23-أغسطس-2022
رجل يتفقد بقايا شاحنة إثر حرائق غابية بولاية الطارف (الصورة: أ.ف.ب)

رجل يتفقد بقايا شاحنة إثر حرائق غابية بولاية الطارف (الصورة: أ.ف.ب)

ما الذي تفعله الكوارث الطبيعية بالبشر؟ وماذا تخلّفه الحرائق من حرقة ويأس؟ وماذا تصنعه الزلازل بالنّاس؟ قد ينهض اليائس من رماد تركته النّار التي أكلت شجرات الزيتون وأشجار الصفصاف والتين والحقول الباسقة، بعدما غرستها الأيادي طيلة عمر من الزمن، وقد يستفيق النّاس ما التهمته النيران من الأملاك كالبيوت والزّرع والحيوانات وتركتها بقايا فحم أسود.

تتكرر الأسئلة حول العمران في الجزائر وعن جدوى البناءات المترامية على أراضي زراعية متحركة أو على حواف الوديان النائمة

 يعود الإنسان إلى المكان الذي حطّمته هزة أرضية، يكتشف بيته الذي انهار أو يبحث عن شيء ثمين تركه وراءه، وقد يحنّ البعض لمكان كان قبل ثوانٍ من الهزة مسكن العمر وملجأ الشباب ومحضن الطفولة، ليجدها أسوارًا تكاد أن تنقضّ.

في العام 2001، شهد كثيرون كارثة فيضانات باب الوادي بالعاصمة الجزائرية، إذ سقطت الأمطار بغزارة لم تشهدها المدينة البيضاء منذ سنوات سابقة، وعكس اليوم، وُسِم ذلك اليوم العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر إعلاميًا بـ"المرعب .. غضب المطر والسماء"، ذلك في فترة الصحافة الورقية المكتوبة وفي غياب كلّي لوسائل التّواصل الاجتماعي، وقتها كتبت الصحف المحلية والدولية عنوانا عريضًا: "السبت الحزين في الجزائر".

لملمت الجزائر جراحات عشرات من العائلات، إذ هبّت كل الولايات للتضامن مع الأسر المتضررة، عشرات فقدت أبناءها ممن جرفتهم مياه الأمطار إلى البحر، سيول جارفة حولت العاصمة في دقائق معدودات إلى أوحال وجثث ومفقودين ومنكوبين، لحدّ اليوم لازالت الذكرى نقطة سوداء في عاصمة البلد بشيء من الوجع وبالكثير من الأمل.

لحظتها طرحت الصحافة الجزائرية آلية:" هيئة المخاطر الكبرى"، كما طرحت أسئلة حيال المجاري التي تمّ سدها بسبب لجوء الإرهابيين إليها وقت الأزمة الأمنية، كما طرحت العديد من المسائل المتعلقة بتهيئة العاصمة الجزائرية ومسالكها الوعرة وطرقاتها التي أصبحت لا تفي بالغرض الذي شيدت لأجله، بسبب كونها مدينة توسعت على الأطراف دون تجديد مسبق للبنى التحتية وأهمها الطرقات والمسالك الاجتنابية وبناء فوق بناء وأحياء تنمو على أطراف أحياء أخرى.

في العام 2003 كثيرون كانوا شهود عيان على زلزال 21 أيار/ماي 2003. هزات أرضية ضربت كل من العاصمة الجزائرية وولاية بومرداس، الزّلزال الذي بلغت شدته 6.8 درجات على سلم ريختر أتى على أحياء سكنية بأكملها؛ ففي حي درقانة على سبيل المثال، سكنات من خمس طوابق ومحلات انهارت وابتلعتها الأرض في رمشه عين، ولم يبق منها سوى الصور وبعض التصريحات للنّاجين.

حسب الأرقام الرسمية خلّف ذلك الزلزال آنذاك 2261 قتيلًا وإصابة 10,261 شخص فضلًا عن تضرّر أكثر من 1,243 بناية من عمارات وسكنات، إضافة إلى تضرّر البنى التحتية في عديد البلديات والمناطق في بومرداس والعاصمة الجزائرية.

تتكرر الأسئلة والأطروحات المتعلقة بالبناء في الجزائر، ويعاد معه شريط الحديث عن جدوى البناءات المترامية على أراضي زراعية متحركة، أو على حواف الوديان النائمة، فالطبيعة تنسى لبرهة ولكن عودتها للأصل حتمية، وهو ما دفع بخبراء إلى إحصاء السكنات الهشة التي بنيت على جوانب الوديان التي اختفت بفعل الطبيعة، بل ودقّ البعض ناقوس الخطر الذي يحدق بالسكان بمجرد تساقط الأمطار أو عملية تنفس الأرض برجّة حتى وإن كانت درجاتها خفيفة.

خلال عشريتين من الزّمن، شهدت عديد المناطق الجزائرية عدة نكبات طبيعية: الزلازل الفيضانات والحرائق، لكن في المقابل من ذلك ظلّت السّلطات المحلية تتعامل معها بردّ الفعل، دون الاعتماد على التخطيط الاستباقي، خاصة إن كان زلزال بأربع درجات على سلم ريختر بإمكانه أن يهدم بيوتًا ومساكن، فعلى التحقيقات الجارية العودة دوما إلى السؤال الرئيسي: أين بنيت هذه السكنات.

زلزال ولاية ميلة شرق الجزائر في صائفة 2020 مسّ عدة مناطق على رأسها حي " الخربة" أكبر التجمعات السكنية بأعالي قلب المدينة، وتضررت بسببه البيوت التي شيدت على أراضي فلاحية ومناطق تتوافر على كميات هائلة من المياه، وهنا وجب الإشارة إلى أنّ هذه المدينة الذي سميت قديمًا في الفترة الرومانية بـ "ميلاف" وتعني "مدينة الألف منبع"، كما تمتلك اليوم أحد أكبر السّدود في أفريقيا، حيث يوفر الماء الصّالح للشّرب لستّ ولايات شرق البلاد،  فإن أراضيها تحتاج اليوم إلى دراسات هندسية قبل تسليم دفتر ترخيص البناء.

إذن فالسؤال الذي سبق وأن طُرح يحيلنا دومًا إلى مشكلة التّخطيط العمراني في الجزائر، والتخبط الكبير الذي تشهده مختلف المناطق، وهي حالة كثيرًا ما نبّه إليها الخبراء في مجال الهندسة المعمارية، فضلًا عن مجال علم اجتماع العمران.

لكن للأسف كانت الآذان صماء ولازالت الإدارة المحلية ماضية في مشروع بناء مليون سكن ولا يهمّ أين وكيف ولمن هي موجّهة، موازاة مع القضاء على السّكنات الهشّة والبناءات الفوضوية التي شيّدت على حواف الوديان لظروف متشعّبة  وأسباب معقّدة أبرزها الأزمة الأمنية التي عاشتها الجزائر في سنوات التّسعينات، وتسبّبت في هروب جماعي للعائلات من ويلات الإرهاب وجحيم الجماعات المسلّحة..

الخطط الاستباقية من شأنها تلافِي بعض المخاطر أو تذليل مخلّفاتها وتخفيف وطأتها، خصوصًا وأنّ الكثير من سكّان المناطق المتضرّرة يؤكّدون على أن إنجاز المشاريع السكنية وتنفيذ برامج ومشاريع وزارة السكن والعمران قد التهمت المئات من الهكتارات من الأراضي الصّالحة للزِّراعة.

بعيدًا عن فرضية " القضاء والقدر"، يستوجِب الواقع النظر للمرآة، فالحقيقة صادمة ولكن بإمكان تجاوزها، إذ مازالت الجزائر تحصِد ما خلّفته الطبيعة وتداعياتها من خسائر، فأصبح للضحايا تسميات مثل "منكوبي الفيضانات"و"منكوبي الزلزال" و"منكوبي الحرائق" وتراكمات السنوات التي لا يمكن التخلّص منها بجرّة قلم أو بقرارات سيادية أو بأغلفة مالية أو بتضامن إنساني.

إلى متى تكتفي الحكومة بتعويض المتضررين من الكوارث عوض إنشاء هيئة استشراف تتدارك بها أخطاءها؟

فالحقّ يقال أن الحكومة لم تقصّر في رفع الغبن نفسيًا عن المتضررين بإعلانها تعويضهم ولو بعد أشهر أو سنوات، ما يستدعي التفاؤل، ولكن إلى متى تظلّ سلعة الحكومة هي تقديم تعويضات عن أخطاء من المفترض أن تحترس منها ببعض من الحِكمة وبهيئة استشراف تنقذ الجزائريين من مآسي الصيف والشتاء؟ ما يستدعي نظرة التّشاؤم، فما بين الحالتين حقيقة تستدعي إيقاف تسرّب الألم من قلوب الجزائريين ونزيف الأمل من نفوسهم، وإلا فالصيف سيكون فترة رعب لن تمحى من الأذهان.