10-أغسطس-2019

إيغون شلي/ النمسا

تعليقًا على مقال عبد الرزاق بوكبة

لم نعد نملك تصورًا كونيًا للمثقف، أقصد أنّ المثقّف الذي أصبحنا ننهش لحمه لم يعد يحمل قيما إنسانية كونية تُرشّحه ليكون نبي الأزمنة المُعاصرة، المدافع عن قيم " الحق " و "الخير " والمحبّ للنوع البشري. المثقّف هو وليد قضية اجتماعية وسياسية. لكن يا ترى؟ ما هي القضية التي يدافع عنها اليوم؟ هل للمثقّف اليوم قضية يُدافع عنها؟ وهو أصلًا غير مسموح له لأن يحوّل الدفاع عن مكانته في المجتمع إلى قضيته الجوهرية؟

في هذه المُجتمعات، يُحمّل المثقّف كلّ الثقل التاريخي للتخلّف

هنا، الفرق بين أن ينبري المثقّف للدفاع عن القضايا الكونية، وهو شأن الفلاسفة والكبار ورجال الآداب الذين خلفوا إرثا معرفيا وأدبيا عابرا للجغرافيا وللتاريخ، وبين مثقف مازال يخوض في المعارك الصغيرة الخاسرة، التي لا يثيرها هو بقدر ما يُستدرج لها مثلما يتم استدراج الطريدة إلى حتفها الرمزي.

اقرأ/ي أيضًا: في نقد المثقّف الجزائري

 لقد تقزّم حجم المثقّف، وصرنا نجد متعة غريبة في تعريته، كأنه وحده من يتحمّل كوارث الحضارة الإنسانية. وتزداد قتامة صورته إطرادًا كلما اقتربنا من المجتمعات الاستبدادية، التي ترزخ تحت التخلّف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي أيضًا، تلك المجتمعات التي تبني وجودها على الجهل المقدّس، وعلى محاربة كل ما له صلة بالثقافة والمعرفة والجمال.

 في هذه المُجتمعات، يُحمّل المثقّف كلّ الثقل التاريخي للتخلّف، ويُتهم بأنه السبب في ضعف القدرة الشرائية للمواطنين، وأنه السبب في ارتفاع عدد حوادث المرور، وأنّه السبب في انهيار التربة في المناطق الجبلية. لكن في الوقت نفسه، لا أحد يتحدّث عن أن المثقّف هو ضحية هذا التخلّف، وهو الذي يجد نفسه أمام واقع عنيف، مُعقد، ويعاني من عقدة الثقافة، ويعتبرها زائدة عن الحاجة.

 في غمرة حفلات التشويه والسخرية لا أحد يلقي بالسؤال الأساسي إلى المركز: من يصنع الأقدار المأساوية في هذه الأوطان المستباحة؟ المثقّف أم السياسي؟ المثقّف أم رجل الدين؟ المثقّف أم رجل الأعمال؟ لم نمنح للمثقّف ما يستحقه حتى يُخرج ما لديه؛ لأنه شئنا أم أبينا، المثقّف هو صانع القيم، ولأننا ننتمي إلى مجتمعات تضع الحصان وراء العربة، فلا تستغربوا أن يتواجد السياسي الأمي على رأس الدولة يقود المجتمع نحو المجهول.

 صحيح أنّ المثقّف اليوم قد جُرّد من أسلحته، الفكرة/ الجدل/ القلم/ الكتاب/ اللغة/ الندوة/ الحوار/ ... ووضع تحت مراقبة مشددة من طرف الجميع، يؤولون كل حركاته المتشنجة، ليقيموا حكمهم عليه. في مجتمع تهيّجه مؤخّرة مغنية ولا تهيجه فكرة تنويرية، ماذا تنتظر منه؟ أن يسهر مع مثقف إلى منتصف الليل وهو يجادله في أفكاره ونظرياته ومواقفه؟

هناك أشياء كثيرة أصبحت أكثر أهميّة من مناقشة الأفكار والنظريات، بل ومناقشة الواقع نفسه، وفي غياب هذه الشروط، لن يجد المثقّف أمامه إلا الصمت أو الانصهار في الواقع المأزوم مسايرًا لحركته، غير مبال بمبادئه، فحتى الجائع قد يقتل لأجل إطعام أبنائه، هل نلومه وحده؟

يجب أن نتفق حول تفصيل جوهري، فعندما نتحدث عن المثقّف يجب أن نعرف أولًا ما هو المثقّف، قبل أن نمرّ إلى سؤال من هو المثقّف. كيف للجميع يشحذون سيوف ألسنتهم ضدّ المثقّف وهم أصلًا يجهلون ما الذي يكونه المثقّف؟

الواقع اليوم في الجزائر شبه خال من المثقّفين، فالذين يتحرّكون في السطح، ويتراقصون تحت أضواء النهار هؤلاء لا يمكن أن يكونوا نماذجًا حقيقية للمثقّف، لأن هذا الأخير لابد أن يكون منتجًا للقيمة وللفكرة، وفوق ذلك يكون شجاعًا في مواجهة الجميع بالحقيقة، ليس في وجه السلطة فحسب، بل حتى في وجه الشعب أيضًا.

ثم لا ننسى أن مفهوم المثقّف نفسه يتحوّل مع تحوّل العصر، فالثقافة كما كتب زكي نجيب محمود ليست هي كالعنصر من عناصر الكيمياء، يظل ذا صفة تميّزه فلا يتغيّر مع الزمن ولا يتبدّل. ثم يضيف نجيب محمود قائلًا: فما كان شرطًا ضروريًا للمثقّف في مرحلة معينة، لم يعد كذلك في مراحل أخرى جاءت بعد ذلك.

وأنا أكتب هذا المقال، تذكّرتُ شخصية عبد الرحمان في رواية "بابا سارتر" للروائي العراقي علي بدر؛ قدمت الرواية بأسلوب لاذع ما يشبه صورة ساخرة عن المثقّف العربي في ستينيات القرن العشرين؛ فعبد الرحمان، والذي أطلق عليه لقب سارتر العرب، عاش حياته متمثلا شخصية جان بول سارتر، دون أن يقتصر تقمصه صعيدالأفكارفحسب، بل بلغ به الأمر إلى البحث عن تشابهات فيزيولوجية تجعله شبيها بفيلسوف الوجودية.

 لا أريد أن أقدّم ملخصًا للرواية، لأنّ هذا ليس موضوعنا، لكن ما قدمه علي بدر في هذه الرواية الممتعة، أنّ معضلة المثقّف العربي هو الشرخ الكبير الذي يفصله عن مجتمعه، حيث أنّ هذا الأخير هو من طبيعة مختلفة لما يتمثله من أفكار وقناعات فكرية أو فلسفية أو أدبية؛ فهذا التصادم بين أوهام المثقّف وواقعه هو ما سيولد لدى القارئ رغبة جامحة للضحك  من هذه الشخصية ( أكيد الضحك من سخافة هذا الفيلسوف ) فقد بنى لنا علي بدر صورة معاصرة عن دون كيشوت عربي غرّبته الكتب عن واقعه، فانقلب الواقع عليه ساخرا. لكن ثمة تفصيل آخر في الرواية، والذي ربما لا يكن له القارئ اهتماما، وهو أنّ سيرة هذا المثقّف هي سيرة مصطنعة، لأنّ عبد الرحمان في الأخير كان شخصية مغمورة في حي الصدرية، شأنه شأن أغلب المثقّفين، فجاء السارد لكي يبعثها من المقبرة، ويصنع بها شخصية حية، لكنها عامرة بالتناقضات. أليس المثقّف في الأخير رهين تصوّراتنا عنه؟

 لقد تقزّم حجم المثقّف، وصرنا نجد متعة غريبة في تعريته، كأنه وحده من يتحمّل كوارث الحضارة الإنسانية

المثقّف كما نراه دائمًا أنّه شخصية فصامية، يعاني من شرخ داخلي بين عالم الأفكار واللغة، وعالم الواقع والتاريخ؛ ولا يستطيع أن يواكب واقعه. هذا هو الشائع. لكن نادرًا ما نقول أنّ الواقع نادرًا ما يساير أفكار المثقّف. وهذه هي المعضلة الكبيرة.

اقرأ/ي أيضًا: المعركة هي أيضًا معركة أفكار

لم نعد نملك تصورًا كونيًا للمثقف، أقصد أنّ المثقّف الذي أصبحنا ننهش لحمه لم يعد يحمل قيما إنسانية كونية تُرشّحه ليكون نبي الأزمنة المُعاصرة، المدافع عن قيم  "الحق" و"الخير " والمحبّ للنوع البشري. المثقّف هو وليد قضية اجتماعية وسياسية. لكن يا ترى؟ ما هي القضية التي يدافع عنها اليوم؟ هل للمثقّف اليوم قضية يُدافع عنها؟ وهو أصلًا غير مسموح له لأن يحوّل الدفاع عن مكانته في المجتمع إلى قضيته الجوهرية؟

هنا، الفرق بين أن ينبري المثقّف للدفاع عن القضايا الكونية، وهو شأن الفلاسفة والكبار ورجال الآداب الذين خلفوا إرثا معرفيا وأدبيا عابرا للجغرافيا وللتاريخ، وبين مثقف مازال يخوض في المعارك الصغيرة الخاسرة، التي لا يثيرها هو بقدر ما يُستدرج لها مثلما يتم استدراج الطريدة إلى حتفها الرمزي.

 لقد تقزّم حجم المثقّف، وصرنا نجد متعة غريبة في تعريته، كأنه وحده من يتحمّل كوارث الحضارة الإنسانية. وتزداد قتامة صورته إطرادًا كلما اقتربنا من المجتمعات الاستبدادية، التي ترزخ تحت التخلّف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي أيضًا، تلك المجتمعات التي تبني وجودها على الجهل المقدّس، وعلى محاربة كل ما له صلة بالثقافة والمعرفة والجمال.

 في هذه المُجتمعات، يُحمّل المثقّف كلّ الثقل التاريخي للتخلف، ويُتهم بأنه السبب في ضعف القدرة الشرائية للمواطنين، وأنه السبب في ارتفاع عدد حوادث المرور، وأنّه السبب في انهيار التربة في المناطق الجبلية. لكن في الوقت نفسه، لا أحد يتحدّث عن أن المثقّف هو ضحية هذا التخلّف، وهو الذي يجد نفسه أمام واقع عنيف، مُعقد، ويعاني من عقدة الثقافة، ويعتبرها زائدة عن الحاجة.

 في غمرة حفلات التشويه والسخرية لا أحد يلقي بالسؤال الأساسي إلى المركز: من يصنع الأقدار المأساوية في هذه الأوطان المستباحة؟ المثقّف أم السياسي؟ المثقّف أم رجل الدين؟ المثقّف أم رجل الأعمال؟ لم نمنح للمثقّف ما يستحقه حتى يُخرج ما لديه؛ لأنه شئنا أم أبينا، المثقّف هو صانع القيم، ولأننا ننتمي إلى مجتمعات تضع الحصان وراء العربة، فلا تستغربوا أن يتواجد السياسي الأمي على رأس الدولة يقود المجتمع نحو المجهول.

 صحيح أنّ المثقّف اليوم قد جُرّد من أسلحته، الفكرة/ الجدل/ القلم/ الكتاب/ اللغة/ الندوة/ الحوار/ ... ووضع تحت مراقبة مشددة من طرف الجميع، يؤولون كل حركاته المتشنجة، ليقيموا حكمهم عليه. في مجتمع تهيّجه مؤخّرة مغنية ولا تهيجه فكرة تنويرية، ماذا تنتظر منه؟ أن يسهر مع مثقف إلى منتصف الليل وهو يجادله في أفكاره ونظرياته ومواقفه؟

هناك أشياء كثيرة أصبحت أكثر أهميّة من مناقشة الأفكار والنظريات، بل ومناقشة الواقع نفسه، وفي غياب هذه الشروط، لن يجد المثقّف أمامه إلا الصمت أو الانصهار في الواقع المأزوم مسايرًا لحركته، غير مبال بمبادئه، فحتى الجائع قد يقتل لأجل إطعام أبنائه، هل نلومه وحده؟

يجب أن نتّفق حول تفصيل جوهري، فعندما نتحدث عن المثقّف يجب أن نعرف أولًا ما هو المثقّف، قبل أن نمرّ إلى سؤال من هو المثقّف. كيف للجميع يشحذون سيوف ألسنتهم ضدّ المثقّف وهم أصلًا يجهلون ما الذي يكونه المثقّف؟

الواقع اليوم في الجزائر شبه خال من المثقّفين، فالذين يتحرّكون في السطح، ويتراقصون تحت أضواء النهار هؤلاء لا يمكن أن يكونوا نماذجًا حقيقية للمثقّف، لأن هذا الأخير لابد أن يكون منتجًا للقيمة وللفكرة، وفوق ذلك يكون شجاعًا في مواجهة الجميع بالحقيقة، ليس في وجه السلطة فحسب، بل حتى في وجه الشعب أيضًا.

ثم لا ننسى أن مفهوم المثقّف نفسه يتحوّل مع تحوّل العصر، فالثقافة كما كتب زكي نجيب محمود ليست هي كالعنصر من عناصر الكيمياء، يظل ذا صفة تميّزه فلا يتغيّر مع الزمن ولا يتبدّل. ثم يضيف نجيب محمود قائلًا: فما كان شرطًا ضروريًا للمثقّف في مرحلة معينة، لم يعد كذلك في مراحل أخرى جاءت بعد ذلك.

وأنا أكتب هذا المقال، تذكّرتُ شخصية عبد الرحمان في رواية "بابا سارتر" للروائي العراقي علي بدر؛ قدمت الرواية بأسلوب لاذع ما يشبه صورة ساخرة عن المثقّف العربي في ستينيات القرن العشرين؛ فعبد الرحمان، والذي أطلق عليه لقب سارتر العرب، عاش حياته متمثلا شخصية جان بول سارتر، دون أن يقتصر تقمصه صعيدالأفكارفحسب، بل بلغ به الأمر إلى البحث عن تشابهات فيزيولوجية تجعله شبيها بفيلسوف الوجودية.

 لا أريد أن أقدّم ملخصًا للرواية، لأنّ هذا ليس موضوعنا، لكن ما قدمه علي بدر في هذه الرواية الممتعة، أنّ معضلة المثقّف العربي هو الشرخ الكبير الذي يفصله عن مجتمعه، حيث أنّ هذا الأخير هو من طبيعة مختلفة لما يتمثله من أفكار وقناعات فكرية أو فلسفية أو أدبية؛ فهذا التصادم بين أوهام المثقّف وواقعه هو ما سيولد لدى القارئ رغبة جامحة للضحك  من هذه الشخصية ( أكيد الضحك من سخافة هذا الفيلسوف ) فقد بنى لنا علي بدر صورة معاصرة عن دون كيشوت عربي غرّبته الكتب عن واقعه، فانقلب الواقع عليه ساخرا. لكن ثمّة تفصيل آخر في الرواية، والذي ربما لا يكن له القارئ اهتمامًا، وهو أنّ سيرة هذا المثقّف هي سيرة مصطنعة، لأنّ عبد الرحمان في الأخير كان شخصية مغمورة في حي الصدرية، شأنه شأن أغلب المثقّفين، فجاء السارد لكي يبعثها من المقبرة، ويصنع بها شخصية حيّة، لكنها عامرة بالتناقضات. أليس المثقّف في الأخير رهين تصوّراتنا عنه؟

المثقّف شخصية فصامية، يعاني من شرخ داخلي بين عالم الأفكار واللغة

المثقّف كما نراه دائمًا أنّه شخصية فصامية، يعاني من شرخ داخلي بين عالم الأفكار واللغة، وعالم الواقع والتاريخ؛ ولا يستطيع أن يواكب واقعه. هذا هو الشائع. لكن نادرًا ما نقول أنّ الواقع نادرًا ما يساير أفكار المثقّف. وهذه هي المعضلة الكبيرة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

خاطرتان عن الحراك و"الكان"

زرادشت والحَراك