09-يناير-2024
 (الصورة: Getty)

(الصورة: Getty)

سجّلت السنوات الأخيرة الماضية، رحيل كثير من المسؤولين والشخصيات الذين صنعوا الحدث السياسي وبرزوا على المسرح العملياتي والعسكري خلال فترة التسعينيات، تاركين وراهم جدلًا وسجالًا سياسيًا، وهو ما يُعيد طرح جملة من الأسئلة تبقى دون أجوبة، وتتقاذف فيها أصابع الاتهامات، من كان وراء العنف السياسي الذي أفضى إلى عنف دموي دام عقدًا من الزمن؟

ما تزال جروح العشرية السوداء وذكرياتها حاضرة في أذهان فئات واسعة من المجتمع الجزائري

توفي عباس مدني، رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ في 24 نيسان/أفريل سنة 2019، فأسرع بعض مناضلي التيار الاستئصالي إلى تحميله مسؤولية العنف السياسي، رغم أن الرجل كان وراء القضبان، ويرحل مؤخرًا اللواء المتقاعد خالد نزار، فاتحًا بذلك جرح التسعينيات، ومكررًا جملة من النقاشات حول دوره الفعلي في توقيف المسار الانتخابي الذي كان سببًا مباشرا في انفجار الوضع، رغم أن اللواء خالد نزار يَصر في تصريحاته أنه ترك وغادر منصبه كوزير للدفاع سنة 1993، وبالتالي لا يتحمل المسؤولية المباشرة عن إدارة الصراع وارتدادات العنف والعنف المضاد.

في السياق نفسه، يرى متتبعون للشأن السياسي أن الأسئلة نفسها تعود إلى الواجهة الإعلامية عند تواريخ وأزمنة معينة محدودة، أو تصادف رحيل واحد من الشخصيات الفاعلة خلال فترة التسعينيات، فيما تبقى الاستفهامات معلقة وستظل، نظرًا إلى التعقيدات الأمنية والسياسية وظرفية الاهتمامات بهذه المسائل، بالإضافة إلى وجود عدّة مسائل خلافية وقراءات متباينة تدعو للكثير من المراجعة حول الأزمة الأمنية، رغم ما ألفه عدد من السياسيين والعسكريين من كتب حول الموضوع.

بعيدًا عن السياسة

 في مقابل ذلك، وبعيدًا عن الجدل السياسي، ما تزال جروح العشرية السوداء وذكرياتها حاضرة في أذهان فئات واسعة من المجتمع الجزائري، وهي فئة قد لا تهتم بالفاعلين ولا بالشخصيات السياسية والعسكرية، بقدر ما تعنيها الأحداث، كضحايا مسكوت عنهم جراء العنف الدموي، حيث ما تزال انعكاساته مستقرة وحاضرة في النفوس والعقول، ضحايا أغلبهم من الهوامش المجتمعية، لا صوت لهم، لا انتماءات سياسية لهم، دمرت الأحداث حياتهم الأسرية والعائلية والمجتمعية والمستقبلية.

كان من صعب إثارة موضوع عنف التسعينيات مع ياسين، وهو شاب في السن الثلاثينات، يتحفظ عن الخوض في الموضوع، كاشفًا أن تلك الفترة من أسواء الذكريات في حياته والتي ما تزال تندمل إلى غاية اللحظة، فهي أفقدته والده دون أن يكون منخرطًا في هذا الصراع العنيف، حيث يَستحضر  الشاب يوم إعلان وفاة والده المفاجئ بسبب ما قيل في تلك الفترة إنها سكتة قلبية سنة 1997، وطالما اعتقد ياسين أن سبب وفاة والده في عقد الخمسينات من العمر، كانت نتيجة مرض مزمن أو خطأ طبّي.

يَذكر محدثنا أنه أدرك أن السبب المباشر في وفاة والده، وهو أنه كان نتيجة لسوء الأوضاع الأمنية التي انعكست على صحته النفسية والجسدية، إذ يقول محدث "التر جزائر" إن أباه كان رفقة أفراد عائلته من تجار الجملة في توزيع البيض وتربية الدواجن في منطقة تابلاط ولاية المدية وسط البلاد، مضيفًا أنه مع بداية من سنة 1991 تحول والده من تاجر وموزع إلى مربٍ الدواجن، وأسس مشروعًا كبيرًا يقع على محور مدينة تابلاط وبلدية بني سليمان في هذه المنطقة.

كان المشروع ناجحًا، يستطرد ياسين، ما دفع بوالده إلى توسيعه وتمويله عبر اقتراض أموال كبيرة، وأفاد أن المتاعب بدأت أواخر سنة 1992 وبداية 1993، حيث عرفت المنطقة تدهورًا أمنيًا خطيرًا، وهجرها سكان المداشر والقرى وأصبحت منطقة معزولة، ولم يعد العمال يرغبون بالالتحاق بمناصب العمل خوفًا من القتل العشوائي، على حدّ قوله.

في سنة 1994 تعرضت وحدة تربية الدواجن  التابعة لوالد ياسين إلى الحرق والتخريب من طرف مجهولين، إذ يقول هنا: أثقلت كهل والدي، ولم يستطيع تسديدها نظرًا إلى توقف أعماله ومشروعه، فاضطر إلى بيع بيتنا العائلي لتسديد بعض من الدين، لكن مشاكل الوالد ازدادت سوءًا، وتدهورت صحته النفسية والجسدية، إلى غاية تعرضه إلى أزمة قلبية حادة أدت إلى وفاته في سن الـ 55.

إلى هنا، يختتم ياسين حديثه أن الازمة الأمنية لا تعنيه سياسيًا بقدر ما يعنيه اشتياقه إلى والده الذي فقده في تلك الفترة.

فقدت زوجي حبلى

تختزل قصة أم خالد (اسم مستعار) لوحدها عمق مأساة أناس عاشوا تبعات العنف والقتل والدمار دون أن يكون لهم أي انتماء أو تورط فعلي، إذ تقول السيدة إنها تزوجت في العشرين من العمر بداية سنة 1993، وكان زوجها شابًا نشيطًا يافعًا، لا انتماء سياسي ولا أيديولوجي له.

وتابعت أن زوجها اختفى فجأة عن الأنظار أواخر شهر أيلول/سبتمبر سنة 1993 في ضواحي المتيجة ولاية البليدة، ومنذ ذلك التاريخ، تردف محدثة "الترا جزائر"، لم تترك بابًا إلا وطرقته لعلها تجد إجابة، لكن لا حياة لمن تنادي، على حدّ تعبيرها.

تقول أم خالد إنها كانت حبلى في شهرها السابع عند اختفاء زوجها، تحملت عبء الحمل وألم الفقدان ومصاعب الحياة ونكران الأهل والأقارب، وذكرت أنها انتقلت من منطقة المتيجة واستأجرت بيتًا قصديريًا في حي الرملي بجسر قسنطينة، تفاديًا للمشاكل والمصاعب واتهامات الناس.

تستطرد المتحدثة أن "الحياة كانت معاناة ومأساة، اشتغلت منظفة في البيوت من أجل سدّ حاجيات الحياة"، لكنها شاهدت العجائب، على حدّ قولها.

لم تعرف أم خالد أي نوع من الأحلام الجميلة ماعدا الكوابيس والمكاره، وأقصى ما تحلم به هو قبر عليه شاهد يحمل اسم زوجها.

العنف الدموي الذي مسى الجزائر إبان فترة التسعينيات، كان قد أصاب فئات مجتمعية عريضة نفسيًا وعصبيًا واجتماعيًا

العنف الدموي الذي مسى الجزائر إبان فترة التسعينيات، كان قد أصاب فئات مجتمعية عريضة نفسيًا وعصبيًا واجتماعيًا، وما تزال أثرها قائمة إلى غاية اليوم، يعانون في صمت وسكون، قد لا يهتمون بأبعاد السياسية والأيديولوجية للحرب، بقدر ما يرغبون يومًا بالعدالة والحقيقة لا غيرهما.