، ما تعرّض إليه من "تغليط" حسبهم، بإدراجهم في حالات لا تتنافى مع مهامهم النيابية، وفسّروا وفق ذات الرسالة التي استلمت "الترا جزائر" حصريًا نسخة عنها كل حالات التنافي الـ10 من الناحية الشكلية والإجراءات والآجال مبرئين أنفسهم، ومطالبين بإنصافهم دون إقصاء.

وتكشف رسالة موجهة من النوّاب المعنيين بحالات التنافي لرئيس مكتب المجلس الشعبي الوطنيما تعرّض إليه من "تغليط" بإدراجهم في حالات لا تتنافى مع مهامهم النيابية

هذا وعلمت "الترا جزائر" بخبر توجيه نسخة من هذه الرسالة لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، وأخرى لرئيس المجلس الشعبي الوطني، وهو ما أدّى إلى إعادة غربلة قائمة المعنيين بحالات التنافي، وإسقاط جل الأسماء المدرجة، في انتظار قول كلمة الفصل بشأن هذا الملف في الأيام القليلة القادمة.