23-أكتوبر-2019

إيزابيل إيبرهارت (Getty)

قبل يومين، حلّت الذكرى 115 لوفاة الكاتبة إيزابيل إيبرهارت، تلك الشابة المتمرّدة الباحثة عن ذاتها، التي عاشت في صحراء الجزائر حياة صاخبة رغم عمرها القصير، حيث توفيت في سن السابعة والعشرين، يوم 21 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1904.

في سن العشرين، حقّقت إيزابيل حُلمها وركبت الباخرة رفقة والدتها، إلى بونة، ولاية عنابة في الشرق الجزائري

ولدت إيزابيل ويلهيلمن ماري إيبرهارت، في جنيف بسويسرا، في السابع عشر من شبّاط/ فيفري من  سنة 1877، هي من أصل روسي، سليلة عائلة بورجوازية مطرودة من روسيا. والدتها من أصول ألمانية، ووالدها ثائرٌ فوضويٌ روسي، وقد حملت إيزابيل الجنسية الفرنسية أيضًا من زواجها.

اقرأ/ي أيضًا: عثمان عريوات.. "غيفارا" الكوميديا السوداء في الحراك الشعبي

إيزابيل العصيّة على الخضوع

ورثت إيزابيل الثورة والتمرّد عن والدها الذي قيل إنّه أليكسندر تروفيومسكي، وهو في الأصل فيلسوف وعالم يُتقن عدّة لغات. هي صفات انتقلت إلى إيزابيل جينيًا، حيث كانت دائمة القراءة والبحث، ومع كل قراءة كنت تنفتح أكثر على العالم، وتحلم بولوج عوالم أخرى، خاصّة المشرق وحضاراته الساحرة.

في سن العشرين، حقّقت إيزابيل حُلمها وركبت الباخرة رفقة والدتها، إلى بونة، ولاية عنابة في الشرق الجزائري، هناك عشقت العمران والحياة، وانتقلت إلى الحي العربي احتجاجًا منها على العنصرية التي شهدتها من الأوروبيين نحو الأفراد من أصول عربية.

حلقت إيزابيل شعرها، ولبست اللباس البدوي وحملت اسم "سي محمود". هامت بعدها في الصحراء حيث وجدت نفسها من خلال التأمّل والاختلاء بالذات، كتبت دون توقف عن رحلتها ومذكّراتها، فكانت صحراء الجزائر أكبر ما ألهمها خلال مسيرتها الحافلة بالأحداث.

عملت مراسلة حرب، وصحافية في جريدة "أخبار" لصاحبها فيكتور باروكون، لتنقل حقيقة المستعمر الفرنسي ومعاملته السيّئة للأهالي بعدما أتقنت اللغة العربية جيدًا.

تزوّجت إيزابيل إيبرهارت من الجندي سليمان هني، وعاشا معًا لثلاث سنوات، حيث سكنا في بيت من الطين في عين الصفراء، بولاية النعامة جنوب غرب الجزائر سنة 1904. هناك وفي يوم ماطر وعاصف، جرفت بيتهما السيول، بعدما فاض الواد المحاذي للبيت، وغرقت إيزابيل وهي تحاول إنقاد مخطوطاتها.

دفن السكّان إيزابيل في عين الصفراء، وأنقذوا بعض مما كتبته، ليكتشف العالم كاتبة شغوفة، وشخصية متصوّفة متمرّدة، نقلت بكل حبّ إلى الناس جمال الجزائر.

بونة في حياة إيزابيل

قصّ الكاتب بوداود عمير لموقع "الترا جزائر"، قصة إقامة إيزابيل إيبرهارت في مدينة عنابة شرق الجزائر، حيث قال إنّه خلال شهر أيّار/ ماي من سنة 1897، رحلت الكاتبة إيزابيل إلى الجزائر. كانت في سنّ العشرين عندما التحقت بشقيقها أوغيستين الذي سبقها للعيش هناك، وكان عليها أيضًا أن تُرافق والدتها إلى مكان أكثر دفئًا من أوروبا، لتكمل العلاج من مرض أنهكها حسب ما أوصى به الأطباء.

 وحسب بوداود عمير، فقد أقامت إيزابيل رفقة والدتها في حي أوروبي في البداية، لكن إقامتها لم تطل كثيرًا، فقرّرت فجأة الانتقال إلى حي عربي، ورجح الكاتب أنّ يعود هذا القرار إلى موقفها من سلوكيات المعمّرين الفرنسيين والأوروبيين ضدّ الأفراد الجزائريين، حيث اعترضت بشدّة على معاملتهم المنافية لأفكارها التحرّرية.

سليمان هني، زوج إيزابيل إيبرهارت

 يضيف المتحدّث، رافقت إيزابيل والدتها ناتالي ديمردير، التي كانت ترغب بشدّة في لقاء ابنها أوغستين، وحسب رواية أشخاصٍ تابعوا سيرتها، اعتنقت إيزابيل الدين الإسلامي في مدينة عنابة، هي والدتها أيضًا، وأطلقت على نفسها اسم "محمود"، يستطرد بوداود، أنّ هذا الاسم هو نفسه الذي كُتب على قبرها في عين الصفراء بولاية النعامة، جنوب غرب الجزائر.

بوداوود عمير، قال إنّ عنابة كانت منعرجًا حاسمًا في حياة إيزابيل، حيث توفيت والدتها في سنّ مبكر هناك بسبب المرض، في تشرين الثاني/نوفمبر 1897، ودُفنت تحت اسم "فاطمة المنوبية"، وتُثبت بعض المراسلات كما قال الكاتب، أن إيزابيل تأثرت كثيرًا برحيل والدتها، حيث أكدت مراسلاتها إلى صديقها علي عبد الوهاب في تونس ذلك، وقد ترسّخت صورة أمّها وأيضًا مقبرة المسلمين بمدينة عنابة في ذهنها طيلة مشوار حياتها إنسانة وكاتبة، تجلّى ذلك بوضوح في بعض الكآبة التي لم تكن تفارقها، في رحلاتها، في مراسلاتها وفي نصوصها.

كانت لعلاقة إيزابيل بصديقها علي عبد الوهاب، أثرًا بالغًا في تحديد مسار حياتها القادمة

 ويُردف الكاتب، أنّ إيزابيل تتمنى لو ماتت في هذه المقبرة الهادئة، قرب أمّها، حيث كتبت يومًا: "أتمنى عندما ألقى حتفي، ويشاء القدر نهايتي، أن أُدفن في أرض الإسلام هذه، في هذا المنظر الرائع حيث التلال، والأودية المخضرّة، وبين هذه القبب والأضرحة البيضاء، والتي تنفصل بينها في فروق شاحبة على أشجار التين الخضراء، تحت زنبقية حيث تسرع هاربة حيّات صغيرة".

اقرأ/ي أيضًا: الزاوية التيجانية.. قِبلة العشاق ومورد النُسّاك في الصحراء الجزائرية

كانت لعلاقة إيزابيل بصديقها علي عبد الوهاب حسب بوداود عمير، أثرًا بالغًا في تحديد مسار حياتها القادمة، لقد كانت صداقة قوية بحقّ، فقد صارحته مرارًا بمدى إعجابها وتعلقها بالدين الإسلامي، وهو كان لها بدوره، فضل في عشقها للإسلام وشغفها بالجزائر أو "دار الإسلام" مثلما سمتها في عدّة كتابات لها.

قال الكاتب إن هذه المراسلات مع صديقها، كانت حسب رواية إيدموند شارل رو "بمثابة النصوص الوحيدة التي تسمح بتتبّع مسار إيزابيل، قبل أن تختار الدين الإسلامي، واللجوء إلى الصحراء، لم تذهب إلى الصحراء لجمع الثروة، أو لغرض ما، ولكن لتنتهي فكرة أن تكون ذاتها، ذهبت دون مهمّة ولا هدف، ولكن كمغامرة مسكينة قريبة من بطل بلزاك، والذي بعد رحلة شاقة، ومعاناة شديدة، توصّل من خلالها إلى أنّه في الصحراء يوجد كل شيء ولا يوجد شيء، يوجد فيها الله دون البشر".

عندما كانت إيزابيل إيبرهارت تشعر بحالة تأزّم، يقول بوداود، فملاذها هو الصديق علي عبد الوهاب، لم تزدها عودتها إلى سويسرا سوى حالة من الاستياء، وقد ترجمت جيّدًا في مراسلتها له  تلك المعاناة قائلة: "يزداد حزني من يوم لآخر، بدأت أشعر بالفراغ المهول في حياتي، بعد وفاة أمي، تفيدني الآن أخبارك، حتى لا أشعر أنّي وحيدة على هذه الأرض، أنت الوحيد الذي يفهمني أفضل حتى من أخي أوغيستين".

أربعون عاما في انتظار إيزابيل

هي رواية ولدت من رحم مخطوطات إيزابيل إيبرهارت، للكاتب سعيد خطيبي، الذي قال لموقع "الترا جزائر" إنّه لم يكن ينوي كتابة رواية عن هذه الشخصية الساحرة، فقد كان مهتمًا بالبحث والتّنقيب عن مخطوطاتها الأصليّة، واستعادة ما ضاع من سيرتها.علاقة سعيد بإيزابيل  تعود إلى 14 سنة خلت، فقد قال أن أوّل مقال كتبه عن إيبرهارت نشر عام 2006، ومع مرور السنوات، بدأت فكرة الرواية في التّخمر.

عاشت إيبرهارت حياة قصيرة لكنها محتشدة بالأحداث والتجارب، انطلق سعيد خطيبي كما قال، من سؤال: ماذا لو أنها عاشت في الزمن الحاضر؟

شخصية جوزيف رينشار في رواية "أربعون عاماً في انتظار إيزابيل" هي نسخة "مذكّرة" من إيزابيل، هو نظيرها، عاش مثلما عاشت، ولن يكتشف القارئ الشّبه سوى في النهاية. 

يستطرد سعيد خطيبي أنه أراد لبطل روايته  حياة مشابهة لحياة إيزابيل، في الانتقال من الشّمال إلى الجنوب، لقد كانت ثنائية الجنس، بينما عاش جوزيف كذلك، مع نساء ثمّ في علاقة مثليّة مع رجل آخر وهو (سليمان)، وسليمان هو أيضًا اسم بعل إيبرهارت،  كانت هي تكتب وهو يرسم.

واصل سعيد خطيبي حديثه بأن حياة إيبرهارت وعلى الرّغم من قصرها، "هي مختصر سيرتنا كجزائريين، فهويتنا مشوّهة وغير معلومة، وقدرنا مؤهّل للانقلاب في أيّ لحظة، ومثلما عانت من التّخوين في حياتها وبعد موتها، نحن الجزائريون أيضًا، نفقه التّخوين ونكرّر التّاريخ كلّ مرّة بسذاجة"

إيزابيل إيبرهارت : قدر في الإسلام

الكاتبة الفرنسية تيفاني تافيرنيي، هي صاحبة كتاب "إيزابيل إيبرهارت، قدر في الإسلام"، وقد تحدّثت في حوار سابق عن مؤلّفها، عبر إحدى القنوات الفرنسية، أنها تعرفت على شخصية إيزابيل من خلال كتاباتها وهي في سن السابعة عشر، وقالت تيفاني أنها كانت مراهقة حالمة تحلم بالسفر واكتشاف العالم والكتابة، وقد كان الفضل لإيبرهارت في تشجيع هذه الأحلام فيها، حيث انبهرت برؤاها وروحها وحداثة كتاباتها النثرية، وبجمال الطبيعة والمناظر التي كانت تصفها إيزابيل في ما قرأته لها.

اعتبرت تيفاني الكاتبة إيزابيل شخصًا منحها الجرأة ولامس ذاتها، لهذا قرّرت أن تصبح كاتبة، وأن تزور بعد سنة المكان الذي عاشت فيه إيزابيل، وهذا ما وصفته في روايته الأولى.

إيزابيل إيبرهارت في نظر تيفاني تافيرنيي هي امرأة تُعلّمك الكثير رغم مشوار حياتها القصير، فقد عاشت حياة صاخبة.

وأضافت تيفاني أن إيزابيل قد تعلّمت عشر لغات، أتقنت الخياطة كأي امرأة، لكنها كانت تقوم بأعمال رجالية صعبة أيضًا، وحسب تيفاني، لبست إيزابيل الزي الذكوري منذ سن العاشرة، وقرأت كثيرًا في كل المجالات بمعدّل كتابين في اليوم، ككتب الجغرافيا، والأدب وعلم النباتات أيضًا، واعتبرت المتحدثة إيزابيل بمثابة عالمة ثائرة تعشق الحياة والأشخاص الفوضويين.

وفي سؤال عن سبب ذهاب إيزابيل إلى الجزائر، اعتبرت تيفاني تافيرنيي أن موضة الاستشراق كانت رائجة جدًا في ذلك الوقت، حيث كانت إيبرهارت تقرأ الكثير من الكتب رفقة شقيقها أوغستين، قرآ معا لبيير لوتي، وجون فرومونتان، ومن هنا ولد شيءٌ شدّها إلى الإسلام وهي في سن السابعة عشر.

إيزابيل والصوفية

أما عن اعتناق إيزابيل إيبرهارت للإسلام، قالت تيفاني إنّ هذه المرأة هي في الأصل شخصية روحانية متصوّفة، متعطشة للحقائق المطلقة، وقد كانت دائمة البحث عن ماهية الموت والمعاناة، في وقت كان فيه الغرب وما يزال رهينة الشكّ.

 واصلت تيفاني حديثها، أنّ الإسلام الصوفي الذي شدّ إيزابيل، كان من خلال احتكاكها بشخصيات جزائرية بسيطة، هؤلاء الذين اختلطت بهم وانبهرت بشجاعتهم والتزامهم بإيمانهم ومحافظتهم على صلاتهم، وحسب تيفاني فإن هذا النوع من التصوّف كان قويًا ومتجذرًا، وهو ما كان يخيف المُستعمر، لأنه كان إسلامًا سلميًا، على حدّ قولها.

تيفاني تافيرنيي: "إيزابيل امرأة جعلتنا نكتشف الجزائر والأمور الخصوصية داخل الوطن العربي"

الشابة إيزابيل، كانت محبوبة من العرب المحيطين بها، وكانت تخرج وسطهم بلباسها الرجالي، تجالسهم بشخصية مشتّتة بين الشرب والجنس والبحث عن الله. إيزابيل إيبرهارت في نظر تيفاني تافيرنيي، هي "امرأة جعلتنا نكتشف الجزائر والأمور الخصوصية داخل الوطن العربي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الطرق الصوفية.. محل استغلال سياسي جزائريًا

الطائفة الصوفية الكركرية.. تحريك المياه الراكدة في الجزائر