03-يوليو-2020

ربيع كيوان/سوريا

قبل أزيد من 25 سنة، كان كثير من أصحاب الكلمة، يعدّون الدقائق والساعات التي يقضونها خارج بيوتهم، أو خارج غرفهم في "محمية الصحافيين" فترة الأزمة الأمنية بمنطقة سيدي فرج غرب العاصمة الجزائرية.

 بعض الصحافيين ظلّت وجوهم مكشوفة للجماعات المسلّحة إذ كانت تصلهم كل صباح رسائل التهديد مرشوشة بالمسك

 بعض الصحافيين ظلّت وجوهم مكشوفة للجماعات المسلّحة. حيث كانت تأتيهم كل صباح رسائل التهديد مرشوشة بالمسك ومعها قطعة قماش أبيض، ومنهم من كانت أقلامهم تقطر ألمًا وحسرة على تلك الجثث المتناثرة في المناطق الداخلية للبلاد، فكلّ يوم كانت هنا مجزرة، وكل يوم كانت البلاد تعدّ قتلاها، ظلّ السؤال لليوم من يقتل من؟

اقرأ/ي أيضًا: كُلْفَة الصحافة في الجزائر.. سنوات من الخوف والموت والمقاومة

كثيرة هي الصور والمشاهد، التي زفّتها أقلام الصحافيين على مرّ السنوات، إلى صدر الصفحات الأولى، سواءً من قلب الاحتفالات تارة، أو مواكب الجنائز تارة أخرى. كثيرة هي الأقلام التي أهدرت الجهد بعرق الجري وراء المعلومة الحارقة، في ظروف سيئة جدًا، فـ"الخارج من بيته مفقود، والعائد إليه في المساء مولود".

الأحداث اليومية كانت مليئة بلون الدم، ورائحة الدخان، ورغم كل هذا، لم يستسلم الصحافيون ولم يسلّموا أقلامهم، رغم الأخطاء ورغم الوضع العام.

كثيرون منهم اليوم، لازالوا في رحلة بحث عن بيئة تحتفي بتجربتهم، وتنمّي مهاراتهم، وتستفيد من خبرتهم، وتعطي لهم فضاء لممارسة حقّ التعبير، دون اللجوء إلى مشرط الجرّاح ومقصّ الرّقيب.

كثيرون منهم، دقوا الأبواب، فمنهم من قضى نحبه، رحمهم الله جميعًا، ومنهم مازال ينتظر في أن يعثر على لقمة عيش من زاد القلم، ومنهم من غيّر الواجهة والمهنة، فهي على حدّ تعبير الكاتب الأستاذ عبد العزيز بوباكير "ماتوكّلش الخبز".

أكتب هذا، وقد راعني ما كتبته الشاعرة رحمة بن مدربل، وهي التي طمحت كثيرًا في ولوج بوابة الإعلام، لتجد نفسها تقارع الوظيفة وتطلّق الشغف، ضاربة وراءها عشر سنين من الاجتهاد، في وقت تسمع من هنا وهناك أن الفنّانة الفلانية صارت مقدّمة لحصة تلفزيونية، وغيرها كثيرون، حيث ضاقت بها السبل، معلنة وضع حدّ لحياتها، بعد سنة من الاكتئاب الحادّ.

أكتب هذا، فقط لأضع الأصبع على الجرح، رحمة ليست الوحيدة ولا الأولى ولا الأخيرة في عالم الإعلام الجزائري، فلا الانتحار ينفع في زمن الاستكانة والاستسلام، رغم أن "الذي  يده في الماء ليس كمن يده في الجمر"، غير أن الجمرة التي يلمسها كثيرون، ذاقها من سبقوهم في سنوات التسعينات، ثم سنوات حكم الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة، ولازال البعض يساير الوضع، حتى لا أقول يقاوم، فالمقاومة على حدّ علمي، للكبار، لمن كابدوا الضيم، في سنوات الدم والدموع، في الجبال والقرى والمداشر، المقاومة لإخوان لنا في ولايات الجنوب، ينامون على آبار النفط ويستيقظون على البحث عن شربة ماء، في حرارة تصل درجاتها إلى 50 درجة مئوية، وغيرهم في كل مناطق وُسمت بـ "مدن الظلّ".

نحن نشبههم قليلًا يا رحمة، بعض الخلافات تفرّق بيننا، والخلاف لا يفسد للودّ قضية، نحفظ الدروس، ونكرّر السعي اليوم وغدًا، ونطرق الأبواب، ونحترم الجميع؛ ممن فتحت الدنيا ذراعيها لهم، ومن قذفت بهم الأجندات إلى بحر سحيق بلا قرار، وبلا عودة لنقطة البداية، البعض اختار معسكره، والبعض اختار المنفى والبعض كافح في البقاء على مضض، والبعض يعافر القدر يوميًا ولحدّ الساعة.

أكتب هذا، وندعوا الله أن يمن بالصحة والعافية على من زارهم الاكتئاب، فللكثيرين أسرار وخفايا وللكثيرين نكسات، وللكثيرين سوادٌ وظلمة لا يظهر للعلن.

الحياة المهنية في مجال الإعلام التي يتوق إليها الشغوف، ليس سجادًا مفروشًا بالورود، "قد تردّين وتقولين أعرف وأعلم"؛ " نعم أعرف أنّك تعرفين وتعلمين، ولكن في الدنيا لا أحد يملك من يومه سوى من يشدُد أزره، نحن نحتاج لمن يذكرنا يوميًا أن الحياة مسايرة ومعافرة وانتظار، ومحاولة وصبر ودقّ الأبواب، وكما تقول الحكمة، على من يكثر الطرق أن يلج.

لا أحد يعطيك النصيحة إلا أنت، ولا أحد يبكِيكِ إلا أنتِ، ولا أحد يقول لك انهضي إلا أنت، ولا غيرك يرى  ويسمع ويتألم لألمك إلا أنت، فالتجارب علمتنا أن من يدافع على قضية سيكون في الغالب هو الخاسر، بل ويتمتّع غيره بالأرباح، هنا أعود إلى زملاء لمهنة الذي خسروا قضياهم في تسعينيات القرن الماضي، في عشرية "الدم والدموع"، وتابعوا شغفهم وحدسهم وأمانيهم وأحلامهم وطموحاتهم، لكن أكثرهم تنحوا جانيا، فلا الوضع ولا المؤسّسات صارت تتحمل كفاءتهم المرتبطة بالمسؤولية الاجتماعية، ولا هم قادرين على تحمّل أوزار تغير مسارات الإعلام، في رقعة شطرنج ليس نهاية آخر شوطها غدًا.  

قد تزورنا الأيام الظلماء، الحالكة، وتوشّح الأجسام برداء الكآبة، وتدفع بالأجساد إلى طريق الوهن، وتحمِل الأرواح نحو حالة الاكتئاب.

الكثير من المبدعين يصابون بالخيبة، لأن انتظاراتهم كانت أكبر مما توفّره البيئة الإعلامية

الكثير من المبدعين يصابون بالخيبة، لأن انتظاراتهم كانت أكبر مما توفّره البيئة الإعلامية، لكن برأيي هي أسلحة للقوة وليس للضّعف، إذ مع الظلام تنقشع الأنوار، وتأتي ساعة الفرج، وبعد السقوط يأتي الوقوف فهو أحد السنن الكونية، وكأن الإحباط لم يكن في السّابق ضيفًا ثقيلًا، وسيمنح البعض من تجاربه شعاعًا ينير ظلام المنزوين في البيوت خوفًا ومقتنعين بالانتحار الإبداعي، فالحياة هنا أو هناك سيان، وفي الاختلاف يا رحمة، رحمة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قضية "الخبر".. الصحافة الجزائرية على مفترق طرق

مطالب بتصنيف الصحافة ضمن المهن الشاقة في الجزائر