كثيرًا ما شدّت انتباهها صورة الإشهار التلفزيوني الذي يلمّ شمل العائلة حول طاولة الأكل أو الاحتفال بمناسبة، وغالبًا ما تكون الوجوه هي أسرة متكاملة مكونة من الجدّ والجدّة، الأب والأم والأطفال، وحتى في الكتب المدرسية، ولو تأملنا في هذا المشهد، لوجدنا أنه يلخص دورة حياة كاملة للإنسان، وأننا في خضم اليوميات والسنوات المتسارعة، مقبلون على تجسيد تلك الأدوار المجتمعة في مشهد واحد، بدءًا من الطفولة إلى غاية الشيخوخة، وإن كان تقدّم العمر يفرض على الإنسان بعض السلوكات والنشاطات المتتناسبة مع قدراته، إلا أنه في رأي آخرين فرصة لتحقيق مزيد من الخطوات بشكل أفضل بالعودة إلى مكتسبات الخبرة والتجربة.فهل للعمر خريف؟ وهل يصل الإنسان إلى خريف العُمر؟
وضع كثيرون العمر على الرفّ وتجاوزوا عقدة تقدّم السنوات وهيمنتها وحولوا تراكمات التجارب إلى فعل يومي وطاقة قوة
هنا، يقول محمد علي سلّاحي (67 سنة) إن الشّخص مع تقدّمه في العمر يصبح أكثر اقترابًا من مرحلة الشيخوخة، إذ ترتبط بما يعتقده الكثيرون بـ"العجْز"، إلا أن التقدم في العمر الذي يلوّح به الرقم المحدد في وثيقة الميلاد، لا يعني -حسبه- بالضرورة التوجّه نحو العجْز، على حدّ تعبيره.
يواصل سلاحي (تقني متقاعد) في حديثه لـ"الترا جزائر": "في المقابل فإن ما هو متعارف عليه، يمكن تحويل ذلك إلى قُدرة أكبر على مواجهة الحياة، وتقبّلها كما هي، مع تقبّل الظروف وأين آلت إليه تراكمات اليوميات وتربية الأبناء؟ وهو ما وصلت إليه الكثير من النماذج على أكثر من مستوى، وفي شتّى التّخصّصات، إذ استمرت في العطاء حتى نقطة النهاية وانتهاء المهمة في الأرض.
عُمر إضافي
معنى الشيخوخة متعدّد الأبعاد،ويرتبط بعدة سياقات إنسانية فردية واجتماعية واقتصادية، ففي السياسة والأدب والرياضة وأسلوب الحياة "خريف مزهِر" لدى الكثيرين، لأنّهم أبدعوا في مجالاتهم السابقة الذكر وهم في الستين والسّبعين وحتى الثمانين والتسعين من العمر، لذا يطرح الكثير من المهتمين بشؤون الرعاية الاجتماعية في الجزائر أسئلة جوهرية مفادها: هل العمر مجرّد رقم؟ وهل الشيخوخة هي خريف العمر؟ وهل الوصول إلى سنّ معينة يعني انتهاء الرسالة والفناء؟
يقال إن السياسي لا يجلس خلف مكتب، ويقال أيضًا. إن "الحُروب تدور في مجال السياسة"، بينما تقول الحكمة: "آلة السياسة سعة الصدر "وإذا كانت السياسة حلبة صراع وضغوطات فإن السنّ مهم ويعطي تجارب لممارسي السياسة لأنّه يمكّنهم من تسيير الأحداث ولو بلغوا من العمر عتيًا..
حقيقة الأمر، تبدو بشكلٍ أوضح في الجامعات ومراكز البحوث، فمختلف الخبرات الجامعية تم تحويلها إلى خزّان معرفي تعتمد عليه الحكومات في صياغة سياساتها العامة، وهو ما تطرّق إليه الباحث في علم السكان بجامعة الجزائر كريم ينّون، لافتًا إلى أن العمر هو رصيد الأعمال والخبرات التي كوّنتها التجارب.
ودعا الأستاذ ينون في تصريح لـ" الترا جزائر" إلى أهمية استثمار كل تلك الخبرات البشرية وتدوين تجاربها وتسجيلها بالصوت والصورة وتدريسها والاعتماد عليها في مختلف التخصّصات،ولا يمكن الاكتفاء بخبراتهم التي صنعتها السنين ووضعها على الرفّ أو الإغلاق عليها في خزانة.
زحف السنوات
عندما يرنّ جرس "خريف العمر" وتبدأ الأيام في الانحدار، غالبًا ما يتوقّف الشخص في لحظة مفاجئة فينظر إلى ما يمكن تقديمه قبل زحف الشّيخوخة، إذ يسعى البعض إلى البدء في الحياة العملية وتقديم العطايا، كما تشير أستاذة علم النفس وهيبة عبادة، ففي منتصف العمر يكون الفرد مشدودًا نحو قيمته وغايته في النجاح الشخصي، وربما إعادة حساباته من جديد.
إلى هنا، تستطرد الأستاذة عبادة في حديث إلى "الترا جزائر" أن كثيرين في الجزائر لا يقدّرون مراحل الحياة ولا يعرفون ما هم فاعلون، غير أن الأعوام تصدمهم بقوة، عندما يشعرون بتقدم العمر في شكل عدم القدرة البدنية والذهنية وعدم وغيرهما من النشاطات التي كانوا في السابق يقومون بها دون عناء.
نفسيًا، يتأثر كثيرون ببلوغ سنّ الخمسين على سبيل المثال، لأن البعض يبدو وكأنه أكبر بكثير من عمره، فيهرع نحو "الكآبة" فيحلو له هذا الدّور: "دور الضحية"، فهو ضحية لمرور السنوات دون أن يفعل شيء مثلًا، ويقبل على مقارنة حياته بالغير، فتتحوّل حياته إلى منحى جامد، وربما يترعض لنزول في "الطاقة" بسبب أفكاره ومشاعره التي تتحوّل مع مرور الوقت إلى أفعال وسلوكات ثم عادات يومية.
ماكينة العمر
كثيرًا ما يتحدّث الشّباب عن الرياضة والجري والمشي والأكل الصحي الذي يفضي بهم إلى صحة جسدية وقوة بدنية، لكن في المقابل بالمقارنة مع الكثافة السكانية، كم عدد الأشخاص في الجزائر ممن يهتمون بالرياضة؟ أو يهتمون بالاعتناء بأجسادهم من حيث الغذاء والنّوم والرياضة في الآن نفسه؟ وهل هي ثقافة لمجابهة فصل شاحب في ماكينة العمر التي لا تتوقف؟
العمر في تقدم متسمتر من حيث الأرقام، وفي نقصان أيضًا من حيث طاقة القوة والجهد والذّهن، حقيقة لا مفرّ منها، غير أنها غير ثابتة للجميع، فهناك من بلغ من العمر 60 سنة ويظهر وكأنه في عمر الثلاثين، بينما هناك من عمره أربعون سنة ويظهر وكأنّه في ، وذلك بسبب عدة عوامل.
تحوّلات صحية واجتماعية
مع تقدم العمر تظهر عدة تغيرات جسمانية على الشخص، مثلما يفيد الدكتور عبد الحليم طالبي بحسب الدراسات العلمية، حيث "يفقد الجلد نضارته ومرونته وتبدأ التجاعيد في الظهور"، كما "تفقِد العظام بعض محتوياتها من الكالسيوم وتصبح أكثر قابلية للكسر، والغضاريف بين فقرات العمود الفقري تصبح أرق مما يسبب بعض الانحناء في الظهر، فضلًا عن تساقط للأسنان، فيما يغزو الشيب شعر الرأس أو يتساقط الشعر، كما يضعف السمع والبصر بعض الشيء، ويصبح الجسم أكثر تعرضًا للأمراض والآلام العامة.
وفي الطب دائمًا تشير الأبحاث، يضيف الدكتور طالبي في تصريح لـ"الترا جزائر" إلى "ظهور 92 مرضًا مختلفًا لهذه الفئة العمرية من بينها 13 مرضًا تتعلق بنظام القلب والأوعية الدموية وخمسة أمراض الجهاز الهضمي، مرض السكري، وسبعة أمراض الأعضاء الحسية، وخمسة أمراض الجلد، وستة أمراض تتعلق بصعوبة التنفس، و35 أمراض متنوعة من ضمنها السرطانية.
بالأرقام أيضًا، توصلت دراسة حديثة أجراها عدد من العلماء، وفقًا لبيانات سكان من 195 دولة حول العالم إلى أن موعد حلول الشيخوخة تأتي بمتوسط 65 عامًا. وبحسب بيانات تقرير التوقعات السكانية في العالم، فمع حلول عام 2050 سيكون 16% من عدد سكان العالم (واحدًا من كل ستة أفراد في العالم) أكبر من سنّ 65 سنة، كما تتوقّع أن يزيد عدد من هم فوق سن الـ 80 ثلاثة أضعاف يصل إلى 426 مليونًا في عام 2050.
بناءً على ما سبق، يرجّح أن تصبح الشيخوخة واحدة من التحولات الاجتماعية الأكثر أهمية، حيث ستؤثر على جميع قطاعات المجتمع، لأن الأمر يتعلق بثقافة الأفراد وتعاطيهم مع يومياتهم.
الأستاذة عبادة لـ "الترا جزائر": كثيرون في الجزائر لا يقدّرون مراحل الحياة ولا يعرفون ما هم فاعلون غير أن الأعوام تصدمهم بقوة
ميدانيًا، وضع كثيرون العمر على الرفّ وتجاوزوا عقدة تقدّم السنوات وهيمنتها وحولوا تراكمات التجارب إلى فعل يومي وطاقة قوة، وهذا ما تظهر مفعوله التجارب، التي تفيد بأن العطاء الإنساني والإنجازات المساهمة في تنمية البشر لا ترتبط بالعمر بقدر ما ترتبط بإيمان الإنسان برسالته طالما له إمكانية لذلك، فالخريف فصل شاحب وعلامة لتساقط الأوراق الميتة، لتنمو أوراق أخرى نابضة بالحياة.