16-يناير-2023
البناؤون

بناءان يأخذان فترة استراحة بحي سيدي عبد الله بالعاصمة (الصورة: أ.ف.ب)

قبل عقدين من الزمن، كان عمي عبد السلام لعراجي ( 56 سنة)، يشتغل بكدٍ من صباحات كل أيام الأسبوع ماعدا يوم الجمعة، فكل أوقاته تمرّ بـ"البركة" كما يقول، حيث عوَّد على وضع أدواته اليدوية في حقيبة جلدية، ويلبس سترة زرقاء اللون ويجلس في حي ميصونيي بالعاصمة قُبالة محطة آغا للقطارات بالعاصمة الجزائرية، منتظرًا أحد الزبائن الباحثين عن السبّاكين، حتى يستجيب لطلب من أحد الزبائن، أو الجلوس جنب "سوق كلوزيل" وسط العاصمة حتى يحصل على فرصة عمل.

رغم وجود متاجر إلكترونية تسهّل عملية البحث على مهنيين وحرفيين إلا أن الحصول على خدماتهم يكلف الكثير من الوقت والانتظار

يقول عبد السلام في حديث لـ "الترا جزائر"، واصفًا يومياته: "نعم كنت وقتها أتنقل بين بيوت العاصمة وضواحيها، وأحيانًا يحالفني الحظ بأن أعثر على عدة زبائن في اليوم الواحد، يستدعونني لإصلاح وتركيب أجهزة تشتغل بالغاز أو توصيل أنابيب أو إصلاح أعطابها، كما ربطت علاقات مع  أناس وضعوا ثقتهم في عملي وأدخلوني بيوتهم".

يعتبر هذا الحرفي بأن قصته مع الحِرفة هي بدايات في كل يوم من حياته، فهو الذي لم يُفلح في الدراسة وتوقف في سن مبكرة جدًا، إذ لم يكن يتجاوز حينها الثانية عشر من عمره، ليتحول بعدها إلى مُرافق حِرفي في مهنة الحدادة في منطقة عين طاية، موضحًا بأنه تعلم الكثير من الأعمال منها الترصيص وإصلاح الأعطاب في خزانات المياه، وصناعة أبواب المنازل ثم تركيب وصيانة أنابيب الماء والغاز.

لم يتعفف عن العمل، ولم يرفض أي طلب من أرباب العائلات، فعلاوة على الأقارب وجد في جيرانه وأبناء حيه فرصة للتمرن والتمرس في حرفة لا تعرف التوقف، حتى أتقن إعادة تصليح الآلات والأجهزة المنزلية خاصة خزانات الماء، على حدّ تعبيره.

وقتها لم تكن الأمور تسير على هذا النوع في غياب الهاتف المحمول،والتواصل عبر وسائط التواصل الاجتماعي فيسبوك وميسنجر وواتساب، لكن كنت أشتغل وأحصل على قوت يومي، هكذا يعّبر عمي عبد السلام عن فترة طويلة قضاها في مهنة السباكة، ومازال

رغم التطور التكنولوجي الذي سمح بإطلاق متاجر إلكترونية للحصول على مهنيين وحرفيين، إلا أن البحث عن حِرفي بات يُشبه من يبحث عن إبرة في كومة قشّ؛ بل أصبح ذلك من الخدمات التي لا يمكن للعائلات توفيرها أثناء الحاجة إليها إلا بشق الأنفس، كما قالت السيدة زهرة زيتوني لـ"الترا جزائر"، مُعترفة بأنها وصلت حدّ خروجها من مسكنها في بداية الصيف الماضي لفترة شهر كامل، بسبب مشكلة أنابيب الغاز، خوفًا من وقوع أيّة كارثة على حد قولها، وحين عثر زوجها على حرفي تمكن من إيجاد حل للمشكلة وبثمن باهض جدًا.

مُفارقات

تشتكي كثير من العائلات الجزائرية اليوم من نقص خدمات الحرفيين، أو عدم التزامهم بالمواعيد لارتباطاتهم الكثيرة، إذ يتحدث كثيرون ممن تواصلت معهم "الترا جزائر" عن قيمة هذه المهن وما توفره من خدمات ضرورية للبيوت والبناءات، كالبنائين، ومصلحي الأجهزة الكهربائية في البيوت مثل سخان الماء، و أجهزة الطهي وأنابيب المياه والكهرباء.

حاجة الأسر إلى تلك الخدمات، مثلها مثل الحاجة اليومية لشرب الماء، حد تعبير السيد إبراهيم القاطن بحي الأبيار بقلب العاصمة الجزائرية موضحًا أن المعاناة للعثور على " بناء أو كهربائي مثلها مثل مشاكلنا اليومية في الجزائر.

وأوضح المتحدث أن هذه الخدمات تدر على أصحابها " الذهب"؛ لأنها حسبه خدمات مطلوبة وبكثرة، خصوصًا أمام توفر خدمات الهاتف والاتصالات المتاحة، إذ تمكن الأخيرة من التواصل المباشر والسهل والسريع مع المتخصصين في عدة حرف وصناعات.

إبرة في كومة قشّ

ومن اللافت للانتباه أن عدة أسئلة تتعلق بصعوبة العثور على الحرفيين في الجزائر كثيرًا ما يطرحها المواطنون، يقابل ذلك توفّر مراكز للتكوين المهني الحر للعشرات من الشباب في شتى التخصصات، وهي مفارقة يمكن لمسها من خلال تصريحات الكثيرين فضلا عن تجارب البعض مع الحرفيين.

غالبا ما نعثر على أرقام هواف الجوال عند محلات بيع أدوات الترصيص، سواء ما تعلق منها بحرفي الصيانة والبنائين والكهربائيين، ومن هنا تبدأ رحلة البحث عن " مصلح لجهاز التدفئة أو سخان الماء في البيت أو تركيبه".

من خلال تجربة البعض، يقول عبد القادر صاحب محل بيع لوازم التزيين وطلاء البيوت في منطقة برج البحري شرق العاصمة الجزائرية، إنه كثيرًا ما زوّد الزبائن أو من يقصده للسؤال عن أحد الحرفيين، بعناوينهم أو أرقام هواتفهم، بل وكثيرًا ما يترك هؤلاء أرقامهم معلقة في ورقة يضعها في واجهة متجره.

يعتقد صاحب هذا المحل، أنه ليس المشكلة في الخدمات وندرتها ولكن كما قال لـ" الترا جزائر"، فالمعضلة هي في الالتزام بين طرفي المعادلة (الحرفي والزبون)؛ فالأول، حسبه، يمكن أن يوافق على تأدية الخدمة ولكنه في غالب الأحيان يضرب مواعيدًا متقاربة لعدد من الزبائين وقد تكون في آن واحد مثلما يفعل البناؤون الخواص، ثم يتحجج في كل مرة بتعطيل معين، لهذا يتجج الزبون نفسه أمام حتمية الصبر على انتظار الحرفي وإنهاء الخدمةولو كلفته أيامًا ومصاريف كثيرة.

هنا، تعلق  إحدى السيدات في حديث إلى "الترا جزائر"، بأن هذه الحرف تشبه البحث عن جراح في مستشفى أو دواء مفقودًا في الصيدليات، وتتسائل: هل المسألة تتعلق بقلة اليد العاملة الحرفية أم هناك علاقة بينها وبين الالتزام بالعمل؟ وبرأيها فالأمر يتعلق بترنُّح البعض في أعمالهم وبطء الاستجابة للخدمة السريعة، وتماطلهم في أداء شغلهم كما يجب، على حد تعبيره.

وأشارت السيدة إلى أنها وغيرها من سكان حي العاشور بالعاصمة الجزائرية، احتاجت عندما تنقلت إلى مسكنها الجديد إلى إعادة تهيئته من جديد، فاستغرق الأمر ستة أشهر كاملة، بسبب إعادة ديكور المطبخ والحمام والغرف، لافتة إلى أنها تجربة قاسية مع الحرفيين، وأن" عمل الأسبوع استغرق شهرًا وعمل الشهر استغرق نصف سنة كاملة"، بالإضافة إلى حالة القلق والتوتر التي سببتها عملية الانتقال إلى السكن الجديد بعد معاناة سنوات في تأجير المنازل والشقق، على حد تعبيرها.

تدر هذه المهن كثيرًا من المال على أصحابها رغم صعوبتها، ما يجعل أصحابها ينتهزون الفرص للعمل على أكثر من مشروع أو تلبية خدمات لأكثر الأشخاص لتوفير المال، كما قال هشام الجيلالي لـ "الترا جزائر" الذي اشتغل في مجال البناء لمدة تزيد عن 14 سنة، معتبرًا حرفته "من المهن الموسمية أو بالأحرى من المهن غير الدائمة، لهذا تكاليفها غالية جدًا وتتطلب الدقة والتفاني في العمل، أما الوقت فهو بيد العامل، حسب رأيه.

 تخصصات متوفرة ولكن..

مفارقة أخرى بين العرض والطلب، فبالأرقام، فتحت وزارة التكوين والتعليم المهني 300 ألف منصب تكوين للحرفيين في مختلف التخصصات على مستوى خمس ولايات جزائرية، فضلًا عن توفير 20 ألف منصب تكوين في الفترة المسائية، قصد تكوين مختلف الفئات خاصة النساء في عديد القطاعات منها: البناء والأشغال العمومية والصناعة والصناعة الغذائية والرقمنة.

ورغم هذه الفرص المتاحة إلا أن توفير الخدمات مازال في الجزائر يحتاج إلى الكثير من الخطوات، منها ما يتعلق بالعرض الأقوى والحاجة إلى العمل.

أزمة اليد العاملة في مختلف الحرف ليست مرتبطة فقط في توفرها إحصائيًا، بل هي مرتبطة بـ"العقلية الجزائرية" التي مازالت في بدايات تلاشي فكرة الرفض للعمل اليدوي والنظرة الأحادية لكسب المال السريع، كما قال أستاذ علم الاجتماع بجامعة أم البواقي، عبد الكريم كساري، موضحًا أنه في السنوات الأخيرة بدأت الأمور تنفرج قليلًا لكنها ليست في مستوى الطلب العام.

واستطرد المتحدث، أن الأزمة المتعلقة بالحرفيين المهنيين في الميدان، ليست متعلقة بالوفرة ولكنها تبقى غير مؤهلة من حيث تأديتهم للعمل على أكمل وجه، مضيفًا أن بعض الحرفيين يتعمدون الاشتغال على عدة مشاريع ما يجعلهم يُكدسون الالتزامات دون تنفيذها في وقتها المتفق عليه مع أصحابها، ظنًا منهم أنهم يكسبون من وراءها المال.

واستطرد الأستاذ كساري قائلًا: "المشكلة اجتماعية ونفسية أيضًا، فقيمة العمل مازالت لم ترق بعد إلى مستوى أعلى، إذ مازال الشباب يفضلون الربح السريع على العمل المضني والشاق".

هل يمكن أن تتغير المهن الحرة والخدمات الحرفية بدافع المنافسة التي أعلنتها  المؤسسات الخاصة؟

بالمحصِّلة؛ تصب أسئلة كثيرة في مجال المهن الحرة والحرف، فهل يمكن أن يتغير سوق المهن الحرة والخدمات الحرفية بدافع المنافسة التي أعلنتها  المؤسسات الخاصة للخدمات باعتمادها على المنصات الإلكترونية والتطبيقات لتقديم خدماتها وعروضها؟ وهل تكسر الركود الذي تعرفه هذه الحرف في الجزائر؟