25-مايو-2022
الفنانة شافية بوذراع (تصوير: كريتسين بوجولات/أ.ف.ب)

الفنانة شافية بوذراع (تصوير: كريتسين بوجولات/أ.ف.ب)

لا كائن نجا من الموت قطُّ، لكن المَنيَّة التي تقطف الفنان صاحبَ الأثر العميق من بين أبنائه وأهله وجمهوره الذين أحبوه، لا تأخذ معها روحه، إنما تذهب بالجسد وتترك الروح محلقةً في الأفئدة حيث ستخلد أبدًا، فكيف بروح سكنت ذاكرة الجزائريين، وارتبطت بنضالاتهم ومعانتهم ومآسيهم وانتصاراتهم؟

بعد الاستقلال غادرت شافية بوذراع مدينة قسنطينة نحو العاصمة بحثًا عن أفق أرحب وزاولت عدة مهن بغية إعالة أطفالها اليتامى كممرضة ومدّبرة منزل

 كانت السيدة شافية بوذراع امرأة صلبة، وعلى رقّة ابتسامتها وبحّة صوتها، حفظتها ذاكرتنا البصرية مُسِنةً ومتعبة، رغم ذلك، بقيت امرأةً منتصبة القامة، حملت على ظهرها ثِقل سنوات طويلة من الفن الجميل، رغم أنها ظهرت لنا في السنوات الأخيرة بجسد أنهكته السنين، مضناةً من كل ما عاشته طوال حياتها، لكنها ظلّت شابة الروح ومعطاءة القلب، حيث عاصرت أجيالًا عديدة من الفنانين والمخرجين وصناع السينما والدراما فأحبّها الجميع، ومنحتهم بلا حسابٍ من بئر خبرتها الخبيء، ومن دعائها الوافر الدائم.

عايشت المرحومة سنوات الاستعمار وثورة التحرير، وفرحة الاستقلال وحرارة انطلاق بلد محرّر، كما رأت خيباته ونجاحاته، وشهدت هلع فترات الإرهاب والركود الاجتماعي والفني، وعاشت سنوات الفن الجزائري الطويلة، الذهبية منها والمُطفأة عنوة أيضًا.

تأملناها كثيرًا فرأينا في تقاسيمها وجه الأم وراحتيها المتشققتين من فرط الشقاء، ولمحنا على محياها تجاعيد الجدة، فكانت بمثابة الفرد الأكثر حكمة والأشد وقارًا في عالتنا، ودخلت إلى بيوتنا طوعًا بطيبتها فصارت منا.

جمعت شخصياتها المختلفة بين ملامح المرأة الجزائرية التي ألفت قسوة الحياة فخاطت لها ثوبًا على مقاسها، وصورت ألم الأنثى البسيطة المكافحة، كما جسدت النموذج الاجتماعي الوقور حتى في أشد عوزه، وقارٌ صمد في شخصيتها رغم التغيرات التي شهدتها البلاد ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا، فبقيت "لاّ عيني" هنا، لتحفظ تلك الهالة التي تعلوها وتحرس روحها الكريمة دومًا، والحازمة وقت الحاجة.

قسنطينة .. مهد الطفولة

كان اسمها الحقيقي عتيقة لطرش، حملته منذ ولادتها ذات ربيعٍ في قسنطينة شرق الجزائر سنة 1930، وهو الاسم الذي رافقها أيضًا خلال مشوارها في طفولتها وشبابها، وأثناء فترة انتمائها للكشافة الإسلامية الجزائرية، هناك، حيث اشتعلت في روحها شرارة النضال، كما حضرت بعض دروس الشيخ بن باديس رفقة والدتها ومشت في جنازته رفقة زملائها في الكشافة وجموع من الطلبة، وقد كانت ابنة شارع المكّي بن باديس في القصبة، ودرست في جمعية التربية والتعليم الاسلامية في دروج الرماح في حي ربعين شريف بداية من سنة 1936، حيث مارست التمثيل لأوّل مرة في عدة حصص خصّصت لتمثيليات صغيرة داخل الجمعية.

صالح بوذراع ..رفيق دربٍ وكفاح

تزوّجت الراحلة من الشهيد صالح بوذراع الذي يحمل اسمه حاليًا شارعٌ وبلديةٌ في ولاية قسنطينة، كما أنه كان من بين تلاميذ الشيخ عبد الحميد بن باديس، وتلقى العلم أيضًا لمدة سنتين في جامع الزيتونة في تونس، ثم عاش بعدها في قسنطينة حيث اشتغل في التعليم عقب اندلاع الثورة، وانخرط في الكفاح المسلح رفقة الشهيد مسعود بوجريو.

 تعرف صالح بوذراع خلال تلك الفترة على هذه السيدة التي رافقته خلال الحرب التحريرية ودعمته كزوجة وكرفيقة سلاح (كما ذكر في عدة مصادر)، حيث أنجبت منه خمسة أبناء وعاشت معه إلى غاية استشهاده قبيل الاستقلال سنة 1961.

في حوار سابق لها منذ سنوات مع الإذاعة الثقافية، أكّدت شافية بوذراع أن زوجها الشهيد الشيخ صالح كما كانت تناديه، كان رجلًا طيبًا، منفتحًا جدًا وغير متعصب، ويعطي قيمة للعلم وللفن والحياة بصفة عامة، ما دفعها للعيش معه في مودّة، وإنجاب خمسة أطفال منه، ومقاسمته الحياة إلى غاية استشهاده.

الجزائر العاصمة.. بوابة الانطلاق

بعد الاستقلال، غادرت شافية بوذراع مدينة قسنطينة نحو العاصمة سنة 1964 بحثًا عن أفق أرحب، فزاولت هناك عدة مهن بغية إعالة أطفالها اليتامى، لهذا عملت ممرضةً وعاملة هاتفٍ ومدبرة منزل، إلى أن جاءتها الفرصة لاقتحام مجال السمعي البصري عبر مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون الجزائري، من خلال المشاركة في أعمال عديدة، وقد قالت الفنانة الراحلة عن ذلك في إحدى حواراتها، "لقد انتهجت مثلًا قسنطينيًا كشعار لي في بداياتي، يقول: "لي يخرج يخدم، ما يدير روحو حلو حتى يبلعوه وما يدير روحو مر ّحتى يبصقوه"، أي أنها كانت معتدلة في تعاملها مع الوسط الفني وروّاده.

الإذاعة والتليفزيون

قالت شافية بوذراع في تصريح سابق منذ سنوات، أنها كانت ذات فضول كبير، لهذا انتابتها رغبة كبيرة لاكتشاف مجال الإذاعة والتلفزيون، لأنّ الفضول رغم أنه سلوك شقي، قد يخدم صاحبه أحيانًا، لهذا، طلبت آنذاك من المرحومة فتيحة بربار طريقةً لدخول هذا المكان واستكشاف عوالمه، فنصحتها بالاتصال بمصطفى قريبي.

 بعدها بفترة قدمت أول عمل لها في سكيتش الغزي (1966)، حيث مثلت فيه شخصية الأم، وهو الدور الذي برعت فيه الراحلة كثيرًا، وتلته عدة أعمال أخرى في الإذاعة مع محمد ونيش وسكيتشات مختلفة في التلفزيون أيضًا، حيث عملت مع جمال بن ددوش وآخرين، وقدمت أعمالًا إذاعية كثيرة مع عدة مخرجين أمثال بشيشي، حيث اكتسبت خبرة مهمة ساعدتها على اكتساب الثقة لاقتحام عوالم أخرى حبا للفن ورغبة منها في منح حياة أفضل لأبنائها.

مدرسة المسرح الجزائري

بعد سكيتش "الغزي" الذي لعبته رفقة الفنانين أرزقي نابتي وياسمينة، دخلت الفنانة شافية بوذراع إلى عالم المسرح الوطني الجزائري، في الوقت الذي سبقتها فيه فنانات أخريات إلى الركح كنّ أكثر خبرة منها، أمثال الفنانة فريدة صابونجي ونورية وياسمينة، مع ذلك، عرفت جيدًا كيف تشق طريقها بشكل صحيح، وأصرت على التوفيق بين عملها في التمثيل وبين تربية أبنائها الذين كانت تكدّ من أجل إعالتهم، كما أصرّت أيضًا على الحفاظ على سيرة طيبة ومحترمة آنذاك.

كان تعاملها الأوّل في المسرح مع الراحل مصطفى كاتب الذي قالت بأنه تردّد في البداية لقبولها، لكن الفنانة الراحلة نورية دعمتها ورشحتها له لتمثيل أدوار الأم دون معرفة سابقة بها، وهناك قدمت شافية بوذراع أدوارا في مسرحيات) المرأة المتمردة (و) دائرة الطباشير القوقازي) وغيرها الكثير من الأعمال التي صنعت لها مكانا مهما على الخشبة رفقة أسماء مهمة جدا مثل حسن الحسني، رويشد، كلثوم والعربي زكال والمخرجين علال المحب وحاج عومار.

"لاّ عيني" ثورة سخطٍ على العوز

يعدّ مسلسل "الحريق" لمخرجه مصطفى بديع بمثابة العمل العظيم الذي رسخ شخصية شافية بوذراع في قلوب الجماهير، حيث برعت كثيرا في دور "لاّ عيني" الذي زرع في النفوس مشاعر متضاربة اتجاه هذه الأرملة القاسية المتعبة التي تعيل أفراد عائلتها في ظروف مزرية، وتقسو على أمها المريضة المقعدة.

قالت شافية بوذراع في تصريح عن المسلسل، أنها حاولت مرارًا رفض هذا العمل في البداية، حتى أنها اقترحت على المخرج فنانات أخريات   كالممثلة نورية وكلثوم لتمثيل الدور، لأنها شعرت بالذعر من أدائه وبخوفٍ كبير من الفشل، فقد كان عبارة عن ثلاثية (الحريق، الدار الكبيرة والنول)، والتي قدمت على شكل مسلسل مقتبس من أعمال الكاتب الجزائري الراحل محمد ديب.

مع ذلك، تشجعت الفنانة أخيرا لأداء الدور وتحدت نفسها أمام مرآتها، كما قالت، فإما أن تنجح في أداء الدور أو أن تعتزل هذه "الصنعة" نهائيًا.

قالت الراحلة إنها كانت تحفظ نصوصها سماعيًا طوال التصوير، ومثلت كل الحلقات في وقت واحد، حيث أكّدت أن شخصية "لا عيني"، لم تمثل في الواقع المرأة القاسية جدًا بقدر ما مثلت "الحقرة" المسلّطة عليها من المحيط والظروف والجيران وحال الأم والأبناء.

 كانت "لّا عيني" امرأة عالقة في قدرها المشؤوم، ولم يكن لديها الوقت للبكاء والشكوى، وهو ما خلق في نفسها ذلك الغضب والسخط على كل شيء، فأبانت عن قسوة مصطنعة جابهت بها واقعها، فكانت تطهو الحجر لإيهام أبنائها الجوعى بقرب الفرج، وعايشت ثورة ابنها الباحث عن ذاته، وظروف الاستعمار والتجويع، ما جعلها بمثابة ثورة صغيرة على محيطها وعائلتها وعلى كل ما يقسو عليها في ذلك الزمن، عمل فرض بواقعيته وألمه، بصورة الجوع التي جسدتها شخصيات لم تمارس التمثيل في معظمها من قبل، إلا أن المخرج مصطفى بديع استطاع أن يخرج منهم تلك الروح الجزائرية، وأولئك الفنانين الكامنين في دواخلهم.

مثلت شافية بوذراع في دور "لاّ عيني"  الوجه الخفي للجوع والمعاناة، وكان مسلسل "الحريق" بالنسبة لها بمثابة "الشجرة المثمرة التي غرستها وظلت طيلة حياتها تأكل من ثمارها".

شافية... أم السينما في الجزائر

اقتحمت الراحلة عالم السينما بعد ذلك من خلال عدة أفلام ميزت مسيرتها، فكانت البداية عبر فيلم  "هروب حسان طيرو" (1974)، ثم تلته أعمال أخرى مثل أفلام الشبكة (1976) والفيلم الاجتماعي ليلى والآخرون (1977) و امرأة لابني (1982).

أما خلال سنة 1984،  اقترح عليها المخرج عبد الكريم بهلول دور الأم في فيلم "شاي بالنعناع" وكان عملًا من إنتاج مشترك فرنسي بلجيكي نجحت فيه كثيرًا وكسبت استحسان النقاد. من هنا، انطلق مشوار 27 عملًا بين الأعمال السينمائية والتلفزيونية ذات الإنتاج الأجنبي، حيث شاركت فيهم هذه الفنانة بكل احتراف، وقدمت شخصية المرأة والفنانة الجزائرية بشكلٍ ملفتٍ، كما عملت جاهدة لتقديم صورة جميلة ذات أثر في كل عمل منها، واهم هذه الأعمال كان فيلم الخارجون عن القانون (2010).

يذكر أن آخر عمل سينمائي قدمته الفنانة شافية بوذراع يحمل عنوان "عرفان" لمخرجه سليم حمدي الذي قال في اتصال مع "الترا جزائر" بأنه التقى الفنانة قبل حصوله على تمويل الفيلم الذي يعد أول أعماله، فاحتضنت فكرته وتجاوبت مع قصة العمل جدًا ووافقت على المشاركة.

أكد سليم حمدي أن الراحلة كانت حاضنة لعمله وله شخصيًا بحكم الطابع التاريخي والإنساني والفني، وأن هذه السيدة كانت لا تضيع أيّة فرصة للحديث عن تاريخها الشخصي والعائلي والثوري، والفني، حيث يشهد المخرج هنا على شدة انضباط الراحلة في عملها، واحترافيتها طيلة تصوير العمل.

خروجٌ عن القانون في مهرجان كان

عن دورها في فيلم رشيد بوشارب، قالت شافية بوذراع  أن علاقتها بهذا المخرج قد امتدت لأكثر من خمس وعشرين سنة، حيث قدمت معه سابقًا عملًا تلفزيونيًا بعنوان "شرف العائلة"، رفقة مدير التصوير يوسف صحراوي.

وحينما اقترح رشيد بوشارب دور الأم على الراحلة، أخبرها بأنه سيكون صغيرًا، فردت عليه بأنه لا وجود لدور صغير، إنما هنالك فقط ممثل صغير لا يتقنه. حينما قرأت الراحلة تفاصيل الدور ووجدت بأنه يتناول أحداث الثامن من أيار/ماي 1945، قبلته بلا تردد، لأنها ببساطة عايشت تلك الفترة في عز ّالبرد وهي تزور زوجها في السجن حاملة القفة، حيث حكم عليه بعشرين سنة مع الأشغال الشاقة، فكان مشهد إمساكها لتراب أرضها وقت الترحيل في إحدى مشاهد الفيلم ارتجالًا منها، لإحساسها الوطني العميق وإحياءً لذكرياتها وتأكيدًا لحبها المقدس للوطن.

أثناء عرض الفيلم في مهرجان كان، آثرت الفنانة شافية بوذراع أن تلبس لباسًا عاصميًا بعد تفكير طويل، حيث أكدت في العديد من اللقاءات أنها استبدلت القندورة القسنطينية التي تمثل مسقط رأسها بالكاراكو العاصمي لكي لا يعتبر خيارها جهويًا، واستبدلت "محرمة الشعر " بالخمار تحديًا منها لقرارات منع ارتداء الحجاب في المدارس وأماكن العمل في فرنسا، فكانت أول ممثلة محجبة تمشي على البساط الأحمر لمهرجان كان السينمائي.

نال فيلم "الخارجون عن القانون " ذهبية مهرجان دمشق السينمائي كأحسن عمل أجنبي، إضافة إلى جائزة أحسن عمل عربي أيضًا بما أنه إنتاج مشترك، حيث استلمت الفنانة شافية بوذراع درعي الجائزتين بنفسها، وقالت في كلمتها آنذاك، أنها مثلت اقتباسًا لأعمال محمد ديب، ما جعلها تكسب لقب أم الجزائريين، لهذا شكرت رشيد بوشارب لأنه أعطاها فرصة ثانية لتمثيل الإنسانية من خلال هذا الفيلم.

لا موت لفنانٍ..  ولا لأم!

قبل عدة سنواتٍ ، طالبت الفنانة شافية بوذراع وزير الثقافة السابق عز الدين ميهوبي بأن يساهم بالإفراج عن فيلم يحكي سيرتها الذاتية، وأن يتم عرضه قبل وفاتها، لكن الفيلم بقي حبيس الميكساج في مؤسّسة التلفزيون الجزائري إلى غاية اليوم حسب عدة مصادر.

 كانت "لّا عيني" امرأة عالقة في قدرها المشؤوم، ولم يكن لديها الوقت للبكاء والشكوى، وهو ما خلق في نفسها ذلك الغضب والسخط على كل شيء

بعد كل هذا المشوار، كيف نجرؤ على القول بأن شافية بوذراع توفيت، وهي التي أحيت فينًا الكثير من مشاعر البنوة وحب الأرض وتقديس الفن؟ كيف يمكن وصف هذا الموت وهي التي خلفت بعدها تركة فنية حافلة تحكيها أبدا، وتركت أبناءً لها في كل شبر من الوطن؟ في الواقع، لم تمت السيدة شافية بوذراع، لكننا فقدنا للأسف شاهدة مهمة على ذاكرة شعب تعاني من النسيان والتناسي.