09-ديسمبر-2022
(فيسبوك/الترا جزائر)

جمال لنصاري (فيسبوك/الترا جزائر)

في الوقت الذّي كانت فيه مدن الشّمال الجزائري ترزح تحت هيمنة العنف والخوف والإرهاب، كانت مدينة تمنراست، 2000 كيلومترًا إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، تنعم بهدوء وأمن كانا يُشكّلان استثناءً في المشهد الجزائري العام، حيث اكتشف جمال لنصاري (1989) موهبته المسرحية، وقد بلغ السّنة الدّراسية السادسة عام  2001، من خلال المسرح المدرسي الذي كان يُمارَس في بعض مدارس المدينة للاحتفال  بالمناسبات الوطنيّة مثل ذكرى الاستقلال، والدّينيّة مثل المولد النّبويّ، والتّربويّة مثل يوم العلم. وكان جمال يُختار للأدوار الرّئيسيّة. 

لنصاري: متى تدرك المنظومة الثّقافيّة والمسرحيّة في الجزائر أهمّيّة الجهود التّطوّعيّة التّي قام بها النّشطاء المستقلّون عن أيّة مؤسّسة حكوميّة

التحق بدار الثّقافة، بعدها، حيث كان المخرج عزّوز عبد القادر يُشرف على ورشات تكوينيّة باسم فرقة "صرخة الرّكح" التّي تحوّلت إلى جمعيّة لاحقًا. فكان لها دور حاسم في نشر الثّقافة المسرحيّة في المدينة. 

كانت الورشة الواحدة تستقطب حوالي 80 متكوِّنًا دفعةً واحدةً، لكثرة الرّاغبين في اكتشاف ذواتهم مسرحيًّا، وقلّة المنابر المتاحة، "فكان صعبًا على الواحد أن يتميّز، داخل ذلك العدد الكبير من الشّغوفين، بما وضعني أمام تحدّي أن أترك المؤطّر يلتفت إليّ، من غير أن أقفز على المراحل والزّملاء". 

هنا، يفتح محدّث "الترا جزائر" قوسًا بالقول إنّ ذلك السّياق الزّمني كان يشهد تفاوتًا صارخًا، في الفرص والفضاءات المسرحيّة، بين أبناء الشّمال والجنوب، "نحن لا نملك اليوم مسرحًا جهويًّا، إذ أنّ أقرب بناية مسرحيّة إلينا في تمنراست بألف كيلومتر، فكيف بما قبل عشرين عامًا؟". 

حمل مفردات الإيمان بالحلم والصبر والمثابرة التّي تحلّى بها محدّثنا، المؤطّّرَ والمخرجَ عزّوز عبد القادر على توزيعه في عرض "تمنهايت" أي المرآة الذّي عاد من مهرجان المسرح الأمازيغيّ في باتنة عام 2009 بجائزة أحسن عرض متكامل. 

يقول: "شكّل تمكيني من الوقوف على خشبة المسرح، في مهرجان وازن، وبلغتي الأمّ، التّارقيّة، ضوءًا أخضرَ لي لأن أتخلّص من اليأس والقنوط، وأبرمج ذاتي على الأمل والطّموح". ويتساءل: "متى تدرك المنظومة الثّقافيّة والمسرحيّة في الجزائر أهمّيّة الجهود التّطوّعيّة التّي قام بها النّشطاء المستقلّون عن أيّة مؤسّسة حكوميّة، وبإمكانيات ذاتيّة، في تزويد المشهد الفنّي بعشرات المواهب والكفاءات؟". 

تأكد لجمال لنصاري أنه يستطيع أن يذهب بعيدًا في المسرح، عام 2010، حيث رُشِّح لجائزة أحسن ممثِّل في مهرجان تندوف، ضمن عرض "زوبعة السّراب" الذّي تحصّل في العام ذاتِه على جائزة لجنة التّحكيم، في مهرجان المسرح الأمازيغيّ. 

كانت عقدتنا في الجنوب، يقول محدّث "الترا جزائر"، الحصول على الاعتراف بجدارة أحدنا بممارسة المسرح، فكأنّها حكر على فنّانيّ الشّمال، فكان ترشيحي لنيل جائزة أفضل ممثّل، في نظري، تأكيدًا على موهبتي، بالإضافة إلى اختيار المخرج لي، من بين عشرات المشاركين في الورشة التّكوينيّة".

ويعيدنا إلى ما أسماه "سياق العقدة" بالقول إنّ جيله من المسرحيّين الجنوبيّين الشّباب شرعوا، يومها، يستمدّون القوّة والعزيمة، من تجارب في الجنوب نفسِه، منها بالإضافة إلى تجربة عزّوز عبد القادر في تمنراست، تجربة هارون الكيلاني في الأغواط، وفتحي صحراوي في وادي سوف، وعقباوي الشّيخ في أدرار، وقبلهم جميعًا تجربة مسرح النّسور في تندوف، "حضور وأداء ونضالات هذه التّجارب وغيرها هي من فرض على وزارة الثقافة أن تُؤسِّس مهرجان مسرح الجنوب، بصفته اعترافًا صريحًا بوجود مسرح في الصّحراء، رغم استمرار النّظرة الاستعلائيّة إليه، والدّليل أنّ المهرجان بدأ ومازال يُنظّم خارج الفضاء الصّحراويّ".

في العام الذّي تأسّس فيه مهرجان مسرح الجنوب، 2011، انتعش عدد العروض في ولايات الجنوب، بما يدلّ على أثره الإيجابيّ نفسيًّا على ممارسي الفنّ الرّابع، فأنتجت "صرخة الرّكح" في تمنراست لوحدها عرضين هما "رقصة الموت". و"هجروا المكان" كان جمال لنصاري ممثّلًا رئيسيًّا فيهما. 

يقول: "انتعشنا نفسيًّا، حيث بدأت بعض الفرق والتّعاونيّات والمهرجانات الجنوبيّة تتلقّى الدّعم الماديّ من الوصاية، فقمت بأوّل تجربة إخراجيّة لي، من خلال عرض "شغلالة" الذّي شارك في مهرجان الفرجة بورقلة، فترشّح لجائزة أحسن عرض، لكنّه نال جائزة لجنة التحكيم. 

هنا، وقع انقطاع مؤقّت في المسار المسرحيّ لجمال لنصاري، بسبب استدعائه لأداء الخدمة الوطنيّة في ولايتيّ الجلفة والمديّة. "وعلى مدار عامين، كنتُ أحاول أن أبقي على شغفي المسرحيّ حيًّا ونابضًا، من خلال الكتابة للمسرح في أوقات الفراغ، ومشاهدة المتاح من العروض خلال العطل القصيرة، فجعلتُ من فترة الخدمة العسكريّة فرصةً للتّكوين المسرحيّ، عوضًا عن الاستسلام لإكراهاتها، حيث انقطع كثير من شباب الفنّ بسبب الخدمة العسكريّة المؤقّة، أو اعتزلوه بسبب التّفرّغ لها". 

عاد إلى الحياة المدنيّة نهاية عام 2013، فانخرط مباشرةً في عرض "الرّفاعة" في إطار خمسينيّة ثورة التّحرير، وعرضت في عدّة مسارح، "فعرفتُ أثناء وقوفي على الخشبة أنّني لا أصلح لسواها، مع العلم أنّني ابن منطقة حدوديّة وسياحيّة، ويمكنني أن أشتغل في التّجارة أو السّياحة". 

ومثّل خلال عام 2015 في عرض "ولفي يا مريم" في إطار تظاهرة قسنطينة عاصمة الثّقافة العربيّة. وعرض "الموهبة" الذّي استثمر فيه خبرته في الاشتغال على فنون الطّفل ما بين عامي 2002 و2009. 

بعدها، وإلى غاية نهاية عام 2018، شارك في عرض "نزهة في الجحيم" وعرض "الهشيم" مع إعادة عرض "رقصة الموت" في إطار مهرجان مسرح الجنوب. وعرض "سالم والجدّة" للأطفال. ومونودرام "النّوري" لنور الدّين عزّوز الذّي نال جائزة أحسن عرض متكامل في المهرجان المغاربيّ بأدرار مع ترشيحه لجائزة أحسن أداء رجالي. وقد عُرض 32 مرّةً لحدّ اليوم.

خاض تجربة في الدراما التلفزيونية عام 2020 من خلال مسلسل "جانت جير إذرارن" بالتّارقية في جزئيه، وسيت كوم "يوميات شباتة وشيبو". عام 2021، "ورغم أنّ جمهور الدراما أكبر من جمهور المسرح، وعائداتها المالية أكبر أيضًا، إلّا أنّ متعتي وراحتي لا تكتملان إلّا فوق الخشبة. لا فنّ يستطيع أن يمنحني ما يمنحني إيّاه المسرح". 

يلفت جمال لنصاري إلى حاجة تمنراست إلى مسرح حكومي للم شمل الفنانين

ويؤكّد جمال لنصاري، رفقة نخبة واسعة من الفنّانين والنّشطاء، على حاجة تمنراست إلى مسرح حكومي للمّ شمل الكفاءات التّي باتت قادرةً على الإشعاع وطنيًّا وأفريقيًّا، "كنّا نمارس المسرح في أيّ فضاء متاح، رغم نقائصه من النّاحية التّقنيّة، أمّا اليوم فقد ناضل وكابد مسرحيّو تمنراست، حتّى ألمّوا بأصول الممارسة المسرحيّة، وباتت عروضهم تشارك وتُتوَّج في المحافل الدّوليّة، وباتت حاجتهم أكيدةً إلى فضاء مسرحيّ محترف. نريد أن نشعّ على أفريقيا التّي هي عمقنا الحضاريّ والاستراتيجيّ".