15-ديسمبر-2023
 (الصورة: Getty)عرض سينمائي في ساحة البريد المركزي

(الصورة: Getty)عرض سينمائي في ساحة البريد المركزي

شهدت الساحة الثقافية والفنية في الجزائر على مرّ  السنوات الماضية محاولات عديدة لبعث الحياة في المجال السينمائي، من خلال العديد من الأفكار والمشاريع التي تحقق بعضها، فيما بقي معظمها حبيس الأدراج والأفكار دونما تجسيد فعليّ على أرض الواقع.

الباحث فيصل صحبي: "فيدرالية نوادي السينما الجزائرية" اختفت نظرًا للظروف السياسية والأمنية التي عرفتها الجزائر نهاية الثمانينات وبداية التسعينات

ولعل أكثر المشاريع الواعدة التي دعمها محبو السينما في الجزائر بقوّة وقاوموا كثيرًا لإبقاء نشاطها قائمًا رغم كل المعوقات، كانت نوادي السينما، معتمدين على مجهودات فردية وإمكانيات خاصّة ومحدودة، ابتغاء نشر الثقافة السينمائية بين محبي الفن السابع، واتّقاءً للموت "السّريري" الذي كان قد حل بالقاعات والفضاءات السينمائية المغلقة منذ زمن.

في هذا السياق، نظمت وزارة الثقافة خلال نهاية تشرين الأول/نوفمبر الماضي اليوم الدراسي حول "النوادي السينمائية ودورها في نشر الثقافة السينمائية" جمع بعض ممثلي نوادي السينما في الجزائر بهدف لمّ شملها، كما تم إنشاء الشبكة الوطنية لنوادي السينما وذلك بمرافقة من متحف السينما الجزائرية الذي "افتتح مكتبًا على مستواه للأمانة التقنية للشبكة"، حيث التزمت الوزارة "بدعم ومرافقة الشبكة بداية بتنظيم دورات تكوينية وتأهيلية متخصّصة لمنشطي النوادي بمساهمة المؤسسات المتخصصة تحت الوصاية مطلع سنة 2024".

فهل ستكون هذه الشبكة بداية لانفراج مُنتظر لمشاكل نوادي السينما ونشاطها الحر في تقديم سينما مختلفة وغير استهلاكية؟ وهل سيقضي نشاطها على معضلة شحّ العروض والقاعات المغلقة لبعث نشاط سينمائي جاد؟

تفاصيل اليوم الدراسي

في هذا السياق، يقول الباحث الأكاديمي فيصل صحبي في حديث إلى "الترا جزائر" إن الندوة جاءت استجابةً لإحدى مطالب مُخرَجات الجلسات الوطنية حول الصّناعات السّينماتوغرافية الّتي عُقِدت في الجزائر العاصمة يومي 29 و 30 نيسان/أفريل الماضي، حيث عَبّر العديد من المشاركين الفاعلين في الحقل السينمائي من مخرجين ومنتجين وممثّلين عن آمالهم في إعادة بعث نوادي السينما في الجزائر، إضافة إلى تشجيعها وتثمين دورها في نشر الثّقافة السّينمائية لدى أفراد المجتمع.

يضيف الباحث هنا، أن وزيرة الثقافة صورية مولوجي ارتأت عدم  كفاية تنظيم ندوة علمية أو دراسية حول هذا الوضع، بل وجب توفير مرافقة لهذه المبادرة بشكل عمليّ، بدافع مساعدة النّوادي السينمائية ومواكبة نشاطها عبر مختلف الولايات، لهذا تمّ تنظيم هذا اللقاء لتكوين الشّبكة الوطنية الجزائرية لنوادي السينما، ولن يقتصر الأمر فقط على لم شملٍ يدوم ليوم واحد،  بل ستعمل هذه النّوادي تحت إشراف الوزارة والمركز الجزائري للسينما بغية تقديم برنامج سنوي، وتسطير أحداث مشتركة تساهم فيها هذه النوادي التي تملك دورًا مهما -في اعتقادي-  في نشر الثقافة السينمائية، وإعادة الحلقة المفقودة بين السينما والجمهور.

سنوات التسعينات

من جهته، يعتقد فيصل صحبي، أن هذا المشروع هو الأول من نوعه -عمليًا- منذ حوالي 40 سنة، فقد كان هنالك ما يسمى "فيدرالية نوادي السينما الجزائرية"، لكنها اختفت شيئًا فشيئًا من الوجود نظرًا للظروف السياسية والأمنية التي عرفتها الجزائر نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، كما كانت هنالك محاولات عدة لبعث هذا النوع من "تشبيك" النوادي السينمائية، أهمها المشروع الذي تم اقتراحه خلال اللقاءات السينمائية في بجاية سنة 2016.

هذه المحاولة لم تُكلّل بالنّجاح لأسباب قد يوضحها القائمون على هذه اللقاءات، وبقي هذا المشروع حبيس الأذهان والملفّات، إلى أن جاءت الجلسات الوطنية، وقد قامت وزيرة الثقافة بالنظر في مُخرَجات الجلسات، وعبّرت عن إرادة الوزارة الوصية القوية لمرافقة مشروع "تشبيك" مختلف نوادي السينما الموجودة عبر الوطن، إضافة إلى التّكفل ببعض التكاليف المادية واللوجستية -على الأقل- خلال السنوات الأولى، لمساعدة النّوادي في الوقوف على أقدامها، والمساهمة في نهضة سينمائية جديدة في الجزائر.

 

معادلة العرض والطلب

تمحورت مداخلة الباحث صبحي بشكلٍ خاص حول الجانب البحثي والعلمي، إذ قدم مقاربته لإشكالية نهضة السينما في الجزائر، والتي كانت تعتمد عمومًا ومنذ أكثر من 40 سنة على توفير العرض على حساب الطلب، حيث اعتمدت السياسات السينمائية على إنتاج الأفلام والمساهمة في تمويلها، لكنها لم تهتم كثيرًا بمسألة الجمهور، فقد كان من المفروض -في اعتقاده- توفير ظروف جيدة للعرض لخلق طلب من الجمهور، وبالتالي، تمكين النوادي السينمائية من الاشتغال على هذه المعادلة والمساهمة بشكل فعلي في إلحاقه بالعروض ونشر الثقافة السينمائية بشكل أكبر.

تثقيف الذوق العام من خلال تقديم سينما جيدة، حسب المتحدث، سيدفع المواطن نحو المطالبة الدائمة بفتح المزيد من الفضاءات الخاصة بذلك، وبزيادة الإنتاج السينمائي المحلي وجلب الإنتاج العالمي، أي أن "خلاصة المداخلة الخاصة بي كانت ضرورة قلب معادلة العرض والطلب في السينما، وذلك بتوفير ظروف جيدة للطلب لتحقيق العرض السينمائي المبتغى".

  إنشاء معهد وفتح قاعات

يعتقد الباحث أن هذه الشّبكة هي إحدى الخطوات والمبادرات الجيدة التي ظهرت في المجال السينمائي المحلي، بعد الجلسات الوطنية حول السينما التي انعقدت منذ أشهر قليلة، وقد تلتها مجموعة من المبادرات والمشاريع السينمائية، "أذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر، تجسيد الصبغة القانونية لبعث مشروع المعهد العالي للسينما خلال شهر أيار/ماي الفارط، حيث تم الاشتغال على برامجه وتهيئته منذ أشهر، لتجهيز أول دفعة قد تدخل المعهد.

يعتبر المتحدث، أن هذا المعهد هو الأول من نوعه في الجزائر منذ الاستقلال، كما توجد عدة مبادرات جادة لاسترجاع قاعات السينما المغلقة التي كانت تسيّرها البلديات، بغية إعادة تهيىتها من طرف المصالح العمومية لتكون بعد ذلك تحت إشراف وزارة الثقافة والفنون، ما يسمح بعد ذلك بالمساهمة في تحقيق تلك الرغبة الجادة في إحياء السينما، والبحث عن ذلك الجمهور المفقود منذ زمن، على حد تعبيره.

من خلال فتح هذه القاعات، بحسب صبحي، سيجد الإنتاج السينمائي المحلي قاعاتٍ مفتوحة للعرض، وجمهورًا نوعيًا متعطشًا لحضور العروض ومناقشتها مع صناع الأفلام ومخرجيها وممثليها، في مختلف المدن دون استثناء، متمنيًا أن تساهم هذه السياسات الجديدة في إحياء السينما بكل جمالها في الجزائر، وتظهر نتائج هذه السياسات خلال السنوات المقبلة، "بالحصول على ذلك الجمهور الذي غاب طويلًا، جمهور ذواق يطالب برصيد سينمائي محلي وعالمي نوعي، داخل قاعات محترمة تستجيب لكل شروط العرض الاحترافي، ما يخلق تلك الدورة الجيدة التي تُمَوَّل فيها عروض السينما وإنتاجاتها بمداخيلها الخاصة وبجمهورها، وهو السبيل الوحيد لخلق جو سينمائي جدي ومتجدد".

مشاكل نوادي السينما

 إلى هنا، يؤكد الناشط السينمائي سليم فراحتية من نادي السينما لولاية سطيف، أنه يشهد لأول مرة اهتمامًا جادًا من السلطات بهذه النوادي، كما أشار إلى محاولات كثيرة لجمع هذه النوادي سابقًا لتشكيل شبكة تضم مختلف هذه التجارب عبر مختلف مناطق البلاد، وقد كان أهمها اجتماع هذه النوادي في الطبعة الـ 18 من اللقاءات السينمائية في ولاية بجاية شرق البلاد، بمشاركة تجربة مهمة للفيدرالية التونسية لنوادي السينما، وقد ولدت هناك رغبة كبيرة لتشكيل شبكة جادة تقتات من مختلف التجارب الملموسة لتلك النوادي الواعدة التي تدعم كل الأفكار والمشاريع التي تفيد دعم وتنشيط عروض السينما والنقاشات التي تجمع محبي السينما في الجزائر.

يضيف سليم فراحتية أن أهم ما كان يعيق النوادي السينمائية المحلية كان فترات التوقّف وغياب النشاط في السنوات الأخيرة، بسبب غياب الدعم الكافي، إذ أن مجملها يعتمد على الأشخاص المتطوعين الذين كانوا وما زالوا يبذلون جهودًا كبيرة وبميزانيات تكاد تكون منعدمة، لتنظيم العروض على قلتها وعدم انتظامها، إضافة إلى البرمجة وإدارة النقاشات التي تلي عرض الأعمال السينمائية. وكل هذا يحتاج بالضرورة إلى دعم مادي ومعنوي وتنظيمي أيضًا.

معضلة التأشيرة الثقافية

يؤكد المتحدث أن المشاركة في اللقاء مع ممثلي وزارة الثقافة والفنون والعاملين في هذا المجال قد سمح لهم باستعراض أهم الصعوبات والمشاكل التي تواجه نشاط النادي السينمائي في الجزائر، وكانت أهم هذه المشاكل تكمن في صعوبة الحصول على"التأشيرات الثقافية"، لأن العروض السينمائية في البلاد تتطلب دائمًا موافقة وتأشيرة ثقافية من طرف الوزارة، وقد بقي هذا الأمر مبهمًا لمدة طويلة.

كما أشار فراحتية هنا، إلى أن التطوع في هذه النوادي يتطلب مصاريف كثيرة للتنقل أيضًا، إذ يتعيّن على المتطوعين السفر الدائم نحو العاصمة للحصول على هذا النوع من التأشيرات، وقد أكد فراحتية أن الوزارة رحبت بهذه الانشغالات وقدمت توضيحات مهمة بهذا الخصوص، كما قدمت وعودًا بمعالجة هذا النوع من الصعوبات.

شاشات بديلة لسينما الآخر

يقول ممثل نادي السينما في سطيف هنا، إن النادي السينمائي هو بمثابة شاشة بديلة تمكّن عشّاق السينما من تقاسم تجارب ملهمة من خلال العروض والاحتكاك بصناعة السينما المحلية والدولية، كما تساهم في اكتشاف واستكشاف تجارب إخراجية وتمثيلية ملهمة وجديدة.

وهذا ما نجد في تجربة نادي السينما في سطيف، حيث عرف عروضًا مهمة لسينما مختلفة عن السينما التجارية والمستهلكة، وقد تم التعرف خلال عروض النادي على أهم الأفلام الجزائرية منها أفلام حسان فرحاني، وكانت لهم فرصة عرض فيلم "غزة حبيبتي" قبل بداية العدوان على غزة، وقد حظي النادي بمداخلة فيديو من طرف الممثلة الفلسطينية الكبيرة هيام عباس.

تجربة النوادي في الداخل

أما بخصوص نوادي السينما في داخل الوطن، يقول قسوم عز الدين من النادي السينمائي لولاية أدرار جنوب البلاد، إن فكرة إنشاء نادٍ للسينما في أدرار تمتد إلى سنة 2010، حيث تأسس تحت مسمى "نادي الفن السابع"، وكان الهدف منه بالأساس تعميم فهم اللغة السينمائية في الولاية.

إثر ذلك، يشير المتحدث، إلى استحداث أيام سينمائية وطنية تحت مسمى "توات سينما" سنة 2015، وبعد الطبعة الرابعة أخذ النادي اسم أحمد ولد سعيد سنة 2018، بعد أن تم التوصّل إلى أن هذه الشخصية كانت نواة تشكيل أول نادٍ مختصٍ بأدرار سنة 2001 والتي حفّزت نشطاء النادي لدخول هذا المجال.

أما عن الإقبال، فقد قال قسوم إن جمهور نادي السينما ليس هو نفسه جمهور قاعات السينما، فنوادي السينما تمتلك جمهورًا من نوع خاص؛ جمهور نخبوي مثقف يتفاعل مع أي عمل فنين ولذلك فأدرار تمتلك هذا النوع من الجمهور وكان هذا أحد أهم أسباب الاستمرارية.

بيئة متعطشة للسينما

يرى قسوم عز الدين أن البيئة الصحراوية بيئة مساعدة على التأمّل والتفكّر والإبداع ولم تكن يومًا عائقًا أما أي نشاط سينمائي، كما أن كل من زار المكان من النخبة السينمائية في الجزائر يدرك ذلك جيدًا، إلا أن العائق الوحيد كان تلك النظرة التي تعرقل التوصل إلى الجديد في هذا المجال.

 يؤكد المتحدث أن أغلب صناع السينما قد غيروا من هذه النظرة بعد التأسيس لـ"أيام توات سينما" والتي وصلت إلى طبعتها السادسة.

مشاركة نادي السينما لولاية أدرار كانت مثمرة، حسب المتحدث، أثمر عن تبادل الأفكار و الآراء مع النخبة المشاركة مع وزارة الثقافة، في سبيل إعادة مجد السينما  الجزائرية، والارتقاء بالعمل الذي تقوم به النوادي، كما اعتبر أن المشاركة في تأسيس الشبكة الوطنية لنوادي السينما كانت حدثًا هامًا ونتيجة حتمية لهذا اللقاء.

الناشط سيلم فراحتية: النادي السينمائي هو شاشة بديلة تمكّن عشّاق السينما من تقاسم تجارب ملهمة من خلال العروض والاحتكاك بصناعة السينما المحلية والدولية

يأمل نشطاء نادي السينما في أدرار  بعيدًا عن المركز وعن أماكن اتخاذ القرار، في استمرارية مثل هذه اللقاءات التي تساهم حسب نظرهم في تطوير نشاطهم وتصويبه، ليكون ذا فعالية أكبر، كما ينظرون إلى هذه الشبكة كداعم قوي للنوادي وللسينما في الجزائر، ولو أن الداعم الحقيقي للنشاطات الإبداعية هو جمهورها والفاعلين فيها.