29-أكتوبر-2019

احتجاج القضاة أمام المجلس الأعلى للقضاء بالعاصمة (أ.ف.ب)

تشهد الجزائر مواجهة هي الأولى من نوعها بين الحكومة والقضاة، على خلفية قرار استصدره وزير العدل بلقاسم زغماتي من المجلس الأعلى للقضاء الخميس الماضي، القاضي بحركة تحويلات واسعة مسّت ما يُقارب ثلاثة آلاف قاضي، ووُسمت هذه الحركة بـ" الأكبر في الجزائر"، إذ  شملت نصف الجسم القضائي في قطاع العدالة.

ظلّت السلطة السياسية في الجزائر تُسيطر على المؤسّسة القضائية وتهمين على قراراتها منذ الاستقلال

وشلّ القضاة الأحد الماضي، المحاكم وقاموا بتوقيف العمل القضائي تنفيذًا لقرار النقابة الوطنية للقضاة، والدخول في إضراب وتجميد قرارات وزير العدل بلقاسم زغماتي، والمطالبة بالمراجعة الفورية للقوانين الناظمة للعمل القضائي، بهدف تحقيق الفصل التام بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، خاصّة وأنّ السلطة التنفيذية، ممثلة في رئيس الجمهورية ووزير العدل، تحوز دستوريًا على صلاحية رئاسة الهيئة القضائية العليا (المجلس الأعلى للقضاء) والذي يُدير ويتحكّم في المسار المهني للقاضي.

اقرأ/ي أيضًا: وزير العدل بلقاسم زغماتي.. في مهمّة استرجاع 300 مليار دولار

حرب البيانات

عزّزت حركة القضاة هذه، إصدار اثنى عشر عضوًا من المجلس الأعلى للقضاء بيانًا يكشِف عدم اطّلاعهم على مقرّرات تحويل القضاة، الصادرة يوم الخميس الماضي، وطعنهم في صحّة مزاعم وزارة العدل، بوجود مصادقة جماعية على هذه المُقرّرات.

إذا كانت وزارة العدل، مضطرة اليوم إلى إصدار بيان ثانٍ تقلّل فيه من الأهميّة القانونية لبيان أعضاء المجلس، وتحذّر القُضاة المضربين من طائلة القانون الذي يمنع القضاة من الإضراب، فهذا لأنّ هذا الصّراع المفاجئ، هو الأوّل من نوعه في هذا المستوى بين القضاء والحكومة، إذ لم يعرف القضاء الجزائري محطّات مشابهة من قبل، وهو ما وصفه أستاذ القانون الأستاذ مراد أوسعيد بـ"التمرّد القضائي".

رهائن السلطة

خلال العقود الستّة الماضية، ظلّت السلطة السياسية في الجزائر تُسيطر على المؤسّسة القضائية وتهمين على قراراتها، وتتدخّل في مسارات القضايا المختلفة، كما "كانت السلطة تحرِص على إضفاء شرعية دستورية وقانونية على تحكّمها في القضاء"، يضيف الأستاذ أوسيعد لـ" الترا جزائر"، رغم تطور التشريعات التي عرفتها الجزائر في العقود الثلاثة الأخيرة، ودخول البلد مرحلة التعدّدية السياسية منذ سنة 1989، بإطلاق المشاريع المختلفة لإصلاح العدالة، أبرزها حسبه، مشروع الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في عام 2002، المتعلّق بإنشاء ورشة لجنة إصلاح العدالة بعنوان "تحقيق استقلالية العدالة والقضاء"، إلا ّ أن المؤسّسة القضائية في الجزائر ظلّت بعيدة عن هذا العنوان.

بعد اندلاع الحراك الشعبي في الجزائر في الـ22 شبّاط/ فيفري الماضي، انضمّ القضاة إلى الحراك، وأعلنوا التمرّد على السلطة، ورفضوا الإشراف على الانتخابات الرئاسية التي كانت مقرّرة في الـ18 من نيسان/أفريل الماضي، قبل أن يتمّ إلغاؤها، وأصدروا بياًنا ثوريًا أعلنوا فيه قرارهم التحرّر من الإملاءات والضغوط السياسية الممارسة عليهم، وقاموا بتأسيس نادي للقضاة الأحرار، وهو هيئة موازية للنّقابة التي كانت تُسيطر عليها السلطة، قبل أن ينجح القضاة الأحرار في استعادة النقابة والفوز برئاستها، مستفيدين من المناخ الذي وفّره لهم الحراك.

أسهمت هذه الخطوة في إصلاحٍ نسبيٍ للعلاقة بين القضاة والمجتمع السياسي والمدني، إذ كان يُنظر إلى القضاة في وقت سابق، كهيئات ملحقة وأدوات يستخدمها النظام، في الردع والتضييق على المجموعات السياسية والمدنية والنقابية.

لكن السّلطة نجحت لاحقًا في استعادة السّيطرة على الجهاز القضائي، واستخدمته في ملاحقة الناشطين والمعارضين في الشارع والحراك الشعبي، بحسب الناشط السياسي سليم بلمهدي، وهو ما أعاد "رسم صورة مشوّشة على القضاء مجدّدًا لدى الشارع الجزائري" حسب ما ذكره لـ" الترا جزائر".

خطوة غير مسبوقة

تباينت المواقف السياسية إزاء العصيان الأخير للقضاة، على خلفية أنّ "مطالبهم فئوية اجتماعية، تخصّهم وليس لها علاقة بالمطالب السياسية للحراك الشعبي"، مثلما اعتبرها البعض، غير أن هناك من يرى أنّها خطوة إيجابية في وقت حسّاس تعيشه الجزائر قبيل الانتخابات، مثلما أكدت الناشطة الحقوقية الأستاذ بكلية العلوم القانونية والإدارية بقسنطينة نجية بولعسل، مشيرة إلى أنّ "أولى خطوات مقاومة الفساد تبدأ من مقاومة الضيم المهني والاجتماعي"، وقالت المتحدّثة لـ "الترا جزائر" إنّه "آن الأوان لأنّ يشهد كل قطاع في الجزائر حراكًا داخليًا، يهدف إلى تعزيز مطلب التغيير من قلب كلّ قطاع، ورفض كل المظالم المهنية والاجتماعية" على حدّ تعبيرها.

أصواتٌ كثيرةٌ، انحازت إلى الحركة الاحتجاجية من قلب جهاز القضاء، وهو ما كرّره عديد المنخرطين في سلك القضاء، تحت شعار "أن تتحرّك اليوم أفضل من البقاء صامتًا، في ظلّ غليان شعبي لمدّة تربو عن ثمانية أشهر".

يتّفق هذا الطرح مع ما أكّده الإعلامي عبد النور بوخمخم، وهو أن القضاة لم يكن بإمكانهم اتخاذ خطوة الإضراب، لولا الحراك الشعبي ولولا الجزائريين الذين ينشدون دولة الحرّيات والقانون، مضيفًا في حديث إلى "الترا جزائر"، أنّه "من بركات الحراك تحرير كلّ أشكال التعبير، ورفض الظلم لمن يريد الحرّية فعلًا".

مطالب داعمة للحراك

حتّى وإن كانت مطالب القضاة مهنية واجتماعية، إلا أن توقيت الحركة الاحتجاجية للقضاة، المتزامن مع احتجاج المحامين وإضراب النقابات، ودعوات تنظيم مسيرات مليونية الجمعة القادمة في كلّ ولايات الوطن، في الفاتح تشرين الثاني/نوفمبر الداخل، يدعم المطالب السياسية للحراك، ويكشف عدم صدقية الخطاب الرسمي الذي كان يزعم بوجود استقلالية القضاء.

الحركة الاحتجاجية للقضاة سيزيد من توتّر الأوضاع السياسية في الجزائر قبيل الرئاسيات

إضافة إلى ما سبق، فإنّ بدء حركة احتجاجية غير مسبوقة في تاريخ القضاء، ستزيد من توتّر الأوضاع في الساحة السياسية الجزائرية، من شأنها أن تخلق مناخًا مضطربًا قبل أيّام فقط من الانتخابات الرئاسية المقرّرة نهاية السنة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

القضاة يشلّون العمل القضائي ووزارة زغماتي تتوعّد

 وزير العدل بلقاسم زغماتي.. في مهمّة استرجاع 300 مليار دولار