06-يوليو-2023
احتجاجات في فرنسا على خلفية مقتل مراهق على يد الشرطة (فيسبوك/الترا جزائر)

احتجاجات في فرنسا على خلفية مقتل مراهق على يد الشرطة (فيسبوك/الترا جزائر)

تَعكس التظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها عدة مدن فرنسية أزمة متعدّدة الأوجه، كانت شرارتها مقتل شاب مراهق يقطن في المنطقة الباريسية نانتير، تطورت إلى صدمات عنيفة بين شبان وقوات حفظ النظام السؤال عن سياسة الإدماج الفرنسي، حيث تباينت الآراء والمواقف حول مدى فشل أو نجاح النموذج الفرنسي في مستوى الاندماج مع الجاليات من أصول أفريقية وشمال مغاربية.

توقع مدافعون عن حقوق المواطنة في فرنسا أن يفرز التضييق على شباب الضواحي باستعمال أساليب تشديد سياسة التحقق من الهوية المزيد من التوتّر

احتجاجات متكررة

في سياق الموضوع، يمثل النموذج الفرنسي في الإدماج والتعايش مفخرة في الخطاب السياسي الرسمي، رغم أن محطات عديدة من الاحتجاجات، كانت مسرحًا لفشل سياسة الإدماج، فقد شهدت سنة 1978 حركة احتجاجية بالضواحي الفرنسية تنديدًا بالظروف المعيشية الصعبة أو ما أطلق عليها "الڨيتوهات"، وفي سنة 1983 قاد حوالي 100ألف مواطن فرنسي من أصول مغاربية مسيرة سميت la marche des beursضد العنصرية والتهميش.

وفي سنة 2005 عرفت المدن الفرنسية موجة من أعمال عنف وعصيان، وأعلنت حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، وصولًا إلى مظاهرات 2023  إثر مقتل المراهق نائل، والتي تُوصف على أنها الأعنف والأوسع جغرافيًا، نظرًا إلى توثيق مقتل الشاب نائل بمقطع فيديو يكذب الرواية الرسمية للشرطة الفرنسية، وكذا استخدام الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي في تنظيم التظاهرات، ومما لفت انتباه متتبعين هو تحول أعمال العنف من الضاحية إلى مركز المدن.

 وعلى ضوء ذلك، تُؤشر التواريخ أن معدل كل 18 سنة تَشهد المدن الفرنسية تمردًا وعصيانًا يقوده شباب من الضواحي تتراوح أعمارهم ما بين 16 إلى 18 سنة، ينتمون إلى أجيال لم تشارك ولم تعايش الأحداث السابقة، وهو مؤشّر قوي بحسب محللين، أن النموذج الفرنسي في الاندماج أخفق وفشل في استيعاب فرنسيين من أصول مهاجرة.

رصاصة أشعلت فرنسا

في هذا المنحى، أدى تزايد الجريمة المنظمة، وتجارة المخدرات في الضواحي الفرنسية ذات أغلبية تنتمي إلى المهاجرين، إلى اعتماد  حزام أمني دائري يحيط بالأحياء والشوارع المهمشة، حيث اعتمدت المقاربة الأمنية في معالجة الجريمة والتشدد الديني ومكافحة الإرهاب، بحسب التصور الفرنسي،  إلى "أمركة" Américanisation قوات الشرطة ومختلف التشكيلات الأمنية.

إلى هنا، يرى خبراء أن المقاربة الأمنية المعتمدة على التسليح المفرطـ، وتقننين استخدام القوة النارية وسط أحياء شعبية ذات كثافة سكانية عالية، غالبية ساكنيها من أصول مهاجرة من السود والأفارقة، من شأن كل ذلك أن يَخلُقَ توترًا دائمًا ومستمرًا، ويفتح المزيد من العداوة والصدام بين شباب الضواحي والمؤسّسات الأمنية الفرنسية.

في هذا السياق، توقع مدافعون عن حقوق المواطنة في فرنسا، أن يفرز التضييق على شباب الضواحي باستعمال أساليب تشديد سياسة التحقق من الهوية، المزيد من الصدام بسبب السلوك الأمني العنصري.

وعلاوة على التضييق الأمني والعنف اللفظي في بعض وسائل الإعلام المُوجّه ضد فرنسيين من أصول مهاجرة، على غرار عبارة ساركوزي "الحثالة" أو وصف نائب برلماني من اليمين المتطرف للمحتجين بـ "المتوحشون"، تشهد الضواحي الفرنسية جملة من المشاكل والظروف المعيشية السيئة.

سان دوني

ضاحية سين سان دوني الباريسية ذات الكثافة السكانية العالية، تمثل نموذجًا مُصغّرًا عن حياة الضواحي الفرنسية الفقيرة، والمهمشة حيث تَمركزت اليد العاملة المهاجرة منذ عقود طويلة وسط مجمعات سكانية ضخمة، وضاحية سين سان دوني من بين الأحياء التي شهدت أعلى نسبة وفيات بوباء كوفيد - 19 خلال الأزمة الصحية، وهذا نتيجة تواجد ساكنيها في الصفوف الأولى التي توفر اليد العاملة في مجال الخدمات الاجتماعية والصحيّة، والنقل العمومي والعمل في المتاجر الكبرى.

 ويبلغ الدخل الفردي لأسرة تقطن في سان دوني في حدود 900 إلى 1200 يورو شهريًا، وهو معدل تحت الفقر بحسب معايير الدول المتقدمة والأوروبية، وتعرف منطقة سان دوني ارتفاع معادلات البطالة وسط الشباب وخريجي معاهد التكوين والتعليم، وتشهد الضواحي الفرنسية حالة من التوتر الدائم والعنف الشارعي بين عصابات الأحياء، ويمتهن عدد كبير من قاطنيها في مجال المتاجرة في المخدرات، ويَعد هذا الوضع نتيجة الإسكان المختلط بين مختلف الثقافات والهويات، فيما لم يدمج الفرنسيون من أصول فرنسية وسط تلك المجمعات السكانية إلا نادرًا.

التهميش المعتمد

جدير بالذكر  أن الحكومات المتعاقبة استثمرت وأنفقت أكثر من 40 مليار يورو خلال العقود السابقة، لكن النتيجة يُعبر عن فشلها حالة غضب شباب الضواحي وامتداد وتوسّع الاحتجاجات في المدن الكبرى الفرنسية، كانت شُعلتها مقتل فتى يبلغ من العمر 17 سنة على يد شرطي. هنا يطرح الساسة والمحللون في فرنسا لماذا ما يحدث ما هو عكس ما خُطط له رغم الاستثمارات والنفقات الهائلة؟

مساس بالهوية  

وردًا على هذا التساؤل، يرى أكاديميون أن ثمة اليوم مشكلة لا تتعلق لا بالفقر ولا بالبطالة، بل تتمثل في الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي الفرنسي الذي بات أكثر استهدافًا للمسلمين والمساس بالمشاعر الدينية للمهاجرين والفرنسيين من أصول مهاجرة، إذ بات غلق المساجد باسم التحريض على العنف والكراهية والتشدد، وحظر الجمعيات الدينية بدافع مكافحة الفكر الإرهابي،  ومنع البوركيني الذي ترتديه المسلمات في المسابح، وإثارة نقاشات وحوارات تمس  بطقوس المسلمين ومعتقداتهم بشكل عنيف وإقصائي، هو ما يُفسر بحسب خبراء ردة فعل العنيفة لهؤلاء الشباب خلال أعمال الشعب التي  أعقبت مقتل الشاب نائل.

شباب الضواحي وملفي الهجرة والدين الإسلامي ستغذي جميعها مسرح الصراعات والتجاذبات السياسية والأيديولوجية

عمومًا، إن صعود الاسلاموفيا والعنف اللفظي وديماغوجية الخطاب الرسمي والثقافي الفرنسي المعادي للمهاجرين وأبناء الضواحي يطرح أسئلة كثيرة، تتعلق أولًا بالحسابات السياسية والانتخابية، وخلق أجواء استقطاب سياسي يحدد مصير ومستقبل مشروع الجمهورية السادسة، والأكيد أن شباب الضواحي وملفي الهجرة والدين الإسلامي ستغذي جميعها مسرح الصراعات والتجاذبات السياسية والأيديولوجية.