27-فبراير-2024
 (الصورة: Getty) دار المسنين

(الصورة: Getty) دار المسنين

يطلق محليًا على دار المسنين في الجزائر "دار العجزة"، وهي تسمية شعبية إضافة لكونها مرتبطة بالعجز والهرم ونهاية الحياة، فهي أيضًا لها معاني ودلالات مجتمعية سيئة السمعة، غالبًا ما يربطها كثيرون بالمشاكل الاجتماعية والإهمال، فقد حدث في إحدى الولايات الجنوبية أن اجتمع سكان المدينة، ونظموا احتاجات واسعة على خلفية تشييد دور للمسنين في حيهم، انتهت هذه الاحتجاجات بحرق هذه الدار وتدميرها، في رسالة موجهة للسلطات مفادها أننا مجتمع لا يرمي والديه في دار للمسنين.

يواجه كبار السن صعوبات كثيرة خاصّة في السنوات الأولى من فترة  تقاعدهم منها الافتقار إلى المكانة التي كانوا يحظون بها قبل ذلك

ربما ربط هؤلاء دار المسنين بعقوق الوالدين وما شابه، ولكن ليس كلّ كبار السن قصصهم وظروفهم العائلية متشابهة، فليس بالضرورة أن يمتلك كبير السن عائلات وأبناء عاقين أو أناس تخلوا عنه، فالأقدار ترمي بكثيرين إلى هنا ممن تقطعت بهم السبل في الحياة وانتخى بهم الأمر دون مأوى أو سقف دافئ يأويهم، إذ يجتمع في دار المسنين أشخاص لا تربطهم قرابة أو علاقات صداقة سابقة، فقط عامل السن وتعب السنوات هو ما يتقاسمونه جميعًا، لكن جدران هذه البنايات تُخفي الكثير من القصص والأسرار، وتفتح أنّات ساكنيها الكثير من الملفات والقضايا الاجتماعية الصامتة.

في إحدى هذه الدور، تطمح السيّدة شريفة أن تُكمِل ما تبقّى لها من العُمر، بعدما بلغت سن الـ 87 سنة ولم يتبق لها سوى جُدران غرفة في إحدى دور العناية بالمسنين، وفي هذا المنحدر من العمر يرافقها في هذه الرحلة الداخلية، عُكَّاز تتكئ عليه متى أرادت الخُروج للشّمس، وقليل من الذكريات الجميلة وكثير منها ما تغلفه عبارات النّدم وتعبر عنه بعلامات الأسف وإيماءات الحسرة على أمل نسيان الكثير.

لا يُمكن اليوم ترميم ما حدث، أو تجميله لأن الذي حدث انتهى، فلا تمتلك الطاقة التي تعطيها ذلك النَّفَس لمجابهة بعض الأوجاع والكثير من المشاهد التي لازالت تحتفظ بها الذاكرة، "ابنتي يا ليتني أنسى مثل بعض زميلاتي هنا، بعضهن يعشن اليوم بلحظاته، أما أنا فغارقة في دهاليز الذكريات".

تقول السيدة "شريفة. ب" في حديث إلى "الترا جزائر" إنّها كل يوم تتجوّل بين تفاصيل ذاكرتها، وكأنّه "مستودع في الطابق الأرضي لبيتها"، من الضروري أن تنزل إليه بعكازها، ففي كل مرة تستيقظ تلك الذكريات وتصادفها تلك التفاصيل، تنتفض وتتقلب في الفراش ثم تتحرّك وتنهض، حتى تمشي ولو بصعوبة كبيرة في الغرفة.

هي ذكريات تزعزع كيانها، وكأنّها تُعيد على ذاكرتها المشهد نفسه وكأنه حدث البارحة، بمختلف تفاصيله، وأحداثه وشخوصه، وفي محاولتها الحثيثة لتذكُّر حكاية ما، تنهمر على ذاكرتها قصص أخرى تعود دون وعيٍّ، فملف ذكرى معينة يفتح لها نوافذَ ذكريات أخرى، فتستفيق مجدّدًا، مثلما يعود الألم لجسد المريض عندما ينتهي مفعول إبرة التّخدير.. "أي قدرة تملكها لمواجهة تقلّبات الزّمن في هذا العمر؟".

حقيقة أم خيال؟

تتحدّث كثيرات في دار العجزة بباب الزوار بالعاصمة الجزائرية عن عدة مسائل لا يفهمها سوى من بلغ من العمر عتيًا، فأغلب حواراتهن تدور حول "إعادة ترميم الحياة"، ذلك من زاوية نظر بعضهن لأن ذاكرتهن طويلة، مثلما تقول السيدة شريفة إنّ "ذاكرتها ممتدّة وعميقة ومتشعّبة"، ففي بعض الأحيان تغوص في أحداث تعود لعقود من الزمن قد تتجاوز نصف قرن كامل، بينما " تغبِط" زميلاتها في الدار خاصة من لديها "ذاكرة قصيرة".

خلال فترة الصمت التي تعقب لحظات الضحك وتجاذب أطراف الحديث، بزغ سؤال بسيط، يتعلّق بنظرة هؤلاء لتجاربهم السّابقة والمحطّة التي وصلوا إليها الآن؟، الجميع غصّ في ذكرياته، وتغيّرت ملامح الوجوه من ابتسامة إلى حزن، فأحيانًا الوجوه وحدها كفيلة بإيصال الرسائل، ولا يحتاج المخبّأ في القلب من كلمات وتعبير، فالظّاهر أنّ السؤال أحيا حقيقة كامنة غيّبتها تلك اللحظات التي اقتطعنها في مرحلة من حياتهن.

الكثيرات فقدن نضارة الوجه مع التقدّم في السنّ، وهذا أمر طبيعي وحالهن: " ليت الشباب يعود يومًا"، غير أن الحزن أو الغضب أو الأمراض المتّصلة بهما نهشت الكثير من سنين العمر وأفقدت الجسد قوته.

السيدة سكينة من ولاية سكيكدة شرق الجزائر تقول في حديث إلى "الترا جزائر"، إنها تتحمل المسؤولية كاملة في تربية أبنائها وحتى أحفادها، "لقد علّمتهم الاتكالية وأنني أقبل بأي شيء من باب التضحية لأجلهم، غير أن الذي حصل هو ما أنا عليه اليوم .. أنا في هذا المكان".

لا يمكن تحميل الآخر المسؤولية، غير أنها ترى أن وجودها في هذا المكان أفضل بكثير من أن تسمع كل يوم "كلامًا بذيئًا" أو الدخول في شجارات لا تنتهي، أو مشاكل يومية بالجملة، لكن في المقابل يتطلع قلبها بأن يبحث عنها أبناءها.

عطب الروح

في حالة كثيرات، فإن طبيعتهن الفيزيولوجية، كما يشير مختصون، هي الأكثر عُرضة للأمراض، لأسباب كثيرة، فبالإضافة إلى عملية الولادة المتتالية، فإن المرأة تضعُف قدرتها البدنية كلّما تقدّم بها السنّ، وبذلك تحلّ محلّ الحيوية التي عاشتها من قبل، أما نفسيًا فالمرأة تحمل الغصة وراء الغصة فتتحول إلى أمراض عضوية.

بعيدًا عن دار المسنين، فإن قصص كبار السنّ هي الأنين الداخلي، والفضفضة عنه تحتاج إلى الكثير من القوة والجهد والصبر أيضًا، فالحديث عن الذكريات هي عكّاز آخر بالنسبة لهم، غالبًا ما يتأثرون كثيرًا بأة كلمة سيئة يسمعونها أو مرّوا بظروف اجتماعية صعبة، رغم أن الكثيرون "يتمسكون بالصبر".

في حالة المرأة الجزائرية كثيرات من تحملن عبء الأسرة بعد وفاة الرجل مثلًا أو عقب علاقة زوجية فاشلة وأدّت إلى الانفصال، إلا أنها في المقابل ستجمع مع مرور الزمن الكثير من الأمراض التي تؤذي النفس والروح.

بذلك تصبح المرأة على حدّ تعبير المختصة في أمراض النساء فريدة بلجودي عبارة عن "كُتلة اكتئاب"، لافتة إلى أن هناك تفصيل مهم جدًا لدى المسنّين الرجال، وهو ما يجعل الاختلاف بينهم وبين النساء جليا.

وتضيف بلجودي قائلة لـ" الترا جزائر"، إنّه إذا كان المعنيون منهم قد أحيلوا على التقاعد، لذلك يواجه بعضهم صعوبات كثيرة خاصّة في السنوات الأولى من فترة التقاعد، منها الافتقار إلى المكانة التي كانوا يحظون بها قبل ذلك، علاوة على غياب وظيفية المتقاعد في محيطه الأسري والبيئة الأخرى كالحي والمنطقة، بعدما كان يتسم بالحركة والحيوية الاجتماعية والمهنية، وتقلّ بذلك معها "قيمته الاعتبارية لما كان يزاول مهماته اليومية في الوظيفة، خصوصًا إن كان في منصب مسؤولية، بل وكان يحسب له ألف حساب في بيئته المهنية وفي محيطه العائلي والاجتماعي"، وبالإضافة إلى ذلك يشعر المسنّ المتقاعد بالفراغ، بعد أن انفضّت العلاقات المرتبطة بالعمل من حوله.

هذا الاختلاف بين المرأة والرجل في مرحلة تُوسم بـ"خريف العُمر" كلها تؤدي بكليهما إلى الدخول في حالة السكون الثائر، كما يصفه المختصون، وذلك نظرًا إلى أن ركونهم للصمت لا يعني أنّهم هادئون أو يشعرون بالراحة، فخلف ذلك الصمت الكثير من الكلام، وغالبًا كلام لم يقل إطلاقًا، فأغلب قاطني دار المسنين يحملون في داخلهم قنابل موقوتة، أو شحنات قصص وتجارب قديمة حجبتها السنين وشكّلت معها تراكمات مؤلمة، بمجرد أن تضع يدك عليها أو تخدشها تنفجر.

حياة إضافية

تعتقد أستاذة علم الاجتماع سارة بوهدنة أن العامل الأساسي لتفهم هذه المرحلة العمرية، بكل ظروفها لدى البيئة القريبة كالعائلة والبيئة البعيدة كالحي والمجتمع هو الثقافة، هو تقبل هذا المعطى الجديد في تداعيات ذكريات سنوات العمر والماضي بكل أفراحه وأحزانه.

هناك فرق بين مسنّ معافى وآخر متعب، فإذا استطاع البعض منهم العيش من دون متاعب صحية ونفسية، وفي بيئة جيدة، سيتمكنون من إكمال حياتهم بكل أريحية، تضيف الأستاذة بوهدنة لـ"الترا جزائر"، بأنه على خِلاف ذلك عندما يقضي كبار السنّ حياتهم مع المعاناة والتعب والإرهاق بسبب تراجع قدراتهم البدنية والعقلية، فإن آثار ذلك على نفسيتهم صعبة جدًا.

في هذا السياق، ترجع الاختلافات في صحة كبار السنّ، هناك عوامل أخرى، كالمسكن الذي يعيشون فيه، وظروفهم المادية والاجتماعية، ما يؤثر على سلوكهم، وتعاطيهم مع الحياة.

محطة أخرى..

هي محطة أخرى لكبار السنّ وليست أخيرة، فعندما نعود إلى الحلّ الأخير الذي وجده هؤلاء، فدور مراكز الشّيخوخة والرّعاية، متعددة، لأنّها "تُشكّل بيئات اجتماعية داعمة للأفراد، وتسمح لهم بفرصة القيام بما يرونه مهمًّا بالنسبة لهم، على الرغم من تراجع قدراتهم".

بالنسبة للسيد رشيد (78 سنة)، المنحدر من ولاية سطيف شرق البلاد، فإن هوايته التي تعيد له الحياة هي التشجير، والاعتناء بالأشجار والورد، وهي مهمة جعلته ينسى ماضيه مع الكائنات الحية الخضراء، مشيرًا لـ"الترا جزائر" أنه في السابق عالج في مصحة عمومية من مرض السكري والضغط الدموي، بمساعدة المحسنين في ولاية قسنطينة، بعدما " تخلى عنه الجميع بما فيهم الأولاد".

رغم كل شيء مر به، إلا أنه تجاوز مرحلة فقد الأبناء وهم أحياء بانخراطه اليومي مع زملاء له في مركز الشيخوخة، قد أسهم في تضميد جراحه، ومسح عنه الكثير من الهموم.

وفي هذا السياق، تُفيد المساعدة الاجتماعية، المختصة في الطب العام، الدكتورة آسيا بن الديب، بأنّ البيئة الداعمة وجب أن تتوفّر في المحيط الاجتماعي للأفراد ومنها وسائل نقل تكون آمنة على المسنين وتستجيب لمقدرتهم على الصعود والجلوس والنهوض والنزول، كما يمكن الوصول إليها بسُهولة، فضلًا على أماكن يسهل التجول فيها، وتخصيص مباني عامة تُساعد هذه الفئة.

في مقابل تخصيص مراكز للمسنين والعناية بهم، تدعو الدكتورة بن الديب في حديثها لـ "الترا جزائر" إلى تخصيص مثل هذه الوسائل، التي تدخل في إطار عمل مختلف الوزارة الجزائرية، وتتداخل فيها المسؤوليات وتتكاتف فيها المبادرات. 

وبخصوص استجابة الصحة العامة للمتقدمين في السنّ، ذكر المشتغلون في هذا الحقل الاجتماعي، بأن هناك تحديات واختلافات في مواصفات كبار السنّ فبعضهم لديهم قدرات بدنية وذهنية كشخص عمره أربعين سنة، بينما هناك من عمره 80 سنة ولكن قدراته كطفل صغير، بسبب تراجع بنيته الجسدية والذهنية، وهذا ما يجب أن تراعيه الصحة العامة.

أستاذة الاجتماع سارة بوهدنة لـ "الترا جزائر":  العامل الأساسي لتفهم هذه المرحلة العمرية هو تقبل هذا المعطى الجديد في تداعيات ذكريات سنوات العمر والماضي بكل أفراحه وأحزانه.

وعليه، فهناك من يتحدث أن العكاز الذي يستأنس به المسنون في قيامهم ومشيهم وحتى في استعمالات أخرى، يحتاج إلى سند أكبر يحتاجون إليه كوسائل مريحة وتلبي احتياجاتهم الشخصية في هذه المراكز التي تعتبر عكازًا آخر ينسيهم عذابات سنوات العمر والتجارب والخيبات أيضًا.