01-فبراير-2020

يرفض كثيرون قبول المساعدات أمام عدسات الكاميرا (تصوير: جون أييسي/أ.ف.ب)

في الطريق نحو البلدية، سارت السيدة نعيمة ذات الـ 54 عامًا، رفقة ابنتها سارة ذات الست سنوات. وقفت أمام المدخل وهي تتلفّت خلفها، وكان أوّل شخص قابلته مسؤول الإعانات الاجتماعية، وبنظرة خجولة، سألته عن موعد توزيع الإعانات من المواد الغذائية، بعدما يئست من كلّ تلك الوعود التي تلقّتها كل مرّة، ولكن المسؤول نهرها بصوت مرتفع، وهو يشير بيده نحو المكان المفترض أن تنتظر فيه.

 أحدثت خرجة والي برج بوعريريج لدى استجابته لنداء طفلٍ على مواقع الاجتماعي يريد كرسيًا متحركًا جدلًا واسعًا

 بلغة فجة وقاسية جدًا، كما قالت نعيمة لـ "الترا جزائر"، كان من المؤلم جدًا أن يوجّهها بتلك الطريقة. الجميع في بهو البلدية "رمقوني بنظرات ممزوجة بالشّفقة، أليست المعونة هي ملك للدولة؟ لكن البشر حوّلوها إلى باب للمذلّة، فما بالكم بتلقّي مساعدات أمام عدسات الكاميرات؟".

اقرأ/ي أيضًا: طبيب جزائري في مخيمات الروهينغا

استعراضٌ سياسي

في هذا السياق، أحدثت خرجة والي برج بوعريريج عبد القادر بلحزاجي، لدى استجابته لنداء طفلٍ على مواقع الاجتماعي، يريد كرسيًا متحركًا، جدلًا واسعًا في الأوساط الاجتماعية الجزائرية، كيف لا وهو استدعى وسائل الإعلام، لتوثيق هذه اللحظة، مستغلًا حاجة الطفل إلى المساعدة، فظهر في التقرير وهو يتّصل مباشرة من مكتبه بعائلة الطفل، ويتحدّث بنبرة مبالغ فيها بأنّه مستعد لتقديم أيّ شيء، وصولًا إلى مشهد تسليم الكرسي المتحرّك مرفوقًا بوسائل إعلامية.

لحدّ اللحظة، لا يمكن إنكار أن كثيرين سبقوا الوالي إلى هذا النوع من المشاهد، التي يرفضها الجزائريون عمومًا، تحت عنوان: "دير الخير واتصوّر معاه"، العبارة الشهيرة التي لاحقت أصحاب المساعدات الخيرية، وبنفس طريقة والي البرج. هنا، يقول الطالب في كلية الحقوق سليم بن عبد الرحمان لـ "الترا جزائر" إنّ إعانة شخص من باب الإنسانية، لا تتطلّب هالة واسعة من التشهير به، وبفاعله ومتلقّيه أيضًا.

يقرأ البعض، "السقطة" التي وقع فيها والي ولاية برج بوعريريج، من منظور سياسيّ، وأنّها مجرّد "حركة من شأنها أن ترفع أسهم المسؤول في ولايته، ينتهجها الكثيرون من موظفي الدولة، عبر البلديات والدوائر والولايات لتوظيفها سياسيًا، وكسب نقاط لدى الجهة التي وظفته" بحسب الناشط الحقوقي، عبد الله يوزيان.

يعتبر المتحدّث، أنّ الخطوة وغيرها من الصور التي باتت تُنقل عبر التلفزيون وتنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، "مخيّبة أكثر ممّا هي مُفرحة، خصوصًا إن كان المسؤول له سوابق وأخطاء في منطقته، ويُحاول بهذه الوسائل أن يروّج لصورته ". موضحًا لـ "الترا جزائر"، أنّ طريقة المشهدية التلفزيونية، تهدف إلى تصحيح صورة سابقة للمسؤول أو تلميعها، خصوصًا في ظلّ الظروف التي تعيشها البلاد، والتغييرات السياسية المتوقّعة، وبحث الجميع عن فرصة للتموقع، على حدّ قوله

يصف الناشط الحقوقي بوزيان، هذه المشاهد في الظرف الراهن، بـ "صك غفران سياسي"، يحتاجه البعض لتبرير قراراتهم، مثلما فعل والي ولاية ميلة عمير محمد، الذي استجاب بدوره لنداء ذلك الراعي الذي تمت سرقة أغنامه، وأحدث الفيديو الذي نشره، موجة عارمة من التضامن في أوساط التواصل الاجتماعي، فأهداه الوالي، وثيقة رسمية تفيد باستفادته من سكن ريفي، وبعض المال لشراء أغنام، ولكن تحت أعين الكاميرات صوتًا وصورة.

هذه الأمثلة التي ترافق في كثير من الأحيان، عمليات التبرّع للمحتاجين، اعتبرها البعض نوعًا من أنواع التسويق السياسي، التي تتّخذ قالبًا اجتماعيًا، حتى يظهر المسؤولون، في صورة المهتمين بانشغالات المواطنين، بل هناك من يراها عبارة عن وسيلة لـ"تحسين سيرتهم الذاتية، في ظلّ أوضاع سياسية متحرّكة" يقول الباحث في العلوم السياسية عمار بوثلجي لـ"الترا جزائر". مضيفًا أن ذلك يشير إلى تخلّي المسؤول عن مهامه التي أوكلت إليه، ويبحث عمّا يريده المواطن بشعبوية فاقت الحدود، في حين أنّ الكثير من الوعود، مازالت عالقة، رغم تعاقب المسؤولين على مختلف إدارات البلاد، لعقود من الزمن، وهذا في حدّ ذاته خيانة كبرى للوظيفة والمسؤولية، على حدّ قوله.

خدش للكرامة 

اجتماعيًا، ترسم المناطق النائية والقرى والمدن الصغرى في الجزائر، صورة أخرى عن التشهير بالفعل الإنساني من عدّة جهات، حيث "الكل يعرف الكلّ"، كما قال محمد ليماني، وهو أحد أعضاء جمعية "سواعد الخير" من ولاية أم البواقي شرق الجزائر، موضحًا "من العار أن تقف امرأة أمام باب الذلّ لأجل إعانة أبنائها بعد وفاة الزوج، أو تترجّى مطلقة طلب إعانة في فصل الشتاء، لتجد صورها في كل مكان"، من العار أيضًا، يضيف القائل، أن يُصبح للخير معنىً واحدًا وهو التشهير به، بعيدًا عن كل التقاليد والأعراف والدين أيضًا، متسائلًا: هل يعقل أن يصبح الفعل الإنساني عبارة عن صورة تروّجها وسائل الإعلام؟

لا يمكن أن تتعدّى الأعمال الخيرية، حدود ذلك السقف الاجتماعي الذي لفت الجزائريين في كل المناسبات، وبطرق إيجابية، مختلفة هنا وهناك. " الله يقوي الخير"، تقول زهرة معروف، المنخرطة في إحدى جمعيات الخير بولاية الشلف لـ"الترا جزائر"، لكن ما تراه اليوم هو "كرمٌ استعراضيٌّ فرديٌّ، لا يُمكن تعميمه، بل هي فكرة ساذجة".

اعتبرت معروف، أن المسؤولين يُحاولون تبنّي فكرة الاستجابة الفورية لنداءات بعض المواطنين، وبطريقة استعراضية أقرب ما تكون إلى الإشهار لحملة خيرية أو جزء من تمثيلية إنسانية، تؤثر في المشاهد فترة وجيزة، ثم ما تلبث أن تُنسى، على حدّ تعبيرها.

تستطرد المتحدّثة، أنّ "محاولة المسؤول في الجزائر، قلب التقليد المتعارف عليه من تملق وتزلف المواطن للحاكم، إلى تودّد الحاكم للمحكوم، هي مجرّد فكرة حالمة غير مبنية على أرضية صلبة"، مضيفة أنّ "معالجة قضايا الناس، من عوز ومرض ومظلوميات، يجب أن يتمّ وفق برنامجٍ مدروسٍ يخضع لإحصاء الحالات وترتيبها، من حيث النوع والأولوية، ومن ثم تحضير جدول زمني وميزانية خاصّة، حتى تتمكّن السلطة المعنية من تقديم المساعدة الفورية لأصحابها، بناءً على ملفٍ معالجٍ بدقّة".

كثيرة هي الجمعيات الخيرية المنتشرة في الجزائر، ممن اتخذت وسيلة تواصلية في بعث عمليات الأعمال الخيرية، ومساعدة الأسر الفقيرة والأيتام، دون التسبّب في إحراج لأصحاب الحاجات، إذ اتبعت منهجية في الإحصاء ودراسة أوضاع المحتاجين، وتقديم المساعدات لهم، بعيدًا عن أعين الناس والكاميرات والتلفزيونات، التي بدورها أفرغت المحتوى من لفتته الإنسانية.

تسعى الجمعيات والبرامج الخيرية على التلفزيونات، إلى تبرير تصوير عمليات المساعدة على المحتاجين

من زاوية أخرى، تسعى الجمعيات والبرامج الخيرية على التلفزيونات، إلى تبرير فكرة تصوير عمليات المساعدة على المحتاجين، بتشجيع عمليات التبرّع، وإيصال رسائل المحتاجين إلى من يملك القدرة على تقديم المساعدة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الجزائر تُرسل مساعدات إنسانية "هامّة ومستعجلة" إلى ليبيا

رحلة متطوّعين إلى جانت.. 40 ساعة بين الواقع وأخبار التلفزيون