31-مارس-2024
(الصورة: فيسبوك)

دجاج عين التوتة (فيسبوك/الترا جزائر)

اشتهرت مدينة عين التوتة، التي سمّاها الفرنسيون "ماكماهون"، والواقعة على بعد 35 كلم جنوب، باتنة شرق الجزائر، في العقود الأخيرة بالدجاج، حتى أن سكّان عاصمة الولاية كانوا يسافرون يوميًا لتناول دجاجها اللذيذ، ناهيك على أنه كان يُباع هناك بنصف السعر المطروح في شوّايات المدينة.

ظنّ كثير من الناس أن افتتاح مطعم بريطاني لمستثمر من باتنة برعاية السفارة البريطانية بعلامة "تشيكن كوتج" العالمية كان أكبر تهديدٍ لمحلات شواء الدجاج بعين التوتة

يكتنز دجاج عين التوتة سرًا خاصًا به، لا يعرفه سوى طهاة المنطقة، وهم من عائلات عريقة اشتغلت في مجال الدواجن لفترة تقارب نصف قرن، مثل موراد، وبوقنة، ثم وخضوعًا لقانون التحول انتقلت تلك العائلات من تربية الدواجن إلى فنون الطبخ، فولدت علامة شعبية تجارية هي "دجاج عين التوتة"، الذي تجاوزت شهرته حدود مدينة التوت لعاصمة الأوراس فولايات مجاورة.

ثروة خلفية

إذا اتجهت جنوبًا نحو عين التوتة ستلحظ بلا شك ازدهارًا كبيرًا في تربية الدواجن، في جميع البلديات والقرى التي تدور عجلة اقتصادها الفلاحي والتجاري حول رحى المدينة.

ونظرًا لمؤهلات مناخية بحتة، لقرى وبلديات الشيحات، وبريش، و معافة، و أولاد عوف، وتمارة، نمت شعبة الدواجن بها، عكس المناطق الباردة التي يموت فيها الصوص والدجاج جراء البرد، و انعدام الدفء الحاضن للبيض و أمهاته على السواء. هكذا ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي مرائب تربية الدجاج، ما جعل منطقة عين التوتة قاطرة جرت ولاية باتنة وراءها لتصبح في غضون أعوام قطبًا بارزًا في شعبة البيض واللحوم البيضاء.

دجاج عين التوتة

احتلت باتنة منذ سنوات ولا تزال مراتب أولى في تربية الدواجن، وطبقًا لإحصائيات رسمية، تسد الولاية ما بين 40% إلى 27 % من مجمل الإنتاج الوطني، وتتربع على رأس الولايات الأكثر إنتاجًا للبيض، بأكثر من 20 ألف دجاجة ولاّدة، تغطي السوق الوطنية بأكثر من 1.1 مليار بيضة سنويًا، حتى قيل من بين كل ثلاث بيضات يتناولها الجزائريون يوميًا، واحدة تخرج من مداجن ولاية باتنة.

خلطة الأعمى

في سنوات التسعينيات، انتشرت مطاعم عديدة بمدينة عين التوتة، اختصت في الدجاج المحمر، مستغلة طفرة المستثمرات الوفيرة في إنتاج اللحم الأبيض، مستفيدة في سياق تجاري آخر، من موقعها الاستراتيجي غير البعيد عن بوابة الصحراء، مدينة القنطرة ولاية بسكرة. وحتما شجع هذا أصحاب الحافلات وشاحنات النقل المتوجهة صوب الصحراء عبر الطريق الوطني رقم 3 نحو بسكرة، أو الوسط عبر الطريق الوطني رقم 28 المؤدّي للمسيلة، على الإقبال على تلك المطاعم. أما سكان عاصمة الولاية ودوائرها فقد استهواهم مطعم فريد يقدم الدجاج بنكهة غير مسبوقة، سرعان ما صنع الفارق أمام بقية المنافسين.

دجاج عين التوتة

كان صاحب المطعم يسمى لهميسي موراد، ومن غرائب الصدف أن ذلك الرجل الأعمى منح للدجاج المطهي رائحة معبقة بقيادة طباخه موسى قارح، صنعت لدجاج عين التوتة شهرة، تركت سكان باقي المناطق يحجون إليها من باتنة وبريكةومروانة ونقاوس وحتى من تيمقاد والشمرة.

إن تلك الخلطة ستصبح علامة فارقة، حتى أن كثيرًا من المنافسين حاولوا التعرف عليها بواسطة ذوّاقين مختصين، فقد كانت تشبه الرز المحشو بالفلافل المهروسة، قبل أن يكتشفوا بعد سنوات، أنها جزر مرحي ومدمس بالفلافل الحارة ومتبل ببهارات محلية حارة ونفّاذة.

يقول أحد طباخي عين التوتة الشهيرين لـ"الترا الجزائر" إن "تلك الخلطة كانت تعتمد بالأساس على الجزر المرحي المخلوط مع الفلافل الحلوة والحارة والهريسة، وأحيانا يضاف لها البسباس. تخلط هذه المكونات في روبوت كهربائي، ثم توضع في إناء كبير. يطلى بها الدجاج في الليل ويحشى جوفه بتلك الخلطة، ليترك على حاله حتى الصباح كي يتشرب التوابل، وليتعبّق بها خلال عملية الطهي في الشوّاية، وقبل ظهور الشوايات الحديثة كان الدجاج يطهى في أفران طباخات الغاز".

وعن كيفية شيوع تلك الوصفة يضيف المتحدث قائلًا: "لاحقًا سيفتح كثير من الطباخين وغسالي الأواني مطاعم خاصة بهم أو مع شركاء، بعدما تعرفوا على تلك الخلطة"، غير أن عددهم بقي محدودًا، وفي دائرة مغلقة، ذلك أن انتشار الطريقة لم يكن يساعدهم في الحفاظ على أسرارها الشبيهة بأسرار الحرب. والحفاظ على موارد مالية هائلة جعلت بيع الدجاج مثل بيع الفول السوداني.

دجاج عين التوتة

غنيمة رمضانية

في حي 5 جويلية بباتنة افتتح فؤاد بوقنة مطعمًا مختصًا في دجاج عين التوتة منذ عدة سنوات، وهو يحقق رواجًا كبيرًا بسبب الإقبال الكثيف عليه من النساء على وجه الخصوص ما يعني شهادة إضافية على الجودة والنكهة والنظافة، تقول السيدة أميرة وهي خمسينية وفية للدجاج "في رمضان أفضل اقتناء دجاج عين التوتة في وقت مبكر، لأني أعلم أنه سيكون مستحيلًا نيل طلبي بعد ساعة العصر".

فؤاد صاحب المطعم الذي يناديه الكل هنا الشيف فؤاد، تدرج في الطبخ منذ سنة 2000 بعين التوتة، قبل أن يتكفل بالطهي لشركات في الصحراء وعنابة، ثم شارك في دورات تربص ومسابقات بالقاهرة، ولكيلا يشذ عن أقرانه تخصص في تربية الدجاج فامتلك حظيرة بـ 24.000 دجاجة، كانت ربما سببا في تحوله لفنون الطهي الدجاج بدل إنتاج الدواجن، وقد منحه ذلك معرفة تامة بالمجالين، فكان أن قرر في العام 2013 أن يصدّر دجاج عين التوتة إلى مدينة باتنة. أسأله عن سر الخلطة فيجيب ضاحكًا مترددًا ضاحكًا: " لا أستطيع أن أكشف سر الصنعة لأحد. لا يمكن لأي تاجر أن يفشي أسرار سلاح قوته في سوق تزدحم بالمنافسين".

ثم يضيف " الكل يعزو انتشار الخلطة للهميسي، بالنسبة لي كنت أعرف تلك الوصفة المستعملة فقرّرت أن أعود إليها يوم دشنت هذا المحل، وحقّق الدجاج رواجًا كبيرًا".

بالفعل كان المحل يزدحم بالزبائن الذين يقدمون طلبيات تدون في سجّل يومي قبل أن يعودوا بعد الظهيرة، لتسلم غنائمهم مزهوين، فيعقب فؤاد "في رمضان أبيع 500 دجاجة في اليوم وترتفع الحصة لقرابة 1000 وحدة، في نصفية الشهر وخلال العشر الأواخر. مع مرور الوقت أصبح لديّ زبائن من قسنطينة وميلة وبسكرة وسطيف، وحتى أولئك الذين يقطنون العاصمة وتأتي بهم طريق الأعمال إلى هنا يفضلون اقتناء ما بين 10 إلى 15 دجاجة لأخذها معهم لأهلهم وأصدقائهم".

دجاج عين التوتة

الأنثى والتشيكن كوتج

ظنّ كثير من الناس أن افتتاح مطعم بريطاني لمستثمر من باتنة برعاية السفارة البريطانية قبل أعوام بعلامة "تشيكن كوتج" العالمية كان أكبر تهديد للدجاج المحلي والوطني، غير أن ذلك كان مجرد سحابة صيف عابرة، ولم تمض غير فترة وجيزة حتى أغلق المحل البريطاني أمام مد دجاج عين التوتة، لاعتبارات متعلقة بالتوابل المحلية التي حافظت عليها خلطة لهميسي النفاذة والحارة، رغم أن دجاج عين التوتة تعلوه طبقة داكنة بفعل عملية الحرق، غير أن الشاف فؤاد يوضح: "الطبقة المحروقة هي بفعل حشوة الخلطة، لكنها طبقة رقيقة سرعان ما يتم فصلها بسهولة لتبرز الكتلة اللحمية الطرية و اللذيذة".

دجاج عين التوتة

يفضل طهاة الدجاج الاحتفاظ بالأسرار خاصتهم في غرفة مغلقة، فثمة خصائص أخرى تمكّنت نساء ساعيات وراء الوصفة لإعادة إنتاجها في البيوت، منها ضرورة أن تكون الدجاجة "أنثى" بوزن يتراوح ما بين 1.8 كلغ إلى 2.2 كلغ، كما ينبغي أن تخضع قبل طليها بالخلطة السحرية لعملية " تشويط" سواء داخل المحلات باستعمال " الحملاج" نافخ النار المعروف محليًا بـ " الشاليمو"، أو فوق مواقد غاز أو في المذابح البلدية، لتغدو كتلة ملساء بلا زغب أو ريش ناتئ، و في هذا يقول عارف بالطريقة " من أسرار النكهة أن تكون الدجاجة أنثى، لأنها مكتنزة و تحتوي نسبة شحوم، تساعد على منحها طراوة محبذة و مدرة لدهون تساهم في اكتساب مرق لذيذ متفاعل مع مكونات الجزر و الفلافل و الهريسة الحارة".

فؤاد بوقنة لـ "التراجزائر": أملي أن يصبح هذا الدجاج علامة وطنية جزائرية مصنفة مثل دجاج كنتاكي الشهير

فيما لا تزال النسوة تلهثن لتفكيك شيفرة هذه الوصفة السحرية، ويلجأ أصحاب مطاعم أخرى إلى منح محلاتهم مسمى دجاج عين التوتة جلبًا للزبائن ورغبة في ربح المال، لا حلم لفؤاد بوقنة سوى التحليق براية دجاج التوتة عاليًا، لذا يختم قائلًا: " أملي أن يصبح هذا الدجاج علامة وطنية جزائرية مصنفة مثل دجاج كنتاكي الشهير".