18-فبراير-2024
نظام ثاجماعت في منطقة الأوراس

يشتهر نظام ثاجماعت في منطقة الأوراس (الصورة: فيسبوك)

في عام 1950 طلبت أكاديمية العلوم الاستعمارية من جورج هاردي إعداد تقرير عن شاوية الأوراس فمسح الرجل تاريخ المنطقة منذ الفترة القرطاجية و النوميدية حتى الخمسينيات الماضية أسماه " بلاد الشاوية: منطقة تاريخية من الجزائر"، و قد لاحظ فيه ما يلي:" إن تنظيمهم الاجتماعي بعناصره الأساسية المتمثلة في الفِرقة والقبيلة، لم يتغير مطلقا. فهو يتأسس على مبدأ ديمقراطي، فليس الزعيم هو من يملك السلطة، بل من يملك السلطة هو المجلس، أي الجماعة".

تتأسس "تاجماعت" على مبدأ ديمقراطي، فليس الزعيم هو من يملك السلطة، بل من يملك السلطة هو المجلس، أي الجماعة

 وأضاف هاردي في تقريره أنه "ورغم أن الإدارة الفرنسية أسست فوق ذلك التنظيم الاجتماعي جماعات رسمية برغبة التأقلم مع الوضع، فإن الجماعة البربرية التقليدية استمرت حاميةً للعادات القانونية".

إلى يومنا هذا لا تزال أعراش الأوراس تحتكم لنظام عرفي خاص بكل واحدة منها، يسمى " السيرة" بمعنى " الطريقة"، وهو يتأسس على مبادئ الشريعة الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بنظام الأحوال الشخصية. ويفرض الاجتهاد يفرض نفسه حلا عندما تغيب النصوص الواضحة، أما في حال تعارض السير، فيُلجأ إلى مبدأ التوافق، وأنتج ذلك وثيقة عرفية ذات طابع رسمي منذ العام 2016.

الصلح و "الفونديتا"

بمجرد ما تقع جريمة قتل بباتنة شرقي الجزائر، أو حتى بولايات خنشلة وأم البواقي وتبسة وبسكرة، ودرءً للأحقاد كي لا يتحول الجرم إلى مطية تتجاوز الصفة الفردية إلى العقوبة الجماعية، مثلما هو تقليد " الفونديتا" الشهير بمناطق صقلية الإيطالية، والذي كان مجالا خصبا للمافيا، فإن ماكينة الصلح تنطلق، هنا تلقائيا، تفاديا لمنطق الغاب وقطرة الدم التي تستدعي حمامات الدماء.

 يشرح الأستاذ سي المسعود بنشوري، وهو أستاذ متقاعد ورئيس بلدية إينوغيسن، سابقا، والعضو الحالي في جماعة عرف عرش بني بوسليمان لـ "الترا جزائر" قائلا: " فور وقوع الجريمة يتصل بنا أفراد عائلة الجاني من أجل التوسط بينهم وبين عائلة الضحية، عبر كبار العائلة أو إمام، لنبدأ عملية مد الجسور.

وأردف: "نشكل وفدا من الأعيان والأئمة والمحامين، ونذهب لتقديم التعازي أولا، قبل أن نلتئم مع العائلة لتدارس عقد الصلح وتحديد دية الدم. تحدد الجلسة في مسجد ونبدأ أولا في تلطيف الأجواء من خلال آيات القرآن التي تحث على الصلح وتجاوز الحقد والانتقام".

 وأضاف: "ثم نشرع في التداول بشأن الدية، طبعا تعتمد أعراش ولاية باتنة وثيقة رسمية أقرها المجلس العلمي لمديرية الشؤون الدينية وهي مودعة على مستوى الولاية، كخريطة طريق أقرتها اجتماعات ونقاشات ماراثونية بين وجهاء الأعراش والأئمة ورجال القانون منذ 2016".

حددت وثيقة الصلح وإصلاح ذات البين الخاصة بولاية باتنة التي رعتها مديرية الشؤون الدينية والاوقاف، اتفاقية إطار العرف الولائي، تفاديا للخلافات بين جماعات الأعراش المختلفة، ثم لإنجاح عمليات الصلح جراء تعارض السير. حددت أبوابا عدة، أهمها الديّات والصلح عليها، فدية القتل العمد مقدرة بـ 100 مليون سنتيم، وإذا ما اقترن القتل العمد بالتنكيل وبالتمثيل بالجثة، فترتفع بمبلغ إضافي بين 20 إلى30 مليون سنتيم.

وحددت ديّة القتل الخطأ مثل حوادث المرور وبارود الأعراس بمبلغ 30 مليون سنتيم. أما الجريمة شبه العمد مثل التسبب في قتل شخص أثناء السياقة في حالة سكر، أو السرعة المفرطة، أو حفر بئر دون تغطيته، فديّتها 50 مليون سنتيم.

أما إذا ما وقعت الجريمة بين فرد من عرش ضد آخر من خارج الولاية، فيفرض الأمر الاجتهاد، عن حل "لا غالب ولا مغلوب".

هنا،  يوضح الأستاذ المسعود بنشوري ذلك: " مؤخرا قتل شاب من أريس بباتنة شابا من ولاية خنشلة في ولاية بسكرة، ونظرا لتعارض العرف بين ولايتي باتنة وخنشلة، تم اللجوء إلى حل توافقي اعتُمد فيه عرف ولاية بسكرة مكان وقوع الجريمة. لقي المقترح الذي قدمته لجنة مصغرة من الجانبين رضى الطرفين".

الماء والنار

وكمثال على التنافع المشترك بين القانون والعرف، يوضح الدكتور نجيب بيطام، وهو أستاذ القانون بجامعة باتنة، ومحام معتمد لدى مجلس قضاء باتنة والمحكمة العليا لـ "الترا جزائر"، مفسرا:" الديّة ليست واردة في قانون العقوبات، وبما أن القانون لا يحاجج العرف لأن القاعدة تقول كل ما ليس هو محضور بموجب القانون ويرضي الطرفين فمعمول به، نلجأ للعرف لأنه مستمد من الشريعة الإسلامية والدين الحنيف. وبالتالي فإن العرف حافظ للدين عبر التاريخ. يجب أن نتذكر هنا بأن الجزائريين وطوال فترة الاستعمار الفرنسي، حافظوا على الأحوال الشخصية، في عقود الزواج التي تبرم وفقا للشرع، وفي تقسيم التركة وأحكام المواريث. لم يستطع الفرنسيون تغيير ذلك على مدار قرن ونيف بل أجبروا على التوافق معه".

تتدخل الجماعات العرفية في مختلف قضايا النزاعات بين الأطراف، مثل قضايا الأسرة و التركة و التعاملات التجارية و البيوع و الديون وغيرها، يعقب الإمام إبراهيم سلامي عضو لجنة عرف عرش بني بوسليمان لـ "ألترا جزائر:" نجتمع كلما دعت الضرورة من أجل حل الخلافات بين الأزواج، و النزاعات بين الأشخاص في البيوع و التجارة، سواء بين أبناء العرش الواحد، أو بين العرش و أعراش أخرى، في القضايا الداخلية يتطلب الأمر لجنة مصغرة، أما القضايا الخارجية فتتطلب لجنة كثيرة العدد".

وتابع: "غالبا ما ننتهي بقرارات نهائية ملزمة معنويا و مريحة لجميع الأطراف. أحيانا تنظم وليمتان الأولى عند أهل الطرفين، احتفاء بذلك وطبعا هذا ليس واجبا بل عادة اجتماعية مواكبة لأنهاء الأزمة بشكل يحوله لفرح وعرس، وكما هو معلوم فإن العرف سند للشرع، لذا يلقى القبول حتى في صغائر الأمور، لأن معظم النار من مستصغر الشرر لذا نساهم في إطفاء جمرة النزاعات في الماء والفتن في المهد استنادا للعرف الموافق للشرع، وكما يقول علماؤنا كل عرف مخالف للبارئ يُرمى في البراري".

أما عادل بوهنتالة، وبصفته محام معتمد لدى مجلس قضاء باتنة والمحكمة العليا فيضيف: " القضاء لا يرى مانعا في عرف الصلح، فمثلا قضايا السب والشتم والقذف ومسائل الأصول تنتهي فيها المتابعة بوقوع الصفح. كما أن كثيرا من القضاة يرجئون التداول في الجرائم لكا بعد وقوع الصلح العرفي برغبة التأكد من انتهاء النزاع وانطفاء الأحقاد. فمثلا ثمة حادثة شهيرة، وقعت قبل أعوام قتل فيها شاب غريمه في قضية شرف، كاد الأمر يتطور إلى نزاع بين عرشين بسبب ارتباط القضية بالشرف والتفاوت الطبقي، لكن الجماعتين العرفيتين تمكنتا من التوصل لاتفاق تم بموجبه دفع الدية، وترك العدالة تأخذ مجراها فادين القاتل بـ 20 سنة بدل الإعدام أو المؤبد".

حالات الطلاق

ساهمت الجماعات العرفية في تسقيف مهور الزواج، فهو لا يتعدى 20 مليون سنتيم لدى أبناء عرش بني بوسليمان، كما هو معمول به لدى إخوانهم في عرشي أولاد فاضل وعموم أعراش الولاية، والهدف التشجيع على الزواج وكبح جماح العزوف والعنوسة.

 ولا يعاني الأوراس من العنصرية في الزواج فكل الأعراش أمازيغية أو عربية، تتزاوج فيما بينها بلا أدنى مشكلة منذ القدم، لكن كل فرقة تزوج أبنتها وفق سيرتها كما هو المتفق.

أما الطلاق فيخضع أيضا لمجالس صلح عرفية بين الطرفين قبل تداوله في أروقة المحاكم، وأفلحت هذه المجالس في جمع شتات العائلات في كثير من الأحيان، ما دفع القانوني نجيب بيطام إلى تطوير مطلب تفعيل العرف في مسائل الطلاق والخلع وحجته: "ثمة ارتفاع مقلق لحالات الطلاق في الجزائر، فهناك إحصائيات تقول 100.000 حالة خلال عامين، و68.000 حالة في سنة، أما الخلع الذي يبقى حقا شرعيا للزوجة فهناك مبالغة في استعماله إذ تشير إحصائيات إلى تسجيل 10.000 حالة العام 2021. لذا من الضروري تفعيل مجالس الصلح العرفية، حيث نلاحظ انخفاض الطلاق في المناطق الملتجئة للعرف حيث غالبا ما تفلح في تجاوز الخلاف، فيما ترتفع الحالات في المدن الحضرية الكبرى التي يلجأ فيها الأزواج للنزاع القضائي مباشرة.

الطلاق يخضع أيضا لمجالس صلح عرفية بين الطرفين قبل تداوله في أروقة المحاكم، وأفلحت هذه المجالس في جمع شتات العائلات في كثير من الأحيان

ونفس الملحوظة صحيحة بالنسبة لنزاعات الإخوة والأقارب فيما يخص الميراث، ذلك أن رأي الجماعة العرفية ملزم للأطراف من الناحية المعنوية، ويحد في كسره لاستناده على التعاليم الدينية".يُضيف بيطام.

عرف إلكتروني

لا ترى لجان العرف نفسها بديلة للقانون والقضاء والدولة بل مساعدة ومكملة له كما يصر الأستاذ المسعود بنشوري، بل تحقق هدفا آخر هو تحقيق الانسجام بين النسيج الاجتماعي والإخاء بين الأفراد والأعراش.

 أما المطلّع على وثيقة الصلح الولائية فيكشف لك رغبة هذه الكيانات التقليدية في التنظيم وحماية الحق، كما لو أنها بحكم التجاور القديم مع حضارة روما التي دأبت على تنظيم "مجالس الشيوخ"، ذلك أنها أدرجت مشكلات حديثة وعصرية في وثيقتها المعتمدة، منها على الخصوص تعويض حوادث الاغتصاب بنوعيه على البالغة المقدر بـ 200 مليون سنتيم، وعلى القاصر بـ 300 مليون سنتيم.

ولم تغفل تربية الكلاب التي تستعمل في الاعتداءات حيث عدتها سلاحا أبيضَ يستوجب في حالة تسببها في جروح للضحايا أمام الثانويات والمدارس والثانويات تعويضا يماثل بند الجرح العمدي وقدره 3500 دج للعقدة الواحدة في حالة العمد و2000 دج للعقدة في حالة عدم التعمد، مع ضمان تكاليف العلاج والفحوص في كلتا الحالتين، وتفصيلات أخرى في حالة العجز الدائم وغيره. أما تعويضات حوادث الاختطاف التي ظهرت مع بداية الألفين بالجزائر فقد انيطت ببنود تعويضات صلح، تتراوح بين 150 مليون سنتيم للمرأة، بـ 100 مليون سنتيم للقصر، وبـ 150 مليون سنتيم للمواليد، لكل مشارك فيه.

لم يتخلف العرف عن ركب الجرائم السيبرانية المتعلقة باستخدامات التكنولوجيا في وسائل التواصل الاجتماعي مثل"فيسبوك" و"انستغرام" و"تيك توك"

لم يتخلف العرف عن ركب الجرائم السيبرانية المتعلقة باستخدامات التكنولوجيا في وسائل التواصل الاجتماعي مثل"فيسبوك" و"انستغرام" و"تيك توك"، حيث أقرت المجالس العرفية، تعويضات جراء المساس وانتهاك الحياة الخاصة للأفراد، بنشر الصور والفيديوهات المركبة، أو عبر اختراق المعطيات الآلية لسرقة الملفات أو بثها دون موافقة أصحابها، و تتراوح التعويضات بين 40 إلى 100 مليون سنتيم مع رد الاعتبار بالصيغ المناسبة التي تجبر خاطر الضحايا.