29-يونيو-2022

أمام محكمة سيدي امحمد بالعاصمة (الصورة: الإخبارية)

تحول تجريم المسيرين، وملاحقتهم بتهم الرشوة والفساد والمزايا غير المستحقة، أو حتى مجرد استدعاؤهم في تحقيقات قضائية أو جلبهم في محاكمات علنية بصفهم شهودًا، إلى "فوبيا" تثير مخاوف الإطارات والمديرين وأصحاب مناصب التسيير في الجزائر.

يشدد قانونيون على ضرورة التمييز بين أخطاء التسيير التي يرتكبها المسير  المترتبة عن مستوى كفاءة الإطار وتقديراته للأمور وبين الجرائم الاقتصادية المرتكبة عن سبق الإصرار والترصد

وزادت حدة هذه الظاهرة، بعد تفجير عشرات قضايا الفساد في أعقاب الحراك الشعبي بتاريخ 22 شباط/فيفري 2019، وصدور أحكام السجن التي طالت العديد من المسيرين ومديري المؤسسات العمومية، وكان رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون قد أمر في خرجات عدة وخطابات متكرّرة وزير العدل حافظ الأختام بالمسارعة في استكمال صياغة النصوص القانونية الخاصة برفع التجريم عن أفعال التسيير.

كما منع رئيس الجمهورية أية تحركات ضد الإطارات، بناء على "الرسائل المجهولة" التي تصل القضاء ومكاتب صناع القرار، والتي كانت وراء إنهاء الممارسة الإدارية للعديد من الإطارات والمسؤولين في السنوات الماضية.

و أبرق رئيس الجهاز التنفيذي تعليمات متتالية، إلى ولاة الجمهورية بالدرجة الأولى لرفع المكابح عن نشاط الاستثمار بالولايات، من أجل إعادة بعث الاقتصاد الوطني واسترجاع ثقة المسيرين، إلا أن كافة هذه القرارات لم تكن كافية، لإنهاء مخاوف هؤلاء.

ورغم كل ما تم تداوله، بشأن رفع التجريم عن فعل التسيير من خطابات وشعارات سياسية بين سنتي 2019 و2022، تظلّ هذه الأخيرة مجرد حبر على ورق وورشات مشاريع قوانين تنتظر الاستكمال والتجسيد ميدانيا، حيث لا يزال مسؤولو البنوك ومديرو التمويل وإطارات الاستثمار في شتى المؤسّسات، يعزفون عن التوقيع على الوثائق ويرفضون الفصل في قرارات مهمة، ويكتنزون ملفات ذات وزن اقتصادي وتنموي في الأدراج.

بين أخطاء التسيير والجريمة الاقتصادية

ويشدد قانونيون على ضرورة التمييز بين أخطاء التسيير التي يرتكبها المسير عن قصد أو غير قصد، والتي تعبر بالدرجة الأولى عن مستوى كفاءة الإطار وتقديراته للأمور ورؤيته للمناجمنت في المنصب الذي يشغله، وبين الجرائم الاقتصادية المرتكبة عن سبق الإصرار والترصد، والتي غالبا ما يكون الهدف منها جني مصالح معينة دون وجه حق.

وفي السياق، يؤكد القاضي المختص في ملف الفساد خميسي عثمانية لـ"الترا جزائر"، أن فعل التسيير يشمل كل نشاط يندرج في عمل المسير داعيا إلى ضرورة التمييز بين الخطأ  غير العمدي وبين الخطأ العمدي في التسيير الذي يراد منه تحقيق امتيازات مالية على وجه الخصوص.

ويضيف عثامنية "نحن كمختصين في القضاء لا نريد أن نمنح حصانة للمسير عبر قانون جديد يجعله في منأى عن المتابعات القضائية،  بل نريد قانون واضح يرفع الحرج عن أفعال التسيير التي ينجر عنها متابعات قضائية تورط المسير وتجعله في خانة الاتهام".

وشملت محاكمات الفساد التي شهدتها الجزائر منذ نهاية سنة 2019، الكثير من قضايا التسيير التي تورط فيها  مديرو مؤسسات مالية منحوا قروضًا لأشخاص ثبت تورطهم في قضايا فساد، على رأسها أصحاب مصانع التركيب المتواجدين اليوم في السجن.

وتسببت هذه التجاوزات في حبس المسيرين بتهمة الامتيازات غير المستحقة،  كما جرت قضايا العقار الصناعي ورخص الاستغلال ولاة الجمهورية إلى التحقيقات وهنالك من صدرت أحكام قضائية ضدهم.

ويؤكد القاضي عثامنية أن بعض هذه القضايا مرتبطة بالدرجة الأولى بفعل التسيير، وجزء من تلك الامتيازات كانت تمنح في إطار صلاحياتهم، وهو ما يفرض ضرورة المسارعة اليوم إلى إصدار نص تشريعي جديد يفصل بين التسيير والجريمة الاقتصادية.

"صراع الأجنحة" يجر إطارات الدولة للقضاء

ولا يستبعد البعض، في ظلّ غياب مفهوم واضح ودقيق لحد الساعة حول الوظائف التي يجب أن يشملها رفع التجريم عن المسير، إمكانية استغلال جهات معينة لصراع الأجنحة الذي شهدته العديد من مؤسّسات الدولة، خلال الفترة بين شباط/فيفري و كانون الأول/ ديسمبر 2019 لاستدعاء إطارات ومسؤولين سامين للتحقيق معهم في قضايا فساد.

وهو ما يذهب إليه القيادي في حركة مجتمع السلم ناصر حمدادوش الذي انتقد غياب الاستقرار التشريعي في الجزائر، والذي يؤدي- حسبه- إلى حالة "ضياع قانوني" في تسيير الشأن العام، الأمر الذي يكبح التنمية.

ويصرح حمدادوش لـ"الترا الجزائر": "لابد من الالتزام بمعايير الحكم الراشد، وعلى رأسها الشفافية والرقابة والمحاسبة وسيادة القانون واستقلالية القضاء، وهو ما يوفر بيئة العمل المساعدة على النجاح، ويبعد كل شبهات سوء التسيير".

ودعا النائب البرلماني السابق إلى توفير كافة ظروف المحاكمات العادلة، واحترام قواعد القانون ومبادئ العدالة، منها قرينة البراءة، أي أن الأصل المتهم بريء إلى أن يثبت العكس، ما يفرض ضرورة توفير الحماية في التسيير من التعسف والتجريم العبثي والانتقامي، والذي عادة ما يستند إلى صراع الأجنحة وتصفية الحسابات.

"فرملة" الاستثمار والقروض ومنح العقار

وكان أهم ما ترتب عن استمرار تجريم المسيرين في الجزائر، تراجع نسبة منح القروض البنكية والموافقة على المشاريع الاستثمارية وتدني مستويات توزيع العقار الفلاحي والصناعي والسياحي وتأخر رخص الاستغلال والنشاط، الأمر الذي عرقل بداية برنامج الإنعاش الاقتصادي.

ورغم كافة رسائل التطمين التي يلوح بها رئيس الجمهورية في كل مناسبة لتشجيع الإطارات على روح المبادرة والابتعاد عن هاجس الخوف، إلا أنه في ظل عدم صدور لحد الساعة أي تشريع قانوني واضح يحمي المسيرين، لا يزال هؤلاء يتحاشون التوقيع ويبتعدون عن تحمل مسؤولية مشاريع جديدة، قد تجعل مصيرهم مشابها لسابقيهم، الذي يتواجدون اليوم إما رهن الحبس، أو سبق وأن تم التحقيق معهم في قضايا فساد.

ويؤكد الخبير الاقتصادي أبو بكر سلامي في تصريح لـ"الترا الجزائر" أن تجريم التسيير أصبح ذريعة للكثير من المسيرين الذين يعطلون  مصالح المستثمرين، مشددا على أن الأثر الاقتصادي لهذه التصرفات انعكس بشكل واضح على 900 مشروع معطل، الذي كشفت عنه أرقام وساطة الجمهورية، بسبب بيروقراطية المسؤولين والمديرين الولائيين  الذين يتحججون بذرائع واهية وهي إما الملفات غير المكتملة أو نقص في الوثائق المودعة، إلا أن الحقيقة تكشف أن هؤلاء يرفضون التوقيع على المشاريع ويتخوفون من جرائم التسيير والمتابعات القضائية.

وتدخل رئيس الجمهورية شخصيًا لحل ملف 900 مشروع معطل لأسباب إدارية، ويقول سلامي إن الخوف من تجريم فعل التسيير تسبب في كبح مشاريع كانت ستوفر 50 ألف منصب شغل، فضلًا عن الضرائب والرسوم التي كانت ستدخل خزينة الدولة والمنتجات التي يفترض أن تقلل من الاستيراد.

وأدى تجريم المسيرين إلى تردد المستثمرين في القدوم للسوق الجزائرية بسبب التباطؤ المسجل في معالجة الملفات المتعلقة بالاستثمار المحلي والأجنبي.

قانون جديد لحماية المسيرين

وفي انتظار الكشف عن مشروع قانون رفع التجريم عن فعل التسيير الموجود حاليًا قيد التحضير، يؤكد المحامي فاروق قسنطيني أن هذا المشروع يفترض أن يتضمن مواد واضحة للتمييز بين المسؤول الذي يخطأ ب"حسن نية"، وبين مرتكب الجريمة الاقتصادية التي يراد من خلالها  وضع المال في جيب المسير، عبر تلقي رشوة أو امتيازات أو ممارسة افعلا إجرامية أخرى أو التسيب والإهمال وهي الممارسات التي تندرج ضمن نص القانون 01_06  لمكافحة الفساد.

دعا المحامي فاروق قسنطيني المشرعين إلى صياغة مواد قانونية واضحة تفصل بين الجريمة والمبادرة التي تنتهي بالخطأ غير العمد

ودعا المحامي المشرعين إلى صياغة مواد قانونية واضحة تفصل بين الجريمة والمبادرة التي تنتهي بالخطأ غير العمدي، وأن يكون القانون الجديد مفصلًا، إضافة إلى أهمية وضرورة تكوين القضاة حول جرائم التسيير خلال المرحلة المقبلة.