أثار جزائريون في الساعات القليلة الماضية، أسئلة كثيرة بعد فتح منصة التسجيلات في برنامج سكنات "عدل 3" المدّعمة من طرف الدولة، حيث حددت وزارة السكنات ساعات قليلة في اليوم للدخول والتسجيل، وهو ما تسبب في أعطاب فنية في الموقع الإلكتروني، وأدى إلى توقفه في عديد المرات، فكان من جملة هذه الأسئلة، لماذا انتقلت البيروقراطية الإدارية إلى الفضاءات الرقمية، وماذا كانت ستخسر الوزارة لو أبقت على الموقع الإلكتروني مفتوحًا لفترة طويلة ولفترات مفتوحة على مدار الساعة ليستنى للجميع التسجيل بأريحية.
الأستاذ عبد الغني ملاط لـ "الترا جزائر": أغلبية السكّان في العمارات الجديدة يواجهون معضلة كبرى لأن المساكن أصبحت عبارة عن " مراقد" فقط
مجتمعيًا، تُطرح أسئلة من نوع آخر: هل يُمكنك أن تدفع عُمرك مقابل مفتاح شقة؟ الإجابة على هذا السؤال المغلق، ستكون إما بالنفي أو الإيجاب، لكنه إذا توزّع على كل الفئات العمرية للمجتمع من شباب وكهول وشيوخ، فتصبح الإجابة مفتوحة على الكثير من الحقائق، فكلٌ يرى بمنظار حاجته لسقف يأويه.
في الشارع الجزائري ينظر كل شخص للأمر من خلفية الحاجة، فكثيرون منهم مستعجِلون للحصول على "قبر الدنيا"، مثلما يتم وصف " السكن في المخيال الشعبي الجزائري، لأنه فعلًا مآل الحياة، بالنظر إلى صعوبة تحقيق ذلك".
الفرصة ولكن..
منذ أكثر من عقدين من الزمن، خرج مشروع وكالة تحسين السكن وتطويره (عدل) للعلن، وباتت الخطوة تُسيل لعاب الجزائريين ممن أنهكتهم حالة " الضيق" في البيوت؛ إما مكدسة في طوابق العمارات القديمة، خاصّة في الأحياء الشعبية، وإما من ضاقت بهم السبل للخروج من العائلة الكبيرة والبحث عن أفق استقلالية توفّره مشاريع وكالة "عدل".
بالنسبة للشروط، وكما هو معروف للحصول على سكن بهذه الصيغة، فهي مرتهنة بالوضعية الاقتصادية، المرتبطة بقيمة الأجر لصاحب الملف، والأوفر حظًا هم المتزوجون الموظفون، لذا عاش الآلاف منذ إطلاق المشروع الأول في 2001، "فيضان من مشاعر الفرحة"، لأنّ ساعة الفرج اقتربت والحصول على السكن بات إجرائيًا "وشيكًا"، فلن يتعدّ أجل الحصول عليه ثلاث سنوات فقط، بحسب خطاب الحكومة آنذاك.
ما الذي تغيّر؟
هذه الإطلالة التي توثّق لفترة بدايات حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، توحي بأننا نتحدث عن حل أزمة السكن في ظرف قياسي، وباتت الأرقام وحدها هي الملجأ والمهرب والمنجى للحكومات المتعاقبة، غير أن الحقيقة أثبتت مرارًا وتكرارًا فشلها، بحسب الخبير الاقتصادي عبد الحميد بودينة، لأنّ المشروع السكني برأيه يمكن إنجازه "على الورق".
يبقى السكن في الجزائر "أزمة" والحلّ في نظر محدث "الترا جزائر" يكمن في استراتيجية مبينة على تكافؤ في المشاريع في الواقع مع حجم الزيادات في التعداد السكاني، فضلًا عن بؤر التوزيع " العادل" للسكن بمختلف صيغه التي تمنحها الدولة.
بالنسبة لـ"عدل" فهي "صيغة إيجابية" في نظره، لأنها تحتكم إلى شروط محددة، سواءً من ناحية الوثائق أو من الناحية المادية وعلى دفعات، وهو ما يتسنى للآلاف من ذلك.
في المقابل هناك نقاط سوداء تتعلق بالآجال، ونوعية تلك السكنات وحيطها من بيئة خَدَمية باتت "محل انتقاد وامتعاض المستفيدين"، فهي نقاط لا يمكن إغفالها، إذ أشار المهندس بودينة أنّ استراتيجية السكن تبقى معلقة بين إنشاء العمارات مع تزويدها بمختلف المنشآت الخاصة بالخدمات التي يوفرها الحي السكني.
فرحة مؤجلة
رغم استفادة الآلاف من وثيقة تفيد بالحصول على سكن بعد دفع القسط الأول، إلا أنهم صاروا عبارة عن رقم في قائمة انتظار، كما تقول (نورة. ز) الموظّفة في إحدى المؤسسات الحكومية، فمنذ أكثر من 13 سنة تنتظر الحصول على سكن "عدل" بعد تعطل الإنجاز في الكثير من المرات.
توضح لـ"الترا جزائر" قائلة: "إلى غاية انتهاء الأشغال والبدء في توزيع المفاتيح على المستفيدين، نعيش على وقع مشكلة الإيجار السنوي والمصاريف التي تنهك جيوبنا".
إذا كانت عملية إنهاء بناء السكنات مسألة وقت، إلا أن قضية إنجاز الشقق وأنماط البناء، وقدرة الشركات المعنية بتجهيز الأحياء السكنية الجديدة مسألة أخرى تتعلق بمدى "الالتزام بالآجال".
بالإضافة إلى ما سبق، يفكّر كثيرون أنهم بمجرد الحصول على السكن سيمرون إلى مرحلة أخرى وهي إعادة تجهيزه من الداخل، خصوصًا ما تعلق بهدم وإعادة بناء المطبخ والحمام وتوصيلات الماء والغاز، وهي عملية أقبل عليها كثيرون حصلوا على سكن جديد، وبات الأمر ليس بالغريب بالنسبة للعشرات من المستفيدين من مختلف الصيغ المتاحة في سوق السكن بالجزائر.
الإفراج على القائمة
السؤال يبقى معلقًا، عندما يتعلق برحلة اللهث وراء وثائق التسجيل للحصول على "مفتاح" شقة سكنية بصيغة "السكن الاجتماعي"، وذلك بعد دفع مبلغ كدفعة السكن، تحدث بعض المستفيدين بأن الثّمن هو " هدر السنوات في انتظار الحصول على سقف يأويهم".
يعتبر إعلان قوائم المستفيدين من السكن الاجتماعي أهمّ بكثير من الحصول على السكن في حدّ ذاته، إذ أشار كريم ياريش (موظف عامل نظافة متزوج ولديه ثلاثة أبناء) بأنه وضع ملف الحصول على السكن الاجتماعي منذ سنة 2006، أي منذ ولادة ابنه الأكبر، ففي كل مرة يأمُل في أن تفرج البلدية عن قوائم السكن وأن يكون اسمه من بين المستفيدين، لكن أمله يخيب في كلّ مرة.
من الحلول التي وجدها في حديثه لـ"الترا جزائر"، أنه توجه لتأجير شقة سكنية من غرفتين بحي الحراش بالعاصمة الجزائرية، إلا أنه كمن يرمي أجرته الشهرية في الوادي، حدّ تعبيره.
كغيره من زملاء المهنة، يضيف قائلًا: "منذ 20 سنة كان يأمل في الاستقرار والحصول على سكن اجتماعي لا يكلفه الكثير سوى " ثمن المفتاح" الذي أًصبح اليوم مرتبط برفع الأجور، خصوصًا مع ظروف الحياة وصعوبة المعيشة.
معاناة آلاف الجزائريين بعد أن شارف بعضهم على التقاعد، ليس نهاية الموضوع، فمنهم من مازالت كل آماله معلقة على الإفراج عن قائمة المستفيدين والحصول على سكن على مستوى البلديات، خصوصًا وأنها أصبحت مرتبطة أيضًا بالمناسبات، فالطلب أكبر من العرض من حيث كم المنشآت السكنية.
ظلّ الانتظار ورفع سقف الطموح بالنسبة لكثيرين، يتزامن مع عشية الاحتفالات بالذاكرة التاريخية كعيد الثورة التحريرية وعيد الاستقلال أو عشية عيد الفطر أو عيد الأضحى، وحتى قبل الاستحقاقات الانتخابية، وكلها مناسبات كثيرًا ما تحمل الأفراح للعائلات، بينما تحبس الأنفاس لأخرى.
الانتظار أفضل من اليأس
"الانتظار أفضل من اليأس" هي حالة الآلاف، لأن انتظار الفرج والحصول على سكن، يساعد على " العيش" تقول يمينة وهي أم لأربعة أبناء، تعترف أن القاعدة صارت الاستثناء، فالحصول على سكن بالنسبة للفئات الفقيرة متاح عبر صيغ اجتماعية تدعمها الدولة، بينما الاستثناء هو خوف متجدد كلما تكشف مصالح البلدية عن قائمة المستفيدين.
يتعلّق " المفتاح" بعدة شروط وبالظروف أيضًا، البعض يتحدث عن إمكانيات دفع المستحقات المالية للجهات المعنية، بحسب الصيغ المتاحة للحصول على سكن، وهي صيغ متعددة الأوجه وموجهة لمختلف الفئات المشكّلة للمجتمع الجزائري، لكن بالنسبة للأجراء أو الفئات الهشة فإن السكن الاجتماعي هو الحلّ الوحيد أمامهم، وهو " حق دستوري" تضيف لـ" الترا جزائر"، فيما تتحسر على أنها " لم تعش حياتها، بل وأصبحت رهينة بسقف يأويها هي وأولادها".
قضية السكن في الجزائر، تأخذ أبعادًا أخرى، ففي وقت يتحدث البعض عن مسألة الإفراج عن مفاتيح الاستفادة من السكنات الجديدة، يتحدث آخرون عن مواقع هذه السكنات أولًا وعدم مطابقتها لشروط العيش وبعد بعض الأحياء السكنية الجديدة عن مختلف المرافق العمومية خاصة منها المدارس والعيادات الصحية وحتى المحلات التجارية وافتقارها للربط بشبكات النّقل الحضري فضلًا عن مساحات الترفيه للأطفال.
شكّلت هذه المشاكل أو العقبات نقطة تحوّل كبرى في ذهنية الجزائريين، كما يقول أستاذ الرياضيات عبد الغني ملاط لـ"الترا جزائر" لأن الحصول على السكن لم يعد المشكلة الوحيدة في الجزائر التي تؤرق العشرات من العائلات، بل باتت " الفرحة مؤجلة" حتى بعد ذلك، لأن أغلبية السكّان في العمارات الجديدة يواجهون معضلة كبرى لأن المساكن أصبحت عبارة عن " مراقد" فقط، على اعتبار أن أساسيات الخدمات اللازمة في الأحياء السكنية غير متوفرة.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن توزيع السكن في الجزائر أصبح الشغل الشاغل في معظم بلديات الوطن، بينما الأهم قبل ذلك هو توفير مختلف المنشآت الضرورية المرافقة للسكنات، وبذلك " الأزمة أنتجت أزمة أخرى".
القديم والجديد
هل توزيع السكن مازال خاضعًا لتوفر شروط معينة؟ كثيرون يتحسسون من هذا السؤال، خاصة وأن هناك حقوق ضائعة، ضحيتها الكثيرون، فلا يمكن تحديد طريقة مثلى في التوزيع أو تحديد "حق الحصول على السكن"، رغم أن الآلاف عاشوا بـ" جرعة مسكِّنات يومية وشهرية وسنوية".
بالرغم من المخططات السكينة، وتوزيع الآلاف من السكنات على مستوى الولايات، إلا أن معضلة السكن في الجزائر مازالت تراوح مكانها، إذ يعتقد النائب عن حركة مجتمع السلم، عز الدين زحوف، بأن العشرات من السكان يعانون منذ سنوات، خصوصًا في الأحياء الشعبية، التي ضاقت على ساكنيها، موضحًا لـ"الترا جزائر" بأن حي باب الوادي بالعاصمة الجزائرية على سبيل المثال لا الحصر، يحتضن عمارات قديمة جدًا، وعشرات العائلات تستحق الترحيل لأنها مهددة، لذا فإن تزايد أعداد الطلبات لأجل الحصول على سكن راجع إلى عدم تسوية ملفات قديمة ظلت حبيسة الأدراج لسنين طويلة.
وأضاف قائلًا بأن عملية توزيع السكن تستحق إعادة هيكلة ودراسة ومخططات لإيجاد حلول ناجعة، وليس بناء سكنات جديدة وأحياء بالعشرات مع إنتاج أزمات أخرى.
كومة أوراق وطلبات وملفات، لازالت تراوح مكانها في عديد البلديات عبر الوطن، إذ تعتبر لجنة السكن من اللجان الحيوية على مستوى المجالس المحلية، وطلبات السكن تظل الأكثر قضية يسعى إليها الآلاف، في حين يبقى نمط البناءات السكنية وتجهيزها للمستفيدين من أكبر العقبات.
المؤقت
بصرف النظر على أنّ الحصول على سكن في الجزائر يبقى كابوسًا يؤرق الجزائريين، إلا أنّ معضلة السكن ما هي إلا نتاج أزمة، ومن مخلفات الفترة الأمنية الصعبة التي عاشتها البلاد خلال تسعينيات القرن الماضي، والأمن كان الهاجس الأول والأخير، قبل السكن، بينما العيش على أطراف المدن في بيت من القصدير أفضل من "الموت اليومي".
النائب عز الدين زحوف لـ "الترا جزائر": عملية توزيع السكن تستحق إعادة هيكلة ودراسة ومخططات لإيجاد حلول ناجعة، وليس بناء سكنات جديدة وأحياء بالعشرات مع إنتاج أزمات أخرى
هذه أحد مسببات مشكلة السكن، إذ واجهت الحكومة خلال العقود الماضية عدة تحديات اجتماعية واقتصادية، فمن جهة تحاول الاستجابة لطلبات المواطنين، بالتوازي مع ترحيل السكان من الأحياء القصديرية، وعددهم كان بالآلاف في شتى المدن.