08-سبتمبر-2022
شباب في مواجهة شرطة مكافحة الشعب (تصوير: رياض قرامدي/أ.ف.ب)

شباب في مواجهة شرطة مكافحة الشعب (تصوير: رياض قرامدي/أ.ف.ب)

في الجزائر، وبالتّحديد في حي سيدي بويحي بقلب ولاية ميلة شرق الجزائر، تدخل أحد الشباب في فكّ نزاع بين شابين تشاجرا، فتسبب ذلك في جرح بليغ لذلك الشاب الذي قبع ثلاثة أشهر في المستشفى بالولاية، لينقل إلى المستشفى الجامعي بقسنطينة، إذ لم تنته الحادثة هنا، بل صارت عائلته تعيش رعبًا حقيقيًا بسبب مجموعة من الشباب بالحيّ تشكل عصابة وتهدد سكانه، ففضّ النزاع والشجار لم يأت له سوى بـ" واعلاه تدخّل في روحك"، أي " ما شأنك أنت بمن تشاجر؟".

يتساءل كثيرون عن سبب غياب سلطة الحي  أو ما يصفونه باستقالة المجموعة وتنامي الفردانية في المجتمع الجزائري

يتحدّث كثيرون هذه الأيام في الجزائر عن "ثقافة تخطي راسي"، وذلك تزامنًا مع الجرائم التي كانت عديد الأحياء مسرحًا لها، فضلًا عن الشّجارات اليومية، إذ تسببت أغلبها في سقوط قتلى وجرحى بسبب استخدام العنف والأسلحة البيضاء بين مجموعات من الشباب.

من تدخل فيما لا يعنيه..

استبعد البعض عن التدخل مجددًا في شؤون ما يطلق عليه "عصابات الأحياء"، وذلك من خلال تجارب سابقة،كانت نهايتها سيئة عليهم، كما ذكر وليد بوماطة، وهو شاب تجاوز سنّ الـ55 يقطن حاليًا حيّ صالومبي بالعاصمة الجزائرية، مشيرًا في حديث لـ" الترا جزائر" أنه كثيرًا ما تدخل في فضّ شجارات أو إيقاف تعنت شباب الحي الذي يقطنه لكنه في النهاية كان الخاسر الأكبر، مفضلًا استخدام عبارة ألفها الجزائريون "تخطي راسي".

"من تدخَّل فيما لا يعنيه يلاقي ما لا يرضيه"، عبارة كثيرًا ما كانت صائبة في واقع الشارع الجزائري، فعكس السابق أينما كان الشباب، يذعِنون لمن يكبرونهم سنًا ويستمعون لأوامرهم، ويحترمون من يسدي لهم بنصيحة ويأمرهم بالتوقّف عن إيذاء الجيران، بل كان الجار أكبر من أن يحترم فقط، بل يفوق احترامه احترام الأب والأخ الأكبر، بينما باتت اليوم هذه الموازين مقلوبة أو بالأحرى، توصف بأنها "تدخُّل في شؤون الغير"، على حدّ تعبير السيد بوماطة، لافتًا إلى أنّ المعايير اختلفت وباتت الفردانية هي الطاغية، بسبب تفشي الـ "الثّأر بين أفراد مجموعات شبانية أو انتقال الحقد فيما بينهم" أو مخاوف من البعض من أن تدور عليهم دوائر تلك العصابات وتنتهِك حرماتهم وبيوتهم والتعدي على أبناءهم.

استقالة وغياب الكبار

يطرح البعض غياب سلطة كبار الحيّ، أو ما يصفونه بـ"استقالة المجموعة"، مع ارتفاع منسوب الفردية والفردانية والذاتية، فالجميع منهمك في نفسه، إذ يشجع التواصل الاجتماعي الابتعاد أكثر فأكثر عن سمات المجموعة القريبة، وحتى في الأسرة الواحدة، إذ يغيب بعض العائلات تدخّل الأخ الأكبر لفضّ نزاع صغير وتقهقر سلطته.

ما يؤكّد هذا القول، وجود شجارات يومية بين الأخوة وتتحوّل إلى قاتل ومقتول أو هارب وسجين، أو قطيعة طويلة الأمد بينهما، في إعادة صياغة جديدة لمجتمع تذوب فيه العلاقات الأسرية وتنصهر العلاقات الاجتماعية في البيئة المحيطة لفائدة " التواصل عن بُعد" أو "بروز جيل الفيسبوك والتيك توك وانحسار جيل العلاقات الشخصية والمجموعة على حساب الفرد".

هذه السّلطة التي يتحدث عنها كثيرون في مقارنة بين الأمس واليوم أو بين "البارحة واليوم" يقول حميد صيّاح وهو مهندس متقاعد لـ"الترا جزائر" أنه مازال لحدّ اللحظة يتذكر كيف تلقّى صفعة من جاره الفقيد الحاج معمّر، بسبب أنه شتم أحد جيرانه، فما بالك أن يدخل في عراك بالأيدي أو يخوض شجارًا عنيفًا بأسلحة بيضاء كالخناجر أو العصيّ ".. يبتسم قائلًا: "كان ذلك قبل سبعة عقود من الزمن، لكنّها مازالت تحرق وجهه".

اليوم بات قيمة الكبير منخفضة في سوق مفتوحة على كلّ احتمالات العنف، حتى بين أقرانه من زملاء الجيرة أو في المقهى المحاذي للبيت، وصار الكبير لا يتدخل في شؤون "المْصاغر" أي شؤون الشباب الذين لا يتعدّى سنهم العشرين سنة، ويُعتبرون علامة خاصة في الحيّ بألبستهم التي تضاهي الموضة وأغانيهم وطرق تعاملهم فيما بينهم وفيما بين أفراد الحي"، لكنهم صنعوا لأنفسهم هالة كبرى، ما جعل البعض يتخوّف من أن يحشر أنفه في ملاسانتهم  وشجاراتهم مخافة أن يتعرّض للأذى.

تغيّر الجيل

يقول العمّ عبد الغني (69 سنة) كانت في الشوارع والأحياء سلوكات إيجابية، تخلّى عنها جيل اليوم، فأن تدخن سيجارة أمام الملأ في سن الـ15 فهذا بالنّسبة لنا عار وحتى اللحظة مازال يخجل من أن يراه شقيقه الأكبر يحمل بين يديه سيجارة، بينما اليوم فالمراهقون يصولون ويجولون بسجائر وربما "تحوز على القنب الهندي أو المخدرات" غير آبيهن للمجتمع وبيئتهم المحيطة.

واعتبر محدث " الترا جزائر" أن "الكلام الفاحش أو البذيء عار كبير بيننا، غير أنه اليوم صار شائعًا بكثرة، ولا أحد يتقدّم للنّهي أو التهدئة إن وقع شجار بين اثنين، وهي ظواهر غريبة لا تمت بصلة للمجتمع الجزائري الذي بات مخيفًا للأجيال القادمة".

توجّس البعض وخوفهم من انتقال العدوى أو "فيروس" الشّجار الدائم الذي يُفضي في بعض الأحيان إلى ما لا يُحمد عُقباه له ما يبرِّره، إذ صار الكثير من الشّباب يعيدون تجسيد علاقات افتِراضية وعنف كبير يُشاهدونه في وسائط التواصل الاجتماعي وكلّه متاح بسهولة في المسلسلات والأفلام، وهي غير مراقبة بحكم "حرية الفضاءات الافتراضية".

من هذه البوابة، تتحدّث أستاذ الاتّصال بجامعة البليدة، وسط الجزائر نورة بوعتّروة لـ "الترا جزائر" أن تأثير السوشيال ميديا على تحول المجتمع من بيئة مُغلقة محافظة على بعض القيم الاجتماعية الحسنة، إلى بيئة متعدّدة القيم، بل " تشتّت قيمها بين من ينشغِل بأموره الشّخصية دون اهتمام بما يحلّ حتّى بجاره القريب منه".

وفي إشارة منها إلى أن البعض يرفُض أن "يتدخّل الجار في ابنه إذا نهاه، بل تتحوّل إلى أزمة بين الآباء، ومنها بين أفراد العائلتين، وهذا ما فسح – حسب رأيها -المجال للأبناء للتّطاول وعدم تقدير كبار الحيّ".

فضاءات السّكن الجديدة

كثيرون يتحسَّرون على الماضي والحاضر، ويتخوَّفون من توقُّعات سيّئة حول ما هو آت، أو ما سيحصل في المستقبل بسبب هذه السّلوكات وتزايد العنف، إذ يراه البعض أمر مشروع خصوصًا في التّغيير الجذري للسّكن والعمران والأحياء السّكنية الجديدة التي باتت تستيقظ وتنام على شجارات عنيفة خاصة في المدن الكبرى.

هواجس كبيرة وكثيرة يتحدث عنها المختصون في علم الاجتماع وحتى المربّون في المدارس، غير أن هناك عوامل فرضتها التحولات التي يشهدها المجتمع الجزائري، والظروف البيئية التي تعيشها الأسرة وظروفها الاجتماعية والاقتصادية.

في السابق كان الجار يتبادل مع جاره أكله، ويفرح لفرحه ويحزن لأحزانه ويتقاسم معه الأعراس والمناسبات، بينما اليوم صارت الأمور تحكُمها عُزلة كبيرة تهدها بعض العائلات في الحيّ الواحد، بحكم اللّهث اليومي لأجل لقمة العيش وتوفير حاجيات الأسرة، ففي المساء يدخل الناس إلى بيوتهم غير مبالين بما يجري حولهم.

والملفت للنظر أن بعض الجيران لا يعرف بعضهم البعض خاصّة في الأحياء السكنية الجديدة"، فمن سيدخل لفضّ نزاع بين شباب بسبب سيجارة أو بسبب مكالمة هاتفية أو بيع هاتف جوّال ليصبح طرفًا في العراك؟

الأدلّة.. ولكن

قانونيًا، لا يتحمّل القضاء ضلوع شخص في مشاجرة إن لم يكن طرفا فيها، إذ تحدّث الحقوقي فريد ربيقة إلى أن القانون لا يحمي أي شخص بمجرد أنه كان متدخّلًا فقط لفكّ شجار إن أصابه مكروه، أو كان في واقعة سيئة كمقتل شخص، بل هو الأمر الذي جعل البعض لا يتدخّلون كثيرًا في مشادّات يكون أطرافها شباب تعوّدوا على العراك بالعصي أو من سجناء سابقين، موضِّحًا لـ" الترا جزائر" أن كثيرين تحوّلوا إلى متهمين في قضايا ليسوا أطرافًا فيها بسبب الشّبهة أو المشاركة في فضّ نزاع أو الحُضور الجسدي أثناء الجريمة.

في سياق منفصل، تساءل المتحدّث عمّن يبلّغ عن وجود عصابة أحياء، فالمواطن العادي يجد نفسه بين ورطتين، الأولى مطاردته من أفرادها ومطاردة عائلته أيضًا، وهي قضايا تعرض يوميًا في المحاكم، إذن من يملك الشجاعة ليبلّغ عن عصابة تتاجر بالمخدّرات في حيّ شعبي، على سبيل المثال؟  

خبيرة نفسانية: تحضر روح الجماعة كثيرًا في بعض المدن الداخلية بالجزائر

فُتُور

انتشار الفيسبوك تسبّب في فتور العلاقات بين الأشخاص، وأصابتها بَلادة قاتِلة، كما قالت المربّية والخبيرة النفسانية سعيدة عوف، فالكثيرون يعتبرون مشاهدة  صراع الشباب في الشارع أو اعتداء  في قطار وتصويره بهاتف نقال دون التدخّل، وهذا "أمر غريب في مجتمعنا"، مضيفة لـ" الترا جزائر" أنّ تراجع روح الجماعة  بات واضح المعالم، في مقابل  ترسّخه في بعض المناطق، إذ مازالت سِمات التّماسك الاجتماعي متوفّرة، كما لا يطال الأذى أي شخص دون أن يتحرّك البعض لإغاثته، إضافة إلى أن روح الجماعة تحضُرُ كثيرًا في بعض المدن الداخلية بالجزائر، إذ  مازالت ليومنا هذا ترفع شِعار "إذا أردت الحفاظ على بيتك؛ احمِي جارك وعَلِّي مِقدار كبارك".