14-مارس-2024
 (الصورة: Getty)

شورية جزائرية (فيسبوك/الترا جزائر)

في السابق كانت "اللمة" تعني التجمع العائلي على مائدة الأكل في الغداء أو العشاء، ولكن يقصد بها أيضًا اجتماع الأسرة حول صحن واحد، ويتخذ الأخير أسماءً مختلفة ومتعددة، فمنها: "المترد" أو المثرد و"القِصْعَة" أو الجفْنَة

قال نور الدين عليوة الذي بلغ العقد السابع في حديث إلى "الترا جزائر" إن المناسبات في بلادنا وضعت نظامًا غذائيًا يشجع على الأنانية

كلمات متداولة في لسان المجتمع الجزائر، إن عدنا إلى فنّ الأكل الجزائري، كما أن كثيرين يستعملون في اللهجة العامبة جملة: "ناكْلُو جْمَاعة" أو " نَاكْلُو في رَحْبَة" أي نأكل الطعام في صحن واحد.

" اللمّة بركة"

تعدّدت الصّحون في زماننا هذا، وغابت تلك اللمّة العائلية، رغم تجمع الأجساد في البيت الواحد، وكانت عدد الملاعق تعدّ الواحدة تلو الأخرى بل لكل فرد ملعقة، ولكن تناول الأكل يتم في صحن واحد عكس ما هو سائد اليوم.

في الثقافة الاجتماعية السائدة لدى البعض فإن الإناء الواحد الذي يتم فيه تقديم الطعام، يعتبر "علامة لتجميع أفراد العائلة، وتُطرح معه البركة"، كما تقول عائشة زيتوني لـ "الترا جزائر" معبّرة عن إيمانها الشديد بمقولة "ذهبت البركة وفضائل الرزق مع الصحون المتعددة في الطاولة الواحدة، فحضر الأولاد وغاب معهم معنى الجماعة أو بالأحرى المجموعة".

تعودت السيدة زيتوني في بيتها اليوم ومع أولادها على هذا النهج الذي ورثته من بيت عائلتها، وتضيف إن تعدّد الصحون في مائدة الطعام، "لا يعني البتة عدم حلول البركة فقط وزكاة الأكل"، بل في اعتقادها الواضح أيضًا أن "طغيان الفردانية لدى جيل الشباب اليوم هو نابع من تلك التفاصيل التي تعلمناها من أجدادنا ونحسبها بسيطة، إلا أن مغزاها كبير، مضيفة "الأنانية ازدادت من خلال طريقة الأكل في البيت".

وأشارت إلى حرص العائلات في السابق على المشاركة بدءًا من الأكل جماعة إلى التفكير في قِسمة الآخر في تناول الطعام نصيبه من الأكل، أو ما يطلق عليه عادة في عدة مناطق في الجزائر بـ" سهم" وتقول الأم عادة لأولادها "أترك سهم أخوك من اللحم أو الدجاج"، أي نصيبه من الطعام إن لم يتناول بعد حقه أو حتى إن لم يكن حاضرًا في البيت، أو تقديم جزء من الأكل للجيران خاصة يوم الجمعة، أو تقديم جزء منه أيضا لعابر سبيل.

خاص أم شراكة؟

وبما أن الصحن الواحد أثناء تناول الطعام هو في الحقيقة "عادة اجتماعية" يتعوّد عليها الأبناء بداية من طريقة تناول الطعام والالتزام بالأكل من أمام الشخص نفسه، مع الانتباه إلى عدم المسّ بحقوق جميع أفراد الأسرة في نصيبهم من الأكل، فإنه في الأخير لحظة "سياحة" في ثقافة الجزائريين.

ومع انتشار الاستهلاك الواسع، تحولت الصحون المصنوعة بالفخّار والحطب والنّحاس إلى صحون الزجاج ومختلف أنواع الصحون التي أبدعت أنامل الفنانين في تشكيلها وتصنيعها وتوريدها ورواجها في الأسواق عبر القارات.  

للصحون فنون

يعتبر الأكل أو الطعام ثقافة وسياحة في الآن ذاته، بل وتسمى غالبًا بـ "ثقافة التذوق" أو "سياحة الطّهي" وهي التي تشعّ بتفاصيل عميقة، أسهمت في تطور المجتمع الجزائري، وتغيراته الحاصلة فيه في فترات تشكله الطويلة: من التقليدي إلى الحديث والعصري ومن المجتمع القروي الريفي إلى مجتمع المدينة، غير أن الأمر اللافت أن هذه التحولات لم تستقرّ على حال، بل هي زئبقية متحركة، تعيش الذهاب والإياب بين النقيضين وبين التلاحم أحيانا في المكان الواحد بين عادات تقليدية وعصرنة حديثة، وبين التنافر أحيانًا.

وبما أنّ تناول الطعام في صحن واحد وبعدّة ملاعق، يكشف عن صيغة الجمع أو "اللمة" التي تصنع الذكريات في الجزائر، وخصوصًا في المناسبات كشهر رمضان والأعياد والاحتفالات العائلية، ففي بعض المناطق بات الأكل أو نوع الطعام هو من يحدّد نوع الصحن، فطبق " الكسكسي" و" الشخشوخة" و" التريدة" و "البركوكس" و" العصيدة" و" الجاري بالفول" وغيرها من الأطباق التقليدية، غالبًا ما يتم تناولها جماعة وفي وعاء واحد، عادة ما يطلق عليه" الْجِفْنَة" أو " القَصْعَة" أو " المِتْرَدْ" في حين يفضل زذكثيرون "التهامه فُرادى" ما ينزع عنه تلك النّكهة التقليدية لأطباق تحتفي بكونها صنعت من مكونات طبيعية، تعطي لأصناف الأكل الطعم الطيب والنكهة اللذيذة.

ورغم كل ذلك، إلا أن الأطباق العصرية والصحون الفردية التي تباع وتشترى في كل مكان وبمختلف الأنواع والألوان والأحجام، لم تتمكّن من زحزحة أكلات الأجداد من موائد الجزائريين خاصة في أيام الخميس والجمعة وفي المناسبات والأفراح.

منافسة شرِسة

كثيرًا ما تتلاحم الملاعق حول الأطعمة التقليدية، إلا أنه في العديد من المناسبات يجد الأشخاص فرصة للتفرّد بصحن من بعض الأطعمة، وخصوصا في الأعراس التي تُذكي " نار التفرقة" بين الضيوف والزوار.

وفي هذا الأمر يشير نور الدين عليوة الذي بلغ العقد السابع بأن المناسبات بمختلف أسبابها، وضعت نظامًا غذائيًا يشجع على الأنانية، ورفع " الأنا" عن الـ" نحن".

وقال السيد عليوة لـ "الترا جزائر، إن هذه العادات المستحدثة اختفت بعض تلك العادات والتقاليد من موائد الجزائريين في لحظات عابرة، كما "منع جشع البطون بركة المجموعة".

في المقابل، تثير أكشاك الطعام والأكل السريع في الجزائر الكثير من الفتن، وباتت تضع العائلات في حرج، فصورة تناول وجبة غذاء لعائلة واحدة في الطريق السريع، قوامها أكلات فردية المذاق، يقضي على "ميراث العائلة والأجداد"، إذ يغيب تنوّع المطبخ الجزائري وأطباق الأكلات الجزائرية التي ذاع صيتها وتشتهر بها، وتُختزل في رحلة على شرف "ساندويش" بسيط المكوّنات.

الماضي يعود دومًا

بالعودة لتاريخ الطبخ الجزائري، تأثر المذاق نفسه، بمختلف الحضارات والثقافات التي مرّت على الأرض الجزائرية، إذ تكشف الباحثة في الأنثروبولوجيا فوزية بن عدة، على أن تحضير الأكلات الجزائرية كثيرًا ما كانت تعتمد على الطبخ البطيء لمكونات الطعام، وطهي اللحوم والخضراوات والحبوب على البخار، مع وصفات متعددة النكهة.

وأضافت الأستاذة بن عدة لـ "الترا جزائر" بقولها إن "الأكل السريع لا يقتصر فقط في المحلات المنتشرة هنا وهناك، بل حتى في طرق الطهي والأكل في البيوت اليوم، فلكل شخص صحنه، ويأكله وحيدًا وبسرعة.

وتبعا لذلك، أثّرت البيئة الاجتماعية على طبيعة الأطباق الجزائرية وطريقة الأكل، فتسارع الحياة اليومية، جعلت من الأطباق التقليدية تؤكل على عجل وفي فضاءات ضيقة ودون مراعاة للمناسبات، بل تم ابتذال توقيتها ظروفها أيضًا.

ومن أسباب هذا الأمر، تتطلب هذه الأكلات تحديدًا، مساحة زمنية طويلة وأدوات واحدة وقد تتقاسمها أيضًا.

أدت المهنة والظروف المحيطة بالعمل، إلى اللجوء إلى تناول الأكلات السريعة التي بدورها جزأت الأسر، وفرقتهم لضرورتها الملحة

وفي مقابل ذلك، أدت المهنة والظروف المحيطة بالعمل، إلى اللجوء إلى تناول الأكلات السريعة التي بدورها جزأت الأسر، وفرقتهم لضرورتها الملحة، فضلًا عن كونها تلبي الاختيارات الشخصية لطلب طعام يُؤكل على عجل، ما يجعل من فكرة التقليد الثقافي الطاغية في يوميات الجزائريين، بأنه همّش حميمية تناول الطعام جماعة، إلا في شهر رمضان، ولكن بالرغم من الشهر الفضيل، باتت الصحون المتعددة تفرق أيضًا في مذاق الأكلة الواحدة.