في بلد أصبح فيه كل شيءٍ مسيّسًا، تحوّلت الرياضة وكرة القدم على وجه الخصوص إلى أخطر الأسلحة في يد السياسين، وبالمقابل أصبحت ميدانًا خصبًا لنهب المال العام بالنظر إلى الملايير التي تُصرف من أجلها دون رقيب، بعد أن كانت في وقت سابق عنوانًا للنضال في سبيل التحرّر من الاحتلال الفرنسي، وأبرز أوجه نجاح "جبهة التحرير الوطني" أيّام الثورة التحريرية.

كان فريق "جبهة التحرير" صوت الثورة الجزائرية في الملاعب العالمية

في حديثه عن تشكيلة الحكومة التي سيشكّلها رئيس الجمهورية المنتخب عبد المجيد تبّون، قال مدير حملته الإعلامية محمد لعقاب، إنها ستكون "حكومة كفاءات" من الجزائريين المقيمين في الداخل والمقيمين في الخارج، على طريقة مدرّب منتخب كرة القدم جمال بلماضي، الذي اعتمد مبدأ الكفاءة وجواز السفر وشهادة الميلاد دون أية معايير عرقية أو جغرافية.

اقرأ/ي أيضًا: عندما نقلب صفحة الرياضة.. من الملايير إلى البؤس

ذهب كثير من المعلّقين بعيدًا في الموضوع، عندما أضافوا إلى تصريحات لعقاب كلامًا لم يقله، من قبيل أن تبّون سيعتمد هذه الخطة الفنيّة أو تلك، وما يهم في الموضوع هو حضور الرياضة في المشهد السياسي وعلاقة هذه بتلك.

يبدو أن علاقة الرياضة بالسياسة في الجزائر قديمة وتعود إلى أيّام الثورة التحريرية، عندما تشكّل "فريق جبهة التحرير الوطني" لكرة القدم بأمرٍ سياسي من قيادة الثورة، فتلقّى نجوم كرة القدم في الدوري الفرنسي الجزائريون عام 1958 أوامر بمغادرة فرنسا فورًا والالتحاق بتونس، فلبّى كثيرون منهم النداء، وبعضهم كان مؤهلًا للعب في مونديال السويد حينها.

كان فريق "جبهة التحرير" صوت الثورة الجزائرية في الملاعب العالمية، حيث ساهمت الرياضة في خدمة القضية الجزائرية مثلما ساهمت المعارك الميدانية والفرقة الفنيّة لحزب "جبهة التحرير الوطني".

ورغم أن قوانين "الفيفا" الحالية تمنع بشكل قاطع أية تدخّل للسياسيين في الشؤون الرياضية، فإن واقع الحال يؤكّد عكس ذلك؛ فمؤخّرًا وقبيل الانتخابات الرئاسية أعلن الاتحاد الجزائري لكرة القدم وبشكل مفاجئ إلغاء كل المنافسات المقرّرة وتأجيلها إلى مواعيد لاحقة، ورغم أن القرار حمل توقيع رئيس الاتحاد الكروي إلا أن الجميع يعلم أنه صادر عن وزارة الداخلية ويشمل كل المنافسات الرياضية.

انتبه الرئيس الجزائري السابق مبكرًا لـ"سلاح" الرياضة، فوظّفه كثيرًا من أجل الاستمرار في الحكم عشرين سنة كاملة، واستعمل رؤساء الأندية من أجل الترويج لصورته، مثلما حدث مع رئيس وفاق سطيف السابق عبد الحكيم سرّار، الذي بقي يبشّر بعهدات بوتفليقة المتتالية ودعوته للترشّح في كل مرّة.

الأمر نفسه حدث مع واحد من أكبر الأندية جماهيرية وهو مولودية الجزائر، التي بدأت الترويج للعهدة الرابعة مبكرًا عندما "دعت" بوتفليقة للترشّح سنة قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2014، وكان مسؤولوه يستعدّون لاستلام كأس الجمهورية من يدي الرئيس في أيّار/ماي 2013، قبل أن يُصاب الأخير بجلطة دماغية أبعدته عن الأضواء. ويوم النهائي رفض مسؤولو النادي استلام الميداليات من يدي الوزير الأوّل حينها عبد المالك سلال، ممّا دفع الحكومة إلى تسليط عقوبات ضدّهم.

بلغ تدخّل السياسة في الرياضة مداه، وتحوّل إلى حالة "كاريكاتورية" عام 2004، عندما كان الصراع على أشدّه بين رئيس الجمهورية المنتهية ولايته الأولى حينها عبد العزيز بوتفليقة، ورئيس وزرائه السابق علي بن فليس، عندما انقسمت الطبقة السياسية والمجتمعية بين تأييد هذا وذاك، وامتد الصراع إلى النوادي الرياضية، غير أن ما حدث في نادي مولودية وهران فاق كل تصوّر.

يستذكر الصحافي أمين علّام تلك الحادثة، وكان حينها صحفيًا مبتدئًا في القسم الرياضي، ويقول في حديث لـ"الترا جزائر" إن الصراع داخل مولودية وهران بدأ قبل ذلك بين الراحل قاسم ليمام وغريمه يوسف جباري على رئاسة النادي، وكل واحدٍ منهما كان يدّعي أنه الرئيس الشرعي، وعند قرب الانتخابات الرئاسية، أعلن جباري تأييده لترشّح عبد العزيز بوتفليقة في مقابل إعلان قاسم ليمام تأييده لترشّح علي بن فليس.

ويضيف علّام أن ما حدث يوم مباراة مولودية وهران ونصر حسين داي الملغاة لا يُمكن أن ينسى، حيث كانت المباراة مبرمجة في ملعب 20 آب/أوت بالجزائر العاصمة، وتفاجأ حينها مسؤولو حسين داي باستقبال ناديين في الوقت نفسه، واحد برئاسة يوسف جباري والآخر برئاسة قاسم ليمام، وكلٌ منهما يقول إنه يمثل مولودية وهران، حيث شمل الانقسام لاعبي النادي أنفسهم، وأمام هذا الواقع ألغيت المباراة وأعلن فوز نصر حسين داي على البساط.

الغريب أن مشكلة مولودية وهران انتهت بعد فوز بوتفليقة بالانتخابات، وفاز معه يوسف جباري برئاسة النادي.

في الوقت الذي أعلنت فيه السلطات الجزائرية عن "مراجعة شاملة" لملف الاحتراف في كرة القدم الجزائرية الذي بدأ عام 2011، يُدرك متابعون للموضوع أن الانحراف الكبير في هذا الملف بدأ عام 2012، عندما أراد الرئيس السابق مواجهة مدّ الربيع العربي، ولجأ إلى دعم نوادي كبرى لها أعداد كبرى من الجماهير، على غرار مولودية الجزائر وشباب قسنطينة، على حساب نوادي أخرى، فكثر الفساد باسم دعم الرياضة.

لم يكن بوتفليقة الوحيد الذي وظّف الرياضة في خدمة السياسة، فقبل سنوات فجّر اللاعب الدولي السابق صالح عصّاد، قنبلة عندما كشف سرّ انهزام المنتخب الجزائري في نهائي كأس إفريقيا للأمم عام 1980 بثلاثة أهداف مقابل صفر، بعد أن كان الكلّ يتوقع عودته بالكأس من العاصمة النيجرية لاغوس حينها.

لم يكن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الوحيد الذي وظّف الرياضة لخدمة السياسة

يقول عصاد إن وزير الشباب والرياضة حينها جمال الدين حوحو، زار المنتخب في معسكره بعد تأهّله للنهائي وخاطب اللاعبين قائلًا لهم إنّ الرئيس يحييهم ويشكرهم على الإنجاز الكبير ويقول لكم إنّ مهمّتهم انتهت عند هذا الحدّ، وعندما سألوه عن السبب قال إنّ نيجريا تعاني مشكلاتٍ كثيرة، وهي بحاجة إلى الفوز بالكأس من أجل أن يفرح شعبها وينسى قليلًا مشكلاته.

اقرأ/ي أيضًا:

يوسفي بلايلي.. مجرّد مدمن على كرة القدم

باعة الرايات والأعلام في مسيرات الحراك.. تجارة وسياسة