31-يوليو-2023
 (الصورة: Getty)

في الجزائر العاصمة (الصورة: Getty)

في الجزائر يقتصر العمل السياسي على المناسبات والأنشطة الحكومية، ويصدح صوت السياسيين في المواعيد الكبرى مثل الانتخابات والتغييرات الحكومية، ويطل بخفوت على نحو قليل في طرح بيانات مساندة أو شجب وتنديد، بينما يصمت نهائيًا في فصل الصيف تماشيًا مع العطلة السنوية.

هل العمل السياسي وظيفة عمومية مرهون بمواعيد وعطل؟

فهل العمل السياسي، باعتباره يمثل خدمة المجتمع والمشاركة في صناعة المؤسسات، وظيفة عمومية مرهون بمواعيد وعطل؟ أم هو دفاع عن المبادئ والنضال لأجل ترسيخ قيم أو لمساندة المظلومين ورفع الغبن عنهم وتوجيه الرأي العام السياسي والشعبي إلى ثغرات الحكم؟

غابت الأحزاب السياسية في المشهد اليومي العام، خصوصًا عقب الحرائق التي اجتاحت عدة ولايات واكتفى بعضها بالتعازي، فيما أغلقت بعضها مختلف أعمالها مع العطلة الصيفية، رغم بعض الأحداث التي تعرفها البلاد من الوقفات الاحتجاجية التي نظمها آلاف البطالين من الحاصلين على شهادات الدكتوراه والماجستير عبر مختلف ربوع الوطن، واحتجاجات المواطنين بسبب انقطاعات الكهرباء والماء في العديد من المناطق في عز درجات الحرارة المرتفعة، فضلًا عن غياب تام لرؤية الاستعداد للدخول الاجتماعي القادم وغيرها من القضايا التي لم تظهر الفعاليات السياسية دورها المنوط بها.

هذا الأمر أثار عدّة تساؤلات المتابعين للشأن العام في الجزائر، خاصة الغياب عن النشاط والفعل السياسي، واختفاء الفعاليات السياسية أسابيع طويلة، رغم أن الساحة الوطنية بحسب أستاذ العلوم السياسية علي بكاري "محفوفة بالأحداث والقوانين التي وجب التعريج عليها بالمناقشة وإبداء الرأي وتقديم الرؤى والحلول واستشراف المستقبل أيضًا".

ويعتقد بكاري في حديث إلى "الترا جزائر" أن الفعل السياسي في الجزائر بات مرتبط باتجاه المنظومة السياسية وإتاحة الفرصة لصياغة القوانين والإسهام في تقرير بعض السياسات التنموية المستقبلية، وليس انتظار "مبادرة واجتماعات مغلقة".

غياب النقاش السياسي في الجزائر ، كما أشار بكاري، مرتبط أساسا بـ"أحادية الفكرة أو التوجه الواحد أو المستقيم" في علاقة بين النشاطات الرسمية وضرورة الظهور حيالها شكليا فقط وهو ما يطرح عدة تساؤلات وربما أيضًا يقدم أحد التفسيرات لهذا "الخمول السياسي".

ترتيب البيت الداخلي

حضور الأحزاب في الساحة أو ظهورها في الواجهة بشكلٍ علني ودائم، غير متوفّر في الجزائر، إذ يعتقد الكثيرون بأن ذلك مرده إلى عدة عوامل أهمها العامل التنظيمي وإعادة بناء هياكلها، وبقائها في حالة تغير داخلي وغير فعلي في الساحة، في مقابل تراجع أسهمها بالنظر لهشاشة الترسانة القانونية الناظمة للفعل السياسي وتسييجه ببعض القوانين التي فصلت بين الفاعل السياسي والنقابي على سبيل المثال لا الحصر.

وبرأي الإعلامي عثمان لحياني، فإن أغلب الأحزاب كانت منشغلة بعقد مؤتمراتها وبإعادة التشكل تنظيميًا وداخليًا سواء على المستوى المحلي أو المركزي على غرار حركة مجتمع السلم وجبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، في حين انشغلت الأحزاب الأخرى أو ما يوسم بـ" أحزاب الموالاة"، بالانخراط في الفعل السياسي الخاص بمساندة السلطة السياسية الحالية.

ولفت لحياني في تصريح لـ" الترا جزائر"، بأن أغلب الأحزاب في مرحلة إعادة الهيكلة المحلية والمركزية، ما يفسر غيابها عن المشهد وانهماكها في ترتيب البيت الداخلي، مضيفًا أن هناك عامل آخر يتعلق بانعدام الاستحقاقات السياسية والانتخابية التي غالبًا ما تثير "حركية سياسية" لهذه الحساسيات الحزبية، وبذلك فإن هذا العامل أثر كثيرًا على تواجدها الفعلي الذي كان ضئيلًا خلال هذه الفترة.

هناك عامل لا يقل أهميّة عن العاملين السابقين، يتعلق بدخول العديد من الأحزاب السياسية صف الموالاة وبالتالي فهي مرحلة يمكن تفسيرها أيضًا بأن مختلف الفعاليات السياسية تنحو نحو إعطاء فرصة للسلطة وخاصة للرئيس عبد المجيد تبون حتى تمكنه من تنفيذ سياساته التي وعد بها من توليه سدة الحكم، وهي الفترة التي أعقبت تحديات جائحة كورونا وتداعياتها التي لازالت تطل بنتائجها لحدّ اللحظة.

تصحر سياسي

بشكلٍ واضح، باتت الساحة السياسية في الجزائر تعرف ما يصفه المتابعون بـ" التصحر السياسي" والانسياق وراء الأنشطة الحكومية وعرض القوانين في البرلمان المتعلقة بعدة مجالات حساسة، غير أنها لا تعدو أن تخرج من أطرها السياسية من البرلمان والهياكل الحزبية.

كما وجب التنويه بوجود مبادرات سياسية تحاول لملمة شمل الفعاليات السياسية من أحزاب ومنظمات المجتمع المدني من أجل تشكيل كتلة سياسية داعمة لسياسة السلطة، نحو مبادرة أطلقتها عدة أحزاب المولاة تحت مسمى "المبادرة الوطنية لتعزيز التلاحم وتأمين المستقبل”، التي من المنتظر أن تنظم فعالياتها في الـ 19 آب/أوت بحضور مرتقب لأزيد من 1000 ممثل عن الأحزاب والجمعيات والشخصيات الوطنية.

عمومًا هذه المبادرة تسير في نسق -بحسب المتابعين- مع الدفاع عن القضايا الوطنية، في غياب نقاش حول عديد القضايا.

غياب الصوت الآخر

النقاش السياسي يتطلب أيضًا حرّية في التعبير ومسؤولية وشفافية في تناول قضايا المجتمع، إذ غابت الأحزاب كثيرًا عن الواجهة السياسية حاليًا، مع تغييب كلي للشباب في النهوض بتطوير المشاركة في الآراء.

وقبل ذلك فإن إشكالية الفعل السياسي في الجزائر "مشكلة جذرية" بحسب الناشط السياسي فريد كروم الذي اعتبر أن التنشئة السياسية وتشكيل الوعي السياسي في الجزائر تقهقر كثيرًا خلال العقد الأخير من الزمن، رغم "حمى الحراك الشعبي الذي عرفته الجزائر قبل أربع سنوات كاملة"، معتبرًا في تصريح لـ" الترا جزائر" أن هناك ركودًا أو خفوتًا في عمليات إكساب الفرد الجزائري سلوك ومعايير وقيم واتجاهات سياسية متناسبة مع أدوار مجتمعية معينة، ثم الذهاب إلى الممارسة في النشاطات السياسية في حزب أو في جمعية مدنية أو الاهتمام بالشأن السياسي العام والاستمرار  فيها، على حدّ قوله.

حالة الانغلاق وانعدام النقاش السياسي، اتضح جليًا مع أصوات الإعلام الجزائري المتعددة لكنها في الآن نفسه ذات اتجاه واحد، وهو ما يدفع لهدوء السياسة وغيابها عن إثارة القضايا السياسية والاجتماعية في علاقة مع حركية المجتمع والتغيير المنشود.

والملفت أن منابر النقاش السياسي باتت اليوم وظيفة حكومية أو عمومية وهو الأمر الذي لاح كثيرًا في تحليل بعض الأحداث التي انصهرت في فلك إعادة الرواية الرسمية مع تجنب الخوض في جذور الأحداث واتصالها بالعديد من الرؤى والزوايا الواجب طرحها.

واعتبر الناشط السياسي أن السلطة والأحزاب يتحملان هذا الوضع، فالأولى فرضت قواعدها خلال السنوات الأخيرة، بينما تخلى الطرف الثاني عن وظائفيته في الساحة واستسلمت للأمر الواقع، ولم تتمكن من ممارسة عملها الميداني لبناء مؤسسات تشارك في التنمية.

صمت الأحزاب في الجزائر خلال هذه الفترة مرده أيضًا دخولها في صراعات داخلية خفية

صمت الأحزاب في الجزائر خلال هذه الفترة، مرده أيضًا دخولها في صراعات داخلية خفية، وانكماشها بعد الحراك الشعبي الذي أطاح بالكثير من الممارسات السابقة، وبروز وجوه جديدة أو انقلاب بعضها على البعض الآخر، في إطار تسويات غير معلنة، والسير في تيار السلطة الحالية.