28-ديسمبر-2019

الحراك الشعبي ما زال متمسّكًا بمطالبه ويرفض الحوار (تصوير: فاروق باتيش/ الأناضول)

لم تكن سنة 2019 سنة عادية في التاريخ السياسي للجزائر. سنة مثّلت منعرجًا تاريخيًا أنهى مرحلة وفتح عهدًا جديدًا، جاء نتيجة أحداثٍ سياسية وشعبية غير مسبوقة في البلاد، عجّلت بإنهاء عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الذي عمّر في الحكم 20 سنة، وكان يتوجّه إلى ولاية رئاسية خامسة، بتزكيةٍ واسعةٍ والتفاف حزبيٍّ وجمعويٍّ لافت، لولا انتفاضة شعبية مفاجئة.

بشكلٍ سريعٍ تمدّد الحراك الشعبي، وبات حالة وطنية غير مسبوقة، وطرح كرّاسة من المطالب السياسية

خلفيات فاصلة

منذ قضية تهريب الكوكايين في نهاية أيّار/ماي 2018، وما تلاها من بروز قضايا فساد، وانتقال الصراع بين أجنحة النظام من السرّ إلى الواجهة. كان واضحًا بحسب متابعين للشأن العام والشأن السياسي خاصّة، أن هذه القضايا تمثّل المرحلة الأخيرة لنظام حكمٍ انتهت سياساته إلى الإفلاس، وبدأت ملامح سنة مقبلة غير عادية ترتسم في الأفق.

اقرأ/ي أيضًا: المؤسّسة العسكرية والحراك الجزائري.. من استفاد من الآخر؟

في مطلع الشهر الثاني من سنة 2019، كان الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة يُعلن ترشحه لولاية رئاسية خامسة، وفي يوم التاسع من الشهر نفسه، تجمعت الأحزاب والقوى السياسية الموالية لبوتفليقة في القاعة البيضاوية في العاصمة، لإعلان دعمها الرسمي لترشّح بوتفليقة الذي كان قد غادر للعلاج في سويسرا، وهو ما مثّل استفزازًا للرأي العام.

 لم تنتبه السلطة إلى حالة الغليان في الشارع الجزائري، إذ تفجرت في الـ 13 شبّاط/فيفري مظاهرة في منطقة برج بوعريريج شرقي العاصمة ضدّ ترشح بوتفليقة، وفي يوم الـ 16 من الشهر نفسه بمدينة خراطة بولاية بجاية شرق الجزائر، وبعد ثلاثة أيّام أخرى، أي في الـ 19 شباط/فيفري بمدينة خنشلة قبل أن يندلع الحراك الشعبي العام في الـ 22 شباط/فيفري ويعمّ كلّ المدن الجزائرية.

كرّاسة الحراك

بشكلٍ سريعٍ تمدّد الحراك الشعبي، وبات حالة وطنية غير مسبوقة، وطرح كرّاسة من المطالب السياسية، تبدأ بإسقاط العهدة الرئاسية الخامسة لبوتفليقة، ورحيل حكومة أحمد أويحيى وكلّ رموز السلطة، وصولًا إلى المطالبة بتغيير النظام كليًا والدخول في مرحلة انتقالية.

 لكن الرئيس بوتفليقة ومحيطه السياسي، لم يستجب في البداية إلى هذه المطالب، وأصرّ بوتفليقة على إعلان الترشّح الرسمي في الثالث آذار/مارس الماضي، وهو ما زاد من غليان الشارع في الجمعة الثالثة للحراك، المتزامنة مع الثامن من الشهر نفسه. ما دفع الرئيس بوتفليقة إلى إعلان إلغاء الانتخابات الرئاسية وإقالة حكومة أحمد أويحيى، وتعيين حكومة جديدة برئاسة نور الدين بدوي، في الثاني من نيسان/أفريل الماضي.

إلغاء الانتخابات الرئاسية، التي كانت مقرّرة في 18 نيسان/أفريل الماضي، كان بضغط مزدوج من الشارع والجيش، الذي انحاز أخيرًا إلى صفّ الشعب ودفع بوتفليقة إلى الاستقالة، تطبيقًا للمادة 102 من الدستور، والتي تمّ بموجبها نقل السلطة إلى رئيس مجلس الأمّة عبد القادر بن صالح ليصبح رئيسًا مؤقّتًا.

دعا الرئيس المؤقّت، إلى انتخابات رئاسية جديدة، كانت مقرّرة في الرابع تموز/جويلية، لكنها لم تجرّ بسبب رفض الشارع وعدم وجود مرشّحين للرئاسة.

خلال سنة 2019، كسر الجزائريون الطوق الأمني المفروض على الاحتجاجات، واكتشفوا الشّارع كفضاء للتعبير السياسي، وهو ما كانت الجزائر قد افتقدته منذ بداية التسعينات؛ بسبب إعلان حالة الطوارئ في العشرية السوداء، ويدخل في هذا السياق، عودة التفاعل السياسي إلى الجامعة وانخراط الكتلة الطلابية في المطلبية السياسية، بعد سنوات من الركود والخمول الذي ساد المؤسّسات الجامعية في علاقتها بالشأن العام والقضايا السياسية.

قرارات تاريخية

قبل هذا التاريخ، كان القضاء الجزائري بدعم من الجيش قد أقدم على قرارات تاريخية، حيث أمر باعتقال رئيسا الحكومة السابقين أحمد أويحيى وعبد المالك سلال، و18 وزيرًا وكبار رجال المال والأعمال، من مقرّبي محيط الرئيس السابق بوتفليقة، بتهم فسادٍ ماليٍّ وسياسيٍّ، وتمت إدانة بعضهم حتّى الآن بأحكام متفاوتة.

لكن أكثر المشاهد لفتًا للانتباه، كانت صورة المدير السابق لجهاز المخابرات محمد مدين، والسعيد بوتفليقة شقيق الرئيس السابق، وهما يُساقان الى المحكمة العسكرية، حيث حكم عليهما بالسجن لمدّة 15 عامًا، رفقة الأمينة العامّة لحزب العمال اليساري لويزة حنون.

أخفقت السلطة مجدّدًا في تنظيم الانتخابات الرئاسية الثانية، التي كانت مقررة في تمّوز/جويلية، حتى دون وجود الرئيس بوتفليقة أو مرشّح واضحٍ للسلطة، ودفع ذلك السلطة إلى مباشرة حوارٍ سياسي، قابله جزءٌ من القوى السياسية والمدنية بالرفض، لكن السلطة اعتبرته المخرج الوحيد لوضع للمرور عبر الحلّ الدستوري للأزمة السياسية، منذ أن لفظ الرئيس بوتفليقة مرغمًا ورقة الاستقالة.

قاد رئيس البرلمان السابق كريم يونس مشاورات سياسية، أفضت إلى تعديل جزئيٍّ لقانون الانتخابات، واستحداث هيئة مستقلّة، للمرّة الأولى في تاريخ الجزائر، تُشرف على التنظيم الكامل للانتخابات، يرأسها وزير العدل السابق محمد شرفي.

عمليًا، قادت هذه الهيئة الانتخابات الرئاسيات الأخيرة، التي جرت في 12 كانون الأوّل/ديسمبر الماضي، والتي اعترض عليها قطاع واسعٌ من الجزائريين، حيث فاقت نسبة المقاطعة الـ 60 في المائة.

القضاء يتحرّك

شهدت الجزائر في هذه الفترة، لأوّل مرّة، مواجهة مباشرة بين القضاء والسلطة، يراها الناشط الحقوقي عبد الله مصمودي، أنها "خطوة دفعت إلى انكشاف هيمنة السلطة على العدالة، وطرح ملف استقلالية العدالة للمرّة الأولى، كمطلب مركزي مشترك بين القضاة ومكوّنات المؤسسة القضائية، وبين الحراك الشعبي".

 يُلفت المتحدث في تصريح لـ" الترا جزائر"، أنّ هذه المواجهة وما تبعتها من أحداث، ستُعيد النقاش حول استقلالية العدالة الجزائرية، في قادم الأيام والأشهر.

طوال فترة الحراك الشعبي، كان للجيش الجزائري دوره البارز في تسيير هذه المرحلة، التي يُمكن أن توسم بـ" ما بعد بوتفليقة". فترة حصد الجزائريون فيها الكثير من المكتسبات، وفقدت المؤسّسة العسكرية برحيل رئيس الأركان أحمد قايد صالح أحد فاعليها الأساسيين، ولكنها لم تفقد سيطرتها على السلطة.

تميّزت سنة 2019 باستعادة الشعب الجزائري لدوره الفاعل في تغيير مصيره وبانتفاضة شعبية مستمرّة

لا يختلف اثنان أن سنة 2019 كانت استثنائية بكل المقاييس، إذ تميّزت باستعادة الشعب الجزائري لدوره الفاعل في تغيير مصيره، وبانتفاضة شعبية مستمرّة، يراها البعض خطوة فارقة في حياة الجزائريين بعد ابتعادهم عن السياسية لفترة دامت عقدين من الزمن، تحت قيادة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وفرصة أخرى لترسيخ ثقافة التغيير تبعًا لإرادة الشعوب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رحيل الرجل القوّي في الجزائر.. هل ينسحب الجيش من الحياة السياسية؟

رجل الظلّ في المؤسّسة العسكرية.. من هو اللواء سعيد شنقريحة؟