08-أكتوبر-2021

صورة التقطت في الجزائر العاصمة سنة 1960 (الصورة/Getty)

يُحيل تطوّر العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا في الآونة الأخيرة، إلى أسئلة تاريخية كثيرة، حول معضلة تتجدّد منذ قرابة ستين عامًا منذ استقلال الجزائر، منها ما هو متعلّق باعتراف فرنسا بجرائم ارتكبتها في الجزائر في الحقبة التاريخية، ومنها ما هو متعلّق بكتابة تاريخ مشترك يلغي الاعتراف وتعويض ضحايا الحرب.

الباحث سليم أوفة: المحاربون الجزائريون في صفوف الجيش الفرنسي ضدّ أبناء بلدهم هم خونة وعملاء في التاريخ الجزائري وأبطال في التاريخ الفرنسي

تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أعادت فتح جراح الجزائريين، وانحدرت بمستوى العلاقات بين البلدين إلى أزمة متحرّكة عنوانها "التاريخ والذاكرة"، ووصل النقاش في قضية التصالح مع الذاكرة إلى طريق مسدود، بعدما كان مبادرة من الطرف الفرنسي تسعى ظاهريًا إلى التصالح مع الذاكرة وفتح صفحة جديدة أمام أجيال المستقبل.

الاعتذار الفرنسي

هذه الأطروحة التاريخية، في عيون باحثين تبقى معلّقة دون اعتراف واعتذار فرنسي في المقام الأول، ودون تعويضات في المقام الثاني، كما قالت الباحثة في التاريخ فريدة يونسي، من جامعة الجزائر، فالتاريخ المشترك، حسبها، كافٍ لأن يعيد تقليب صفحات الأحداث، "وإعطاءها بعدها الحقيقي وإعادة النظر إليها بسياقاتها التاريخية وليس بسياقات الحاضر والسياسة والمصالح الضيقة".

تشرح الأكاديمية لونيسي، في حديث إلى "الترا جزائر"، أنّ من العيوب التي نجدها في الكتابة التاريخية، هي الاختلالات في النّصوص البحثية الموثقة، "خاصّة أننا بصفتنا باحثين لا يمكن أن نحكم على الظاهرة التاريخية أو الحدث التاريخي بمنظار أو بنظّارات السياق الحالي، أي بأحداث سياسية تتجدّد في علاقة بين البلدين".

تضيف المتحدّثة، أننا اليوم أمام ضرورة حتمية وهي إعادة كتابة التاريخ، مشيرة إلى أن أهمية البحوث الأكاديمية في هذا المضمار، لأنه "الطريقة الوحيدة لأن نخرج من سجنه".

من هذا المنطلق، يلاحظ مهتمون بالشأن التاريخي عمومًا، وبتاريخ الجزائر الاستعماري خصوصًا، أن المؤرّخ الجزائري أو المشتغِل في حقل الدراسات التاريخية، بات محصورا بقصد أو دون قصد في دائرة إعطاء المنظومة السياسية القائمة الشّرعية، وأيضًا لمختلف فعالياتها ودوائرها وكياناتها، وهذا ما لفتت إليه العديد من الأصوات التي ترى أن كتابة التاريخ يشوبه دومًا البحث عن مقاسات توائم السياسة، وتنسجم مع مواقف خطاباتها، وبذلك أي كتابة تاريخية تكون مقيدة براهنية منظومة الحكم وظروفها وشروطها.

ثنائيات العلاقة

استنادًا إلى هذا الطرح، ذكر الباحث موسى سلايمية أن الباحث المؤرّخ يقع في كتاباته في ثنائيات متعددة منها: "التراكمات المعرفية والذاتية الموروثة، والبعيد والقريب، والسياق الحالي-الآني والماضي"، وهذا لا ينفي أن الآخر، أي من يكتب عن التاريخ الجزائري من غير الجزائريين، "هم أيضًا محكومون بنفس الثنائيات والجدليات التي تمنع عنهم رؤية الحقائق وعرضها من خلال سياقاتها وظروفها".

ويلاحظ الباحث سلايمية في حديث إلى "الترا جزائر"، أن هناك توجّهات عديدة نحو كتابة التاريخ خارج القنوات الرسمية، لإعادة قراءة الشهادات والشهادات المضادة للحقائق السائدة، كمثال فقط، وإعادة كتابة التاريخ من جديد بعيدًا عن النظرة المحصورة في السياسة أو بالأحرى بعيدًا عن قيود السياسية، على حدّ قوله.

في هذا الاتجاه، وبعيدًا عن المعتقدات الراسخة؛ تُطرح العديد من الأسئلة المتعلقة دومًا بفرضية " كتابة تاريخ المشترك"، وهي الفرضية التي ينفيها كثيرون من منطلق أساسات العلاقات السياسية والتي تفرض دومًا التخلص من جرح الماضي والاعتراف به والاعتذار عنه ودفع التعويضات اللازمة، وهي الأساس الأولي لكتابة تاريخية سليمة مبنية على الرأي والرأي الآخر، وتغذيه السير الذاتية والشهادات الحية والتحقيقات المعمقة وعرضها على المناهج التاريخية الأصيلة، وفقا للمادة التاريخية المدروسة، على حدّ قوله.

ملفات حارقة

أسئلة حارقة وزوايا نظر مختلفة بين التأريخ الجزائري والتأريخ الفرنسي، وثنائية أخرى تظهر دومًا للرأي العام إذا طفت السياسة بخطاباتها، وبالعودة لإشكالية إمكانية كتابة تاريخ مشترك بين الجزائر وفرنسا، تبرز جدران سميكة تعيق ذلك، بحسب أستاذ التاريخ والباحث سليم أوفة، أهمّها كيف نتعامل مع ملفّ الحركى وهم "المحاربون الجزائريون في صفوف الجيش الفرنسي ضدّ جيش التحرير الجزائري خلال فترة الثورة التحريرية والوشاة بتحركات الثوار"، هم حسبه، يُعتبرون خونة وعملاء في التاريخ الجزائري، في مقابل ذلك، تكرّمهم الدولة الفرنسية اليوم كأبطال، وهنا تتعاظم المسافة بين التعريفين للأشخاص أنفسهم، على حدّ قوله.

أما ثاني الملفات، بحسب محدّث "الترا جزائر"، فهمي تتعلق أساسًا بالجرائم المقترفة في حقّ الجزائريين، حيث تراها السلطة الفرنسية بأنها "معارك" من منظور سياسي إيديولوجي بحت، في المقابل هي جرائم ضدّ الإنسانية كسياسة الأرض المحرقة والتجارب النووية في الصحراء الجزائرية وخطوط الألغام، التي لازالت تحصد الأرواح ليومنا هذا على مستوى الحدود الشرقية والغربية للجزائر.

من جهة أخرى، هناك طرح آخر يقترحه البعض لكتابة التاريخ بـ "حلوه ومرّه"، وذلك برأي الأستاذ أوفة "استجابة للتساؤلات والأطروحات التاريخية حول الماضي الحقيقي، وخدمة لمجتمعاتنا، بغضّ النظر عن الأنظمة القائمة"، لكن رغم ذلك، هناك ملفات وجب ضبطها نهائيًا وغلقها عن طريق العقاب، لأن هناك حقائق لا يُمكن التغاضي عنها وتجاوزها.  

هذه الملفات وخاصّة منها الجرائم المقترفة طوال 132 سنة من الاستعمار الفرنسي لا تنتهي بالتقادم، وهو ما اعتبرته السلطات الجزائرية "مفصولًا فيه، فلا مصالحة على حساب الذاكرة الجزائرية".

يبقى كتابة تاريخ مشترك بين الجزائر وفرنسا من بين أبزر الملفات التي تشكّل نقطة خلاف بين الجزائر وفرنسا

يبقى كتابة تاريخ مشترك بين الجزائر وفرنسا من بين أبزر الملفات التي تشكّل نقطة خلاف بين البلدين، وتبقى علاقات المصالح بينهما مبنية على ذهنيات الاقتصاد والسياسة؛ فالاعتراف الفرنسي خطوة نحو الحلّ ولكنه ليس كلّ مسافة الطريق الواجب قطعها نحو تهدئة العلاقات بينهما.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عاصفة دبلوماسية وشيكة بين الجزائر وباريس

ماكرون: النظام الجزائري أنهكه الحراك الشعبي