12-أغسطس-2022
جمال بن سماعين (الصورة: خط 30)

جمال بن سماعين (الصورة: خط 30)

في ساعة باكرة من صباح يوم الخميس من أيام 11 آب/أوت الجاري، كان الطقس ما يزال ناعمًا ورطبًا، حين سلكنا الطريق الوطني رقم 04 تجاه ولاية عين الدفلى، أمامنا ساعتان من القيادة على الطريق الوطني حتى نصل إلى مدينة خميس مليانة، كانت حركة المركبات على طول طريق السيار شرق-غرب ضعيفة، ما أتاح لنا أن نسترق النظر إلى المناظر الخلابة ونأخذ قسط من الراحة.

منذ رحيل جمال بن سماعين أبقت عائلته أبواب بيتها مشرعة يوميًا للزائرين والمتضامنين 

تشير الساعة إلى الحادية عشر صباحًا، نحن عند مدخل بلدية مليانة، بعدما سلكنا مُحول بومدفع تجاه الطريق عريوة، تحت وطأة الحرارة تبدو المدينة خاوية، لكن كان لافتًا أن المدينة ستشرع في استعادة الذكرى الأولى لواحد من أبنائها، إذ ما تزال روح المرحوم جمال بن سماعين عالقة كـ ثُريًا في ذاكرة المدينة التي نشأ بها وأحبها وعشقها.

 

 ونحن في الذكرى الأولى لرحيل المرحوم جمال بن سماعين، كانت قبلتنا البيت الذي كان يأويه، والذي بات مقام الزائرين، وما زال بيتًا يَستقبل العزاء والمواساة.

يقع بيت المرحوم جمال بن سماعين في الجهة السفلى، وسط حي من ثلاث عمارات مكونة من أربع طوابق، تبعد أمتارًا عن قلب المدينة، وبجانب الحي تقع مقبرة سيدي براهيم التي دفن فيها جمال.

صحافي الترا جزائر يزور بيت جمال بن سماعين

من هو جمال بن سماعين؟

ولد جمال بن سماعين في مدينة مليانة ولاية عين الدفلى، في 23 فيفري/شباط سنة 1985، والده السيد نور الدين بن سماعين، ووالداته السيدة نصيرة بن سماعين، تتألف العائلة من توأم جمال واسمه عمر، ورابح أخوه الأكبر والمرحوم إسحاق، وشقيقة واحدة. تنحدر عائلته من مدينة ثنية الحد بولاية تيسمسيلت، واستقرت في مدينة مليانة في أواخر الثمانينات.   

نشأ جمال وسط عائلة وطنية وثورية، عَرفت النضال السياسي منذ الثورة التحريرية، فعم جمال هو خالد بن سماعين، المناضل السياسي المعروف، ورفيق درب أحمد بن بلة، والأمين العام الحركة من أجل الديمقراطية ورئيس التنسيقية الجزائرية لمناهضة المد الصهيوني والتطبيع.

تعلق جمال الملقب بـ “جيمي"، في طفولته كما يشهد له من عرفه، بالفن والموسيقى والرسم، ونهل من التراث الملياني (مليانة) الزاخر، كان يهوى العمل الجمعوي والتطوعي والإنساني، محبًا للطبيعة، ودُودًا ورفيقًا بالحيوانات، فضلًا  أنه كان ناشطًا دومًا في حملات التوعية من أجل البيئة النظيفة والمحافظة على الثروة الغابية، وهو الشغف الذي دفعه للذهاب إلى قرية الأربعاء ناث إراثن ( ولاية تيز وزو) من أجل المساعدة في إخماد الحرائق وتضامنًا مع الضحايا، غير أن القدر شاء أن يكون جمال بن سماعين ضحية الشر الذي أزهق روحه الطيبة، والجريمة التي زلزلت الأفئدة وهزت نفوس الجزائريين.

صحافي الترا جزائر يزور بيت جمال بن سماعين

حمل ثقيل

 لقد التهب جسد جمال نارًا لتضيء أنوار التسامح، ومنارات التعايش ونزول الرحمات، ويتوارى الشر وتختفي الأحقاد والكراهية، عبارات كانت ترددها ألسنة أفراد عائلة جمال في ذكرى رحيله.

يجمع القادمون إلى بيت جمال، على أن الرسالة التي حملت أعباءها عائلة بن سماعين على أكتافها كانت ثقيلة، فقد ارتفع صوتها من أجل السلم والطمأنينة والوحدة الوطنية في ذروة التشنجات بعد حادثة اغتياله حرقًا، درءًا للفتنة، و"لتقطع حبل الباطل وعبث الفاسدين"، وما تزال كلمات نور الدين بن سماعين عشية اغتياله البشع، تَدوي لتكون بردًا وسلامًا على الجميع رغم بشاعة المحرقة.

تاريخ مليانة الذي ألهم اسماعيل

يجمع رفقاء "جيمي" وأصدقاء الطفولة، أن جمال كان يتمتع بحس وطني وجمالي وإنساني رفيع، وكان لتاريخ مدينة مليانة وشُجونها وذاكرتها التاريخية والتراثية، المحملة بالأحداث والشخصيات التي سجلت بصماتها على ماضي وحاضر المنطقة، المتمثلة في العلم والمعرفة والمقاومة والجغرافيا، فهي أكبر من مقاطعة إدارية، بل مزيج من الأعراف والأعراق والحضارات التي مرت من هنا.

هذه المدينة تسلل إليها الرومان، وأعاد ترميم أثارها الأمير بولوغين بن زيري، وهي موقع استراتيجي خلال فترة الأتراك، واختارها الأمير عبد القادر بوابة لإمارته وخطه الأول في مواجهة الجيوش الفرنسية، وجبال زكار الصخرية احتضنت تدريبات واجتماعات المنظمة الخاصة (OS) وسافر إليها أعضاء المنظمة كـ أحمد بن بلة ومحمد بوضياف وحسين آيت أحمد سنة 1948.

 ومن أزقة مليانة انحدر كل من علي بوراس مؤسس الكشافة الإسلامية، وهي مسقط رأس الفدائي علي لابوانت، ومن ثكنة المشاة بمليانة تمرد ضابط صف هنري مايو من معسكره، وقام بتحويل شاحنة تحمل متفجرات وأسلحة كبيرة إلى المجاهدين بجبال الونشريس، وفي ثغور جبالها رابط سي أحمد بوقرة رفقة الكتيبة الحمدانية، وقد بلغت الثورة  الجزائرية ذروتها هناك. في هذا السياق، يذكر كثيرون أن برج إيفيل بباريس شيّد من مناجم استخراج الحديد من جبال زكار، علاوة على كل ذاك تنفرد المدينة بالاحتفال بأعياد فاكهة الكرز.

وسط هذا النزق من التاريخ، استمد واستلهم جمال بن سماعين معالم شخصيته النضالية، وإنسانيته الراقية والخدومة.

في بيت جمال بن سماعين

في وسط شقة متواضعة، لكنها مؤثثة ومرتبة بشكل أنيق وبديع، صور جمال بن سماعين تظهر من كل زاوية قاعة الجلوس، وخزانة صالون بها رفوف من كتب "جيمي"، نقرأ كتبًا دينية وقصصًا وروايات ودواوين شعر، وبجانبها أعداد كبيرة من مصاحف القرآن من مختلف الأشكال والأحجام.

رغم لمسة الأحزان التي طفت على المكان، إلا أن سمَة عائلة بن سماعين كانت التأهب لحسن الاستقبال لكل من يدق على الباب، وغمر الزائرين بحفاوة الكرم ومناسك الضيافة.

 حين اقتربنا من مدخل البيت، اشرقت عيون نور الدين بالجود والكرم، هنا تتدخل والدة عائلة بن سماعين لتوضح أنه منذ رحيل جمال والبيت مفتوح يوميًا مع كل من تآزر وتعاطف مع جمال وعائلته.

صحافي الترا جزائر يزور قبر جمال

امرأة من ذهب

لكن ما يزال فؤاد أم جمال حزينًا وأَشَج، ففاجعة فقدان فلذة كبدها إسحاق سنة 2011 ما تزال جراحها مفتوحة، وجاءت كربة جمال لتعمق جرح الوجع والآلام.

كان جمال شديد الارتباط بوالدته ويحبها حبًا شديدًا، يَتحسَس ما تطيب له ويشرح صدرها بوجوده، وبدورها تستمع إلى نبضات قلبه قبل أن ينطق لسانه، تكشف لنا الوالدة أن جمال كان في فصل الصيف في مثل هذه الأيام الحارة، يجمع أكوابًا صغيرة يضع بها شربة ماء من أجل أن ترتوي الطيور والحيوانات الأليفة، كان يجمع بقايا أطعمة صالحة ونظيفة لتغذية العصافير والقطط الصغيرة.

وأضافت أن حقيبة يد "جيمي" دومًا مشحونة بالأكياس، إذ يتفقد يوميًا غابة زكار لتنظيف وجمع القارورات البلاستيكية المرمية هناك، لقد كان مهوسًا بالكتابة والشعر والرسم ونظافة المحيط، كان رقيقًا ورهيفًا وإنسانًا راقيًا، هكذا رسمته لنا السيدة بن سماعين.

ثمة أمر يلفت الانتباه في نعي والدة جمال بن سماعين لابنها، لقد ربط الله على قلبها وأسكنها السكينة والرحمة والطمأنينة، تقول إن الله أحبها فابتلاها في إيمانها، وكل ما وقع ما هو إلا قضاء الله وقدره، مُستعينة بآيات الرحمة والرعاية الربانية، ومُشبعة بالروح الإيمانية وصفاء النفس وقرارة العين.

نور الدين الثبات وروح المسؤولية

من جانبه، كان نور الدين إسماعين متماسكًا وقويًا، رغم كثرة مكالمات التعازي والتراحم، كان منهمكًا رفقة أبنائه في تحضير وإعداد بيت العزاء عبر تنصيب خيمة العزاء، إذ جرت عادة سكان الغرب الجزائري أن يقوم أهل الميت بذكرى السنوية للمرحوم.

عاش بن سماعين  مهوسًا بالكتابة والشعر والرسم ونظافة المحيط صاحب حس مرهف ومحب للجميع

وعلى العموم وخلال فترة مٌكوثنا في بيت عائلة جمال بن سماعين دار الحديث عن معاني التضافر والتلاحم وعن البر والإحسان، وسبل تغذية المحبة وتأصيل اللحمة الوطنية وقطع سبيل الكراهية والعنصرية.