31-يوليو-2023
 (الصورة: Getty) أطفال جزائريون إبان الفترة الاستعمارية

(الصورة: Getty) أطفال جزائريون إبان الفترة الاستعمارية

 

على خطى الطبيب النفساني والمفكر الاجتماعي فرانس فانون، أجرت المحللة النفسانية كريمة لازالي بحثًا نفسانيًا عميقًا حول الأثار الاستعمارية على المجتمع الجزائري نفسيًا وعصبيًا، وارتدادات الاستيطان الكولونيالي على الضمير الفردي والجماعي، في كتاب "le Trauma colonial" من إصدار دار النشر "كوكو".

إضافة إلى العنف الجسدي وعمليات الإبادة الجماعية والقتل الممنهج مارس الاستعمار أيضًا عنفًا ثقافيًا ومعرفيًا

التحقيق الميداني والعيادي يأخذ بعين الاعتبار شهادات ضحايا ويوثّق لحالات من الاضطرابات والاختلالات النفسية والعقلية لضحايا جزائريين إبان الفترة الاستعمارية، استمرت انعكاساتها إلى ما بعد الاستقلال، وانتقلت من معاناة فردية وشخصية لتتوسع إلى ظاهرة جماعية أنتجت ما سمته بـ"الصدمة الاستعمارية"، حيث أفرزت حسبها سلوكًا سياسيًا وسلطويًا وامتد إلى غاية أزمة التسعينيات من القرن الماضي.

الصدمة الاستعمارية

بالعودة إلى  التظاهرات التي وقعت في فرنسا عقب مقتل المراهق  نائل برصاص شرطي، لقيت الحادثة اهتمام الإعلام الجزائري ومتابعة وزارة الخارجية الجزائرية، وتفاعل رواد المواقع التواصل الاجتماعي مع مجريات الأحداث، حيث تعددت القراءات والتحاليل حول أسباب الأزمة المجتمعية التي تعيشها فرنسا.

فما هو سر هذا الانشغال بما يحدث في الجهة الشمالية من الأراضي الفرنسية؟ ولماذا تَحتل الساحة الفرنسية اهتمام ومتابعة جزءٍ من الجزائريين، كلما تعلق بملف المهاجرين والجالية الجزائرية، وملف التأشيرة والتنقل بين البلدين؟ ولما ما تزال الذاكرة التاريخية تُشكل مَرجعية في رسم صورة المُستعمر الأمس، ويَعدُ التاريخ المشترك الفاصل والقاصم في تحديد رؤية الجزائريين لفرنسا.

جزء من الإجابة عن هذه التساؤلات نجدها في تحقيق عن الانعكاسات النفسية والسياسية للجريمة الاستعمارية في الجزائر، الذي اشتغلت عليه المحللة النفسانية كريمة لازالي في كتاب "le Trauma colonial".

كتاب كريمة لازلي

بعد واحد وستين سنة من الاستقلال الجزائر، ما تزال الأحداث المرتبطة بالفترة الاستعمارية مَحفورة في الذاكرة، تتناقلها الحكايات وتسردها الروايات وتعبر عنها القصائد والأشعار، في الجزائر كما في فرنسا.

إن التوحش والعنف الشديد الذي مارسه الاستعمار الفرنسي على الجزائريين والذي دام أكثر من ثلاثة عشر عقدًا، دُوِنَ بصورة آلية في الذاكرة الشعبية في صورة التوحش عند "العنصر البيض"، الذي مارس الإبادة الجماعية وعمل على استئصال قبائل وعشائر ومجتمعات ارتبطت بالدم بأرض الجزائر.

العنف الثقافي

أبعد من العنف الجسدي وعمليات الإبادة الجماعية والقتل الممنهج، فقد مارس الاستعمار أيضًا عنفًا ثقافيًا ومعرفيًا، وحاول طمس هوية مجتمع، ومحو معالم شخصيته وتدمير نمط حياته وتغيير أسلوب معيشته واستبدال ألقابه وانتمائه، علاوة على ذلك أقبل النهج الاستيطاني على تزوير التاريخ واستبداله وإعادة كتابته وتأصيله بحثًا عن شرعية تاريخية ممتدة إلى التواجد الروماني وأتباع الديانة المسيحية من أجل شرعنة تواجد العنصر الأبيض المسيحي في أرض الجزائر.

هذا العمل المنهجي لم تنفذه القوات العسكرية الفرنسية؛ بل اشتغلت عليه التيارات والتوجهات الثقافية والفكرية والأكاديمية الفرنسية، وبناءً عليه فقد قُدمت وأعطت تلك الأوساط الجامعية والفكرية كل التبريرات والذرائع المزيفة لاستخدام القوة المتوحشة والعنف الشديد من أجل تثبيت الاستيطان الفرنسي.

محو الأبوية

لقد حاول الاستعمار عبر أدواته السياسية والأكاديمية والعسكرية القضاء على كل أشكال الانتماء العشائري والقبلي والأسري، وسعى أن يجعل من الجزائريين مجتمعًا دون انتساب بيولوجي "الأب"، وهذ النهج الاستيطاني أبرزته أعمال مثلًا مولود معمري في روايته "الهضبة المنسية"، إذ يُشير إليه في حرق المستعمر الفرنسي أشجار الزيتون بالمناطق السكنية، في رمزية توحي إلى سحق الأصول وإزالة "المكان" الذي يعد مرجعية في الوجود والانتماء.

إلى هنا، اعتمدت الباحثة النفسانية كريمة لازلي  على أعمال كتاب جزائريين على غرار محمد ديب، كاتب ياسين ومولود فرعون ونبيل فارس وإعادة قراءة أعماله وفق السياق التاريخي مع وضع استنتاجات وتحاليل تحدد النسق النفسي والعصبي للفرد الجزائري إبان الفترة الاستعمارية.

الجريمة المسكوت عنها

في هذا السياق، تعد الجريمة الاستعمارية بفرنسا من الطابوهات والمواضيع المسكوت عنها، وكأن من شاركوا وجندوا في القوات الفرنسية بالجزائر تبقى محطة مأساوية لا بد من أن تُمحى من الذاكرة، وعكس مواجهة الماضي الاستعماري، تحاول فرنسا الرسمية الافتخار بالماضي الاستعماري، ما يفتح السجل والنقاش الدائم بين المُستعمِر والمُستعمَر.

"الصدمة الاستعمارية" هي التي رسمت معالم السلوك الثوري وشرعنة استخدام القوة من أجل الحرية

ختامًا، نجد أن الضمير الكولونيالي لا يزال حاضرًا في السياسة الداخلية الفرنسية، و"الصدمة الاستعمارية" ما تزال قائمة في تصور الجزائريين وهي التي رسمت معالم السلوك الثوري وشرعنة استخدام القوة من أجل الحرية، في مقابل ذلك تحفظ الذاكرة الشعبية الجزائرية الكثير من الجرائم والإبادات الجماعية ضد الجزائرية، وهي في نظر القانون الدولي جرائم ضد الإنسانية لا يمكن أن تسقط بالتقادم.