03-يوليو-2019

الأكاديمي عبد الرزاق بلعقروز (فيسبوك/ الترا جزائر)

في ظلّ تخرّج عشرات الآلاف سنويًّا من الطّلبة الجامعيّين، استطاعت الجامعة الجزائريّة، في باب العلوم الإنسانيّة، أن تربح نخبة جديدة من الأساتذة والباحثين الشّباب، الذّين استفادوا من خبرات المراحل السّابقة، وتجاوزوا اختلالاتها المختلفة، فاستطاعوا أن يشكّلوا مشروع بديل ستظهر ثماره، بعد استكمال التّراكم المطلوب.

عبد الرزاق بلعقروز: تجذُّر أزمة القيم وامتدادها في أنساق المجتمع هو الذي أيقظ في المجتمع هذا الحراك الذكي

من هذه النّخبة الجامعيّة الشّبابيّة عبد الرزاق بلعقروز (1981)، الذّي نشر ثلاثة عشر كتابًا مستقلًّا وجماعيًّا. وتناولت كتبه فلسفة القيم الأخلاقيّة، والفروع المعرفيّة المساعدة على فهمها، وأسئلة الإعلام والقيمة. وأعلام القيمة في الفكر الفلسفيّ الإسلاميّ المعاصر، خاصّة من زاوية أسئلة الحداثة والدّين.

اقرأ/ي أيضًا: حوار | كمال الرياحي: "عشيقات النذل" تحدّثت عن اللصوص فسرقوها

نجد هذه الهواجس المعرفيّة في جملة من كتبه، منها في كتبه "مداخل مفهوميّة إلى مداخل فكريّة وفلسفيّة"، و"أزمة الحداثة ورهانات الخطاب الإسلاميّ"، "مدخل إلى الفلسفة العامّة"، و"السّؤال الفلسفيّ ومسارات الانفتاح: تأوّلات الفكر العربيّ للحداثة وما بعد الحداثة"، و"تحوّلات الفكر الفلسفيّ المعاصر: أسئلة المفهوم والمعنى والتّواصل"، و"من أجل المعرفة: مفاتحات حواريّة مع الذّات والكتاب".

ويعدّ الأستاذ المحاضر في قسم الفلسفة بجامعة سطيف، ضمن النّخبة الأكاديميّة الجزائريّة، التّي اشتغلت بتميّز على رصيد الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844 ـ 1900)، حيث أصدر نخبة الكتب في هذا الباب، مثل "المعرفة والارتياب: المساءلة الارتيابيّة لقيمة المعرفة عند نيتشه وامتداداتها في الفكر الفلسفيّ المعاصر"، و"نيتشه ومهمّة الفلسفة، قلب تراتب القيم والتّأويل الجماليّ للحياة".

طرح عليه "الترا جزائر" جملة من الأسئلة المتعلّقة بالحراك الشّعبيّ والسّلميّ، وعلاقة النّخب المثقّفة به، ومدى استعداد الجامعة في أن تلعب دورًا في المستقبل الجزائريّ.

  • لطالما كانت أصوات مثقّفة كثيرة تقول إنّ المجتمع الجزائريّ مصاب في سلّم قيمه. وذهب البعض إلى القول إنّ المجتمع فقد أخلاقه. كيف يمكن لمجتمع بهذا التّوصيف أن يقوم بحراك سلميّ يبغي به التّغيير الشّامل؟ أمّ أن التّوصيف كان خاطئًا؟

إن أزمة القيم التّي أشرت إليها ليست مقتصرة على الفضاء الجغرافي والثقافي الجزائري؛ وإنما هي أزمة عالمية مترابطة مع فضاء العولمة، الذي يميل إلى تقدير الموجودات تقديرًا كمّيًّا منفعيًّا ولا يأبه كثيرًا لنظام القيم المتعالي، الذي يتجاوز المنفعة، إلى المصلحة التي عليها وبها صلاح الإنسان، وهنا لا بد من الإشارة، كما قال جيروم بندي، إلى أن القول إننا نعيش أزمة قيم هو مجرد توصيف حزين. الأصح أن نقول إننا نعيش انزياحًا في القيم نحو قيم أخرى، هي النرجسية والمُتعية والانحصار في الفضاء الخصوصي، ولذا فإن أزمة القيم العالمية قد امتدت إلى فضاء المجتمع الجزائري والتعلق بمطالبها قد هيمن على فئة هامة من فئات المجتمع الجزائري أي الشباب، الذي باتت أحلامه وأشواقه متمركزة حول كيفية العيش بطريقة جمالية كما هي طريقة عيش الإنسان الأوروبي، فاندفع متجاوزًا فضاءه المكاني، إلى الفضاء المكاني الغربي فيما يعرف في معجم الثقافة الجزائرية بظاهرة "الحرقة ". التي هي إرادة في تجاوز المكان الموجود نحو مكان آخر يجد فيه الشاب متخيلاته، التي فقدها في مكانه الأصلي.

أما صرف القول إن الحراك الجزائري أظهر أن المجتمع لم يكن يعيش أزمة في نظامه الأخلاقي الفردي والاجتماعي، لا تعكس الحقيقة بصورة دقيقة، ومن وجهة نظري أن أحد عوامل الحراك هو محاولة التغلب على الأزمة القيمية التي ضربت البُنى الكبرى للمجتمع الجزائري، بخاصّة النظام السياسي الذي عمل بطريقة منهجية على تفكيك إرادة البناء والتغيير. وقَلَبَ منظومة القيم في شتى المجالات، حيث ربط الفعل السياسي الذي من المفروض أن يبقى فعلًا تدبيريًّا لمشاريع المجتمع، ربطه بالسُّلطة التنفيذية، فضلًا عن فقدان القدرة على التوزيع العادل للثروة أو الاستثمار في الشباب الجزائري وتمكينه من ممارسه حقه السياسي والاجتماعي.

لذا أريد الإقرار بأن تجذُّر أزمة القيم وامتدادها في أنساق المجتمع؛ هو الذي أيقظ في المجتمع هذا الحراك الذكي. فما يبدو لنا جامدًا وساكنًا، إنما يحمل في داخله إرادة التغيير والبناء. ولأن الجزائري يريد البناء والتنمية والقوة للوطن، وليس التخريب أو الانتقام، خرج بهذه الصورة الحضارية التي من عادة الأنظمة المستبدة أن تستثمر فيها، فالخروج بالسلمية والنضج والاستمرارية عطل أي قدرة للنظام على ممارسة العنف أو اتخاذه مبررًا لإيقاف الحراك أو تحويل مساره.  

  • هذا يعني أن قطاعًا واسعًا من المثقفين يحمل أحكامًا جاهزة بعيدًا عن رصده للتّحوّلات، التّي حدثت في الواقع الجزائريّ؟

أنا من القائلين إن الحركات الكبرى للتاريخ لا يقدر المثقف على استشرافها بعمق ودقّة متناهية. دور المثقف هو ملء الذَّات بالمعنى، وشحنها بالبناء المعرفي والفكري المستمر والمتواصل كي تقوى على رفع التحدّيات التي تواجهها. أنظر؛ مثلًا من كان له تنبؤ بالأزمة المالية العاليمة أو غيرها من الأزمات؟ وإذا كانت من قاعدة منهجية نفكر بها في مسألة استشراف المستقبل فهي قاعدة: أن نفكر باللاَّمتوقع وليس بالمتوقع أو نفكر باللاَّيقين وليس باليقين.

  • هل تقصد أن ما لا ننتظر حدوثه هو الذي يحدث؟

تمامًا كما يقول إدغار موران، ولأجل هذا فإن قطاعًا واسعًا من المثقّفين لم يكن له حسٌّ تنبؤي بأن الحراك سيحدث ويكون له هذا الزَّخم التاريخي القوي. كانت عين المثقّف المدرك لدوره التاريخي منحصرة على وصف سلسلة المظالم الاجتماعية والسياسية الماثلة. وهذه الأخيرة هي العوامل الأساسية في تحرك التاريخ وانطلاقته نحو التغيير والبناء والثورية في الفكر والواقع، أما وقت الانطلاق ومن يقود الانطلاق فهو أمرٌ لا يفسّر إلا ميتافيزيقًا، هذا من حيث المنحى النَّظري التفسيري، أما من حيث التحديات الواقعية، فإن قطاعًا كبيرًا من المثقفين كان فاقدًا لحماسة القلب إلى المعرفة والتغيير، وانحصر عمله في الفعل الثقافي النظري الذي يقفز على مشكلات المجتمع الأساسية، ويطير محلقًا في عالم المفاهيم المجردة المفرغة من روح الحياة ودفقها.

  • هل من أسباب لذلك؟

سأكتفي بذكر ثلاثة أسباب هي قدرة النظام السابق على امتصاص وعي المثقفين وإغراقهم في الفساد الثقافي، حيث فقدوا الاستجابة لمطالب الحياة الأخلاقية الجديرة بالعيش.

وهاجس الخوف من مؤسّسات النظام السابق/ الحالي، واستثماره في التحوّلات الدولية التي في غالبها فشلت فيها الثورات على الأنظمة المستبدة.  

والهشاشة الفكرية والمعرفية وفقدان الحافزية الأخلاقية على الفعل والتغيير لعالم الأذهان وعالم الأعيان. فمن لا يمتلك قوّة معرفية لا يقدر على تفكيك الكيفية التي بها يعيد النظام إنتاج ذاته والمحافظة على استمرار وجوده.

  • يبدو أنّ الشّارع الجديد بصدد صياغة مفهوم جديد للنّخبة. هل هذا في صالح اللّحظة الجزائريّة، أم أنّ انزلاقاتٍ يمكن أن تحدث؟

إن الحراك الذي تدفّق وقدّم زخمًا روحيًّا وأخلاقيًّا قويًّا، قد ألزم القطاع الثقافي بالتفكير في إعادة هيكلة ذاته من جديد. وإعادة فهم نفسه ودوره الذي يصنع التاريخ فعلًا، فقد أنهى الحراك نماذج عديدة من المثقف منها: المثقف البَهرج الذي يعرف الأفكار العقلية ولم يعوّد نفسه الفضائل الأخلاقية والاجتماعية الكبرى. والمثقف المتعالي الذي يتواجد بين جدران الجامعات ويتعالى على حركة الواقع متوهمًا أن من يملك الأفكار، إن كان يملكها حقًّا، يملك عالم الأشخاص وعالم الأشياء. فهذان الصنفان قد تعرّيا في هذا الفضاء. والأنكى أن البعض منهم قد اندفع إلى التقوّل بأن هذا الحراك إنما هو قطيع لا يعرف طريقًا ولا مقصدًا.  

ولأجل هذا، فإن الحراك قد ألزمنا كمثقفين بإلقاء السّمع إلى هواجس المجتمع وإرادته وما الذي يبتغيه. انتهى المثقف البطولي والمثقف المتعالي والمثقف البهرج ليحلّ محلهم المثقف المتواجد مع المجتمع والسائر معه والمنصت إلى همومه وحاجاته.  

إن فضل الحراك على المثقّف كونه أيقظه من سباته الفكري ومن جموده الانعزالي ودفع به إلى ساحة الفعل والإنجاز الأصيل، لأن حياة من دون ظهور في هذا العالم هي حياة ميتة.

  • هل الأفيد أن تطهّر قوى الحراك الأحزاب القائمة، وتضخّ فيها دماءً وأفكارًا جديدة، أم تحيلها على المتاحف، وتبادر إلى تأسيس أحزاب جديدة من الأساس؟

وجهة نظري أنّه لا بد من ضخ دماء جديدة في الفضاء العام، والعالم الثقافي للمجتمع أي المحيط الذي ينشأ فيه الطفل ومنه يمتص أخلاقه ومعاييره في الجمالة ومنهج عمله أيضًا.

  • تظهر من خلال كتاباتك أنك مهووس بالفضاء العام ودوره في حياة الأفراد والجماعات. لماذا؟

لأنه متى كان قويًّا ونظيفًا أخرج قياداتٍ نظيفة وصادقة؛ فالفضاء العام هو معلم المشروعية، وملء الفضاء العام بالمعنى والقيمة منوط بالمثقف القوي في مستوى تكوينه المعرفي ومستوى ارتباطه بالواقع. إذا قام المثقف بهذا الدور واشتغل على إعادة بناء العقول والنفوس وكابد في هذه المهمّة، لن تقدر البهلوانات السياسية على إيقاع هذا المجتمع في رهاناتها المصلحية الضيّقة من جديد. وإذا كان هذا مطلوبًا تاريخيًّا، فهذا لا يعني انعزال المجتمع عن الإسهام في تشكيل وإنشاء الأحزاب السياسية أو إمدادها بالأفكار الإيجابية، لأن الأحزاب السائدة كانت تصدّ عن عالم الأفكار وتنحصر في المستولى التنفيذي، أما عالم الأفكار فهو الذي يمنحها روح السياسة والتدبير، وليس السلطة والتنفيذ فقط.

ما أحسن أن يبادر أهل الثقافة من جامعيين وحقوقيين وأدباء وفنانين بتشكيل أحزاب سياسية جديدة، تستطيع أن تقدم الفعل السياسي الحصيف، الذي يستند إلى معطيات المعرفة العلمية في تسيير الشأن العام وليس إلى رغبويات قيادية متعصّبة. هذه الأحزاب إن وجدت فإنها ستؤثّر في ساحة الوعي والسَّعي، وتمكّن من إنشاء فعل سياسي تتعانق فيه السياسة والسلطة وتكون هي المعبر عن مطالب الشعب الروحية والتاريخية.

  • ما هي القيم الجديرة، التّي ترى أنّ الحراك قد جاء بها؟ في مقابل القيم المترهلة، التّي ترى أنّه يجب التخلّي عنها؟

إن القيم الجديدة التي جاء الحراك بها هي قيمة الحرّية واستعادة الشعور بالإنماء للوطن، وقد علَّمنا ابن خلدون أن العمران مشروط بالانتماء، فلا عمران بلا انتماء. قبل الحراك تشكّل شعور في وجدان الجزائريين، ملمحه فقدان الشعور بالانتماء إلى هذا الوطن، فانحصر كل فرد في مطالبه الشخصية ولم يعد الفضاء العام يعنيه.

 إن القيم الجديدة التي أخرج الحراك أثقالها هي: قيمة الحركة في مقابل السكون، وقيمة الانتماء مقابل اللانتماء، وقيمة التضامنات الاجتماعية في مقابل تمزّق شبكة العلاقات الاجتماعية، وقيمة الإرادة في مقابل اللاإرادة. ونحن الآن نريد أن نبني، أن نطور وطننا، أن نتواصل إيجابيًّا مع العالم.

وأيضًا قيمة الحرّية في مقابل الاستبداد، وقيمة الجمال كمقوّم مركزي من مقوّمات العالم الثقافي للإنسان، وقيمة المثقف العملي، وغيرها من القيم التي كسبنا بفضلها احترام شعوب العالم وبتنا مدرسة لصناعة قيم الإنسان المتحرّك والمبدع والقوي.

  • هل تراه حراكًا أخلاقيًّا قبل أن يكون سياسيًّا؟

إن روح هذا الحراك هي روح قيميّة أخلاقيّة بالأساس. وأدواتها التي تمكّنت بفضلها من الانطلاق هي أدوات قيميّة أخلاقيّة. ومقاصدها التي ترغب في إنجازها مطالب قيميّة أخلاقيّة. وكل حركة في التاريخ تحرّكها القيم تنتصر وتتحقّق بالفعل الإنساني النبيل.

  • بات سؤال الهوّية/ الهوّيات في طليعة الأسئلة، التّي تشغل الشّارع الجزائريّ، حتّى قبل سؤال الحرّيّة، الذّي كان المنصّة الأولى، التّي انطلق منها الحراك يوم 22 فيفري/ شباط أين مكمن الفخاخ في هذا المنحى؟

لقد طفح سؤال الهويّة من جديد في ظلّ التحوّلات الحضارية الجارية حاليًّا. وهو ليس سؤالًا جديدًا. ويرجع السبب في ظهوره المكرور إلى المعالجات السّلبية التي كان النظام يتعامل بها مع سؤال الهوية، فهو إما تعامل معها بالصدود والرفض، وإما استثمر هذا السؤال في إدارة الأزمات الثقافية بما يمكّنه من الاستمرار وكسر الإرادات المنادية بالإصلاح والتّجديد.

لذا على الحراك أن يكون في وعي ثقافي ذكي أمام هذه التحديات، فاللَّحظات التاريخية البنائية لا يظهر فيها سؤال الهويّة إلا عارضًا، لأن الدخول إلى التاريخ مشروط بقوّة شبكة العلاقات الاجتماعية وليس بتمزّقها. ونحن في الجزائر قد بيّن الحراك مدى الترابط والتكامل في مكوّنات الهوية الجزائرية التي هي أداة فعل وليست فقط صفة في الذّات.

  • ما المطلوب؟

 المطلوب هو الثبات للذات وليس فقط الثبات في الذّات. خاصّة أننا في زمن سمّاه باومان "زمن السيولة" الذي من إنجازاته الشبكة والانفتاح والتواصل والهوية الهجينة. ثمّة أكثر من هويّة في بريطانيا مثلًا. وكل من يدعي أنه الأنقى والأطهر والأفضل كما حلّل ذلك باومان يخسر في الانتخابات.

نحن إذن أمام هويّة مركبة متجدّدة متواصلة وليست هوية ثابتة تبحث فقط عن الشبيه والمماثل كي تشهر بذاتها. إن الشعور بالذات متوقف على الشعور بالآخر الذي هو مشروع كما قال إيمانويل ليفيناس. والآخر ليس هو الجحيم كما قال سارتر.

جماع الأمر أن الانتماء ليس مشكلة. المشكلة هي التوهّم بأن الشعور بالذات هو مسألة هويّة خالصة متجرّدة عن سياقها التاريخي والراهني. في الجزائر المعاصرة لا بدّ لنا من التخفيف من شعارات الهويّة لأن هدف الحراك هو الوطن والتنمية والعدالة، والشباب الجديد الذي سار في هذه المسيرات لا يعلم كثيرًا عن هذه الأمور التي تسكن أذهان المثقفين الهوّياتيين. إنه حراك ما بعد الهوية، وليس حراكًا هوّياتيًّا.

كيف يمكن تجاوز هذا الواقع المفخّخ بسؤال الهوّية؟

لابدّ من الذكاء السياسي ضمن هذه المرحلة الحساسة، وتجاوز من يبتغي أن يجعل من الخطاب الهويّاتي خطابًا مركزيًّا ضمن مطالب الحراك، فهذا الخطاب إذا تضخّم لا ينتج إلا الفرقة والنّزاع والخلاف، بينما شروط دخول المجتمعات إلى التاريخ هو قوّة الروابط الاجتماعية.

ثمّة هوّيات متنوعة أدناها الهوية البيولوجية التي ترسم لكلّ إنسان خصوصياته الجينية، وثمة المستوى الأعلى وهو مستوى الهوية الأخلاقية، وهي التي نحتاج إليها حاليًا، وميزات الحراك التي ظهر بها مثل: السلمية والنضج والفعالية هي من آثار هذه الهوية الأخلاقية. إنها المستوى الأعمق أو الأنا الباطني في الإنسان الذي احتجب بفعل هيمنة الأنا الخارجي. وتتجلّي الهوية الأخلاقية في العقل والإرادة والعواطف والقيم. وبموجب هذا النوع من الهوية الأخلاقية نرتفع فوق مطالب الهوية الدنيا إلى مستوى الهوية في مستواها الأخلاقي الأعلى.

لا بدّ من استثمار الهويّة في الجانب الإيجابي وليس اعتبارها متاريس للصدام الثقافي أو النزاع السياسي أو الصراع الاقتصادي. الهوية قيمة جمالية وأداة فعل من أجل وحدة الوطن وإنجازه ونمو اقتصاده وتواصلية مجتمعه. نحن في الجزائر لدينا هويّات وأبدًا ما كانت عوامل هدم وإنما كانت عوامل بناء وإنجاز.

أصولنا توجد أمامنا وليس خلفنا كما قال هيدجر. فالهوية هي لسؤال المستقبل. ولسؤال الفعل والبناء والحركة والعلم، فالمجتمعات القوية اليوم قوامها التنموي هو المعرفة والتواصل والنهضة الاقتصاد.

من المفيد لنا بلورة أخلاق تشبه أخلاق التواصل التي طوّرها الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، وسمّاها أخلاق الحوار، والتي تتأسس على قيم من اللازم أن تنضبط بها الجماعات الثقافية مثل: الصدق/ الصحّة/ الدقّة/ المسؤولية/ المعقولية.

  • هل ترى الطّالب الجزائريّ الجديد مؤهّلًا للانخراط في مشروع فكريّ ومعرفيّ وحضاريّ جديد، ينقل البلاد من مقام السّلبيّة إلى مقام الإيجابيّة؟

لقد أبان الطالب الجزائري من خلال الحراك عن حماسة قوية إلى بناء الوطن وانتهاج المنهج السلمي الذكي في كيفية التعبير عن مطالبهن وقد قلت أنا من قبل في إحدى تدويناتي إنه يجب تجديد النظرة النمطية التي تؤرّخ لثورة الطلاب في فرنسا سنة 1968 باعتبارها لحظة تعدت الحدود وكسرت الحواجز، وأن نعتبر أن ثورة الطلبة الجزائريين أيضًا لحظة فارقة وهامّة من لحظات التجديد للإنسان.

  • كيف ذلك؟

إذا كانت مطالب الطلبة الفرنسيين رغبوية، فإن مطالب الطلبة الجزائريين قيمية وأخلاقية. ولكي يقدر الطالب على الإسهام الإيجابي في بناء وطنه يجب عليه أن يتحقق بما يلي:

أولًا: القراءة المتواصلة والتكوين العلمي الرصين كل في دائرة تخصصه، والإنخراط في المجتمع المدني من خلال تفعيل الحراك الجمعوي لتوعية المجتمع وتثقيفه.

ثانيًا: إخراج الجامعة من حالتها السكونية إلى حالتها الحركية، بالانخراط في نشاطاتها العلمية من خلال النوادي والأقسام والملتقيات.

ثالثًا: تنظيم رحلات علمية إلى الجامعات الوطنية الأخرى لترسيخ روح المواطنة والمخالقة (التواصل بالأخلاق) على حدّ سواء، فالطالب واجباته حاسمة في ظل الحراك الجزائري الحالي، إذ لا صوت يعلو فوق صوت الحماسة والعلم والتواصل مع العالم والانفتاح عليه.

  • في المقابل، ما هي الأوراق/ الإمكانيات التّي تملكها الجامعة لحدوث هذا التّغيير؟ في مقابل السّياسات، التّي يجب أن تتحرّر منها؟

السؤال عن الجامعة مهمٌ جدًّا. فالجامعة قبل الحراك تحوّلت إلى مكان للفساد أيضًا، ومكان لإدارة الانتخابات وجمع الأصوات للنظام البائد، وفقدت روحها باعتبارها حديقة للمعرفة والفضيلة، وباعتبارها المكان المركزي الذي منه يتم التشريع للوطن وللإنسان. لقد حوَّل النظام السابق/ الحالي الجامعة إلى مؤسّسة عمومية للشغل وكفى، وكان من المفروض انفتاح الجامعة على الآفاق العالمية والجامعات القوية في العلم والمعرفة، ولهذا فإن مسؤولية الجامعة والجامعيين مضاعفة في ظلّ إرادة البناء والتغيير.

  • هل من اقتراحات لتحقيق هذا الرهان؟

أولًا: على الأستاذ الجامعي الذي هو محور الجامعة خاصة في الفعل التعليمي، أن يجدد ذاته بتجديد معارفه والخروج من النفق المظلم للأستاذ الذي يعتبر عمله مهنة يمارسها ويتلقى عليها أجرًا، فالأستاذ الجامعي وإن كان في مستوى الوصف الإداري كذلك، إلا أنه ليس مهنيًّا خالصًا. إن دوره روحي وبنائي للعقول بالمعرفة وللنفوس بالأخلاق، وبقدر تأثيره في الجامعة بقدر ما تتحقّق أنساق المجتمع بالجودة في التنظيم وفي التسيير.

ثانيًا: المصابرة على تكوين الطالب ورعايته علميًّا وروحيًّا. لأن الطالب يمتصّ من محيط الجامعة القيم التي تبنيه أو التي تهدمه، ولذا فإن الأستاذ الجامعي له دور استثنائي، من خلال فتح النقاشات وتنظيم الندوات العلمية التي يتعلّم فيها الطالب المعرفة ويطلع على أساليب التفكير والثقافة.

ثالثًا: إن الجامعة هي روح المجتمع، وقوام حياته. وبقدر ما تؤدّي دورها في التعليم والبحث وخدمة المجتمع، بقدر ما تقوى الحصانة السياسية والأخلاقية للمجتمع، لذا ترى الأنظمة المستبدة دومًا تعمل على تأطير الجامعة وإعداد البرامج الدراسية بما يخدم اتجاهات السياسة ورهاناتها المصلحية الصراعية، بينما يجب أن تكون الجامعة مستقلة.

  • هل الرّؤية التّي يخضع لها تدريس العلوم الإنسانيّة في الجزائر، قادرة على أن تجعلها قادرة على صناعة وعي جديد؟

إن الرؤية التي تدرس بها العلوم الإنسانية رؤية قاصرة عن التأثير الفعلي والحقيقي في الإنسان، لأنّها لا تراعي التغيرات الاجتماعية فضلًا عن كونها علومًا مستمدة من السياقات المعرفية التي تختلف عنا في الرؤية والمنهج والثقافة. إننا نهدر الوقت لأننا لم نجدّد في العلوم الإنسانية ولم نربطها بمشكلاتنا وتحدّياتنا الثقافية.

  • كيف ذلك؟

بقينا عقولًا مكرورة تتوهّم العلمية عندما تتعلّم أو تترجم أو تكرّر. والدليل الواقعي على ذلك أن الحراك الجزائري لم يجد في الجامعة الجزائرية من يمدّنا بمقولات للفهم أو التوجيه، أو لتفكيك بنية اشتغال هذا النظام وقواعد لعبته، لم يكن الفيلسوف الألماني فلهلم دلتاي على خطأ عندما اعتبر العلوم الإنسانية علومًا للروح، وليست علومًا للتفسير، لأنها المجموع المُؤَلَّف من عالم المعيش والعبارة والفهم.

  • ما الذي ينبغي أن نفعله حتى يصبح تدريسنا للعلوم الإنسانية وظيفيًا؟

أن ترتبط بالمشكلات الوجدانية والنفسية والاجتماعية القريبة إلى السياق الثقافي الذي نتواجد فيه، وليست مبتورة عنه.

وأن تتأسّس على القيم. لأنّ واقع العلوم الاجتماعية هو انفصالها عن القيم التي ترفع الإنسان وتجعله يتحقق بإنسانيته، فما قيمة العلوم النفسية والإعلامية والسلوكية إذ هي لم تؤثر في الإنسان ولم تبنِ نموذجه الحياتي وفق معايير الحرية والصلاح والعدالة؟

عبد الرزاق بلعقروز: بقينا عقولًا مكرورة تتوهّم العلمية عندما تتعلّم أو تترجم أو تكرّر

وأن تجدّد الرؤية والمنهج، فأغلب العلوم الإنسانية لأنها مترجمة محكومة بمنهج من وضعها، ونحن لابد من تطوير المنهجية متعدّدة الاختصاصات والعابرة للذهنية التفريعية، وذلك باستعادة سؤال الإنسان الكلّي لأجل فهمه وفق المنظر التكاملي والروحي وليس المنظور التجزيئي والانفصالي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار | نصيرة محمدي: ولّد الحراك الشعبي سلوكًا تحرريًا

حوار | رباح بدعوش: الشعر هو الشاهد على الإنسانية