27-فبراير-2023
معمل إنتاج الهيديروجين (تصوير: إينا فاسبندر/أ.ف.ب)

معمل إنتاج الهيديروجين (تصوير: إينا فاسبندر/أ.ف.ب)

يتبين من خلال تصريحات مسؤولي قطاعات كالصناعة والمحروقات والتجارة،  أن الجزائر تسعى إلى إرساء وبعث الصناعات الثقيلة، حيث باشرت الحكومة في تجسيد عدد من المشاريع في المجال، على غرار مشروع غار جبيلات، أو المشاريع التعدينية الكبيرة من الذهب والرصاص والزنك والحديد إلى الفوسفاط والفولاذ، فضلًا عن الاستثمارات في مجال صناعة السفن والصناعة الميكانيكية.

اعتمد الرئيس هواري بومدين في فترة حكمه على استيراد المصانع من الدول الاشتراكية السابقة على غرار يوغسلافيا والاتحاد السوفياتي

ضلت هذه المشاريع لعدة سنوات تحت أدراج الحكومات المتعاقبة، إذ تعد الجزائر غنية بالموارد الطبيعية غير المستغلة، وتهدف السلطات عبر خيار الصناعات الثقيلة إلى تنويع مجال اقتصاداتها المعتمد على المحروقات، والعمل على تنويع مصادر دخل النقد والعملة الأجنبية والتحرر من التبعية إلى الاقتصاد النفطي.

أهمية الصناعة الثقيلة

للصناعات الثقيلة، حسب خبراء، قدرة على دفع عجلة النمو المستدامة، وامتصاص البطالة وتنويع النسيج الصناعي والقاعدي، وتلعب الصناعة الاستراتيجية دورًا فعالًا في الناتج المحلي الخام، علاوة على العمل على صمود واستقرار معادلات النمو، وضمان مداخيل بالعملة الصعبة مهما تصدعت أسعار السوق النفط والغاز.

حاليًا، سجل قطاع الصناعة في الجزائر حاليًا حوالي 4 إلى 5 % من الناتج المحلي الخام، ويقصد بالناتج الوطني الخام القيمة السوقية لجميع السلع والخدمات داخل الدولة، وعلى ضوء ذلك يتضح أن معدل 4 إلى  5 % يبقى ضعيفًا وهشًا، ودون قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، ما يتعين على الحكومة العمل ومضاعفة الجهود من أجل رفع نسبة مساهمة الصناعة عموما والصناعة الثقيلة خصوصًا في الناتج المحلي الخام.

مصطلح الصناعة الثقيلة

ويقصد بالصناعة الثقيلة¨؛ صناعة منتجات تحتاج إلى عمليات معقدة ومتنوعة وأيضًا إلى مصانع كبيرة مثل صناعة الحديد والفحم والصلب والنفط والطائرات والسفن والمعدات الثقيلة وأعمال التعدين، ويشمل المصطلح أيضًا بناء السدود والمنشآت القاعدية الضخمة وصناعة السيارات وقطاع غيار المركبات والآلات والعتاد.

عودة الثورة الصناعية؟

تجدر الإشارة إلى أن الجزائر مطلع الستينيات، توجهت في مجال التصنيع إلى الصناعة الثقيلة، حيث كان خيار الرئيس هواري بومدين التوجه إلى إقامة صناعات ثقيلة وفق النموذج الاشتراكي، حيث أقيمت مصانع الفولاذ والصلب لتكون قاطرة وقاعدة الصناعات الثقيلة كالصناعة الميكانيكية والإلكترونية والكهربائية والتحويلية، وربط التصنيع الثقيل بتطوير صناعة الآلات والمعدات والعتاد.

وأطلق الرئيس هواري بومدين وقتها مشروع الثورة الصناعية، المتمثل في تطوير الصناعات التي تسعى إلى استغلال الموارد الطبيعية، وقد اعتمد الرئيس في تلك الفترة، على استيراد المصانع من الدول الاشتراكية السابقة على غرار يوغسلافيا والاتحاد السوفياتي، وقد رافقت الثورة الصناعية ابتداءً من سنة 1966 الثورة الثقافية والثورة الزراعية.

أسباب الإخفاق

بيد أنه وبحسب خبراء في الشأن الاقتصادي، فإن مشروع الثورة الصناعية كان يفتقد إلى رؤية عميقة وواقعية، وبالتالي فالتخطيط شهد خَللًا وثغرة في مقاربته الاقتصادية والسيو-إجتماعية، حيث أنه بعد الاستقلال لم يكن الاقتصاد الوطني يحمل أي تأهيل لتبني خيار الصناعات المصنعة، فضلًا عن الانعدام التام للموارد البشرية المؤهلة والمدربة على الصناعة الثقيلة، إضافة إلى غياب البنية التحتية وعدم توفر المنشآت القاعدية والهياكل القاعدة.

زيادة على ذلك، فإن إرساء الصناعة الثقيلة جاء وفق مقاربة سياسية وأيديولوجية، اعتمدت على التوزيع الجغرافي والجهوي دون مراعاة الخصوصيات السكانية والتقليدية، فتحولت مدينة ساحلية مثل ولاية عنابة إلى قطب في الصناعة الحديد، رغم الطابع السياحي للمدينة، والمجاورة لمدن اشتهرت بالأراضي الزراعية   على غرار الطارف وقالمة، شأن ذلك ولاية تيزي وزو حيث تم انشاء مصنع للصناعة الإلكترونية في منطقة فلاحية بامتياز، ما تطلب الاستعانة باليد العاملة من ولايات مجاورة خضعت فيه إلى أهدف سياسية وثقافية ولغوية غير اقتصادية.

ورغم تحقيق الصناعات الثقيلة حينذاك لبعض المزايا خصوصًا اجتماعيًا، غير أن التكلفة المالية لتسيير تلك الصناعة كانت جد مٌكلفة وباهظة، ما تطلب من الوزير الأول عبد الحميد براهيمي (1984/1988) إعادة هيكلة المؤسسات الكبرى وتجزئة كبرى الشركات إلى مؤسّسات متوسطة الحجم، إلى غاية الصدمة البترولية سنة 1986 حيث انهارت كبرى المؤسسات الاقتصادية.

وبناء على ذلك يتساءل خبراء، هل تم استوعبنا الدرس؟ وهل نتبنه إلى عدم تكرار أخطاء الماضي المكلفة؟

هل ينجح الرهان حاليًا؟

من جانبه، يتمسّك أنصار القومية الاقتصادية على فكرة العمل على عودة الصناعات الثقيلة العمومية كمحرّك لعجلة التنمية والتخلص من التبعية الاقتصادية، وصمام أمان أمام تذبذبات السوق النفطية، فالمعطيات الحالية بحسب هؤلاء قد تبدّلت، فالبلاد تمتلك جامعات ومعاهد تكوين وتكسب اليد العاملة المتعلمة والمؤهلة، زيادة على توفر بنية تحتية من شبكة طرقات ومحاور تربط بين المدن الشمالية والجنوبية.

في مقابل ذلك، يرى مختصّون في الشأن الاقتصادي أن البنية التحتية لوحدها غير كافية لتحقيق الصناعة الثقيلة، ولا اليد العاملة المؤهّلة قادرة على تمكين من وجود صناعة استراتيجية¨؛ بل يتطلب الأمر رؤية متكاملة متوسطة وبعيدة المدى، أبرزها جلب رؤوس أموال أجنبية وجذب استثمارات خارجية نظرًا إلى التحكم في التقنيات الحديثة والتفوق التكنولوجي وتوفر الرأس المال الخاص.

يطلق على الصناعة الثقيلة بـ"رأس المال المكثف"، وهي الصناعة التي تتطلب موارد رأسمالية ضخمة نظرًا إلى ارتفاع التكلفة المالية للمنشآت والعتاد والآلات، والاعتماد الدائم على التكنولوجيا المستوردة، علاوة على الأضرار البيئية كالتلوث والتصحر وتوسع المدينة على حساب الثروة الغابية والأراضي الزراعية والاستهلاك الهائل للموارد المائية، فعلى سبيل الذكر فإن مصنع الحجار للصلب والحديد بولاية عنابة لوحده يستهلك من الموارد المالية ضعف ما يستهلكه سكان المدينة.

التخطيط لوجود صناعة ثقيلة يندرج ضمن السيادة الاقتصادية

وعلى العموم، فإن التخطيط لوجود صناعة ثقيلة يندرج ضمن السيادة الاقتصادية، لكن من الجدوى الاعتماد على شراكة استراتيجية مع مؤسسات عالمية وتشجيع دخول المتعاملين الخواص، حفاظًا على المكتسبات المالية للدولة، واستهداف القطاعات الاستراتيجية المستقبلية كالقطاع الطاقة المتجددة والاقتصاد المعرفة والقطاع التكنولوجي التي لا تقل أهمية في مقدمة الرهانات والتحديات الاقتصادية.