لطالما طرحت الأوساط الأكاديمية في الجزائر مسألة علاقة الجامعة بالسياسة، وكان هذا الطرح محل جدل واسع بين من يدعون إلى فصل الجامعة عن التسييس وإبقائها في دائرة البحث العلمي، وبين من يعتبرونها فضاءً حرًا لتكوين الوعي السياسي ومشاركتها في صناعة الرأي العام السياسي.
أستاذ في القانون الدستوري: توجيه الجامعات إلى تخصيص بحوث أكاديمية لخطابات الرئيس وقراراته ومختلف المواعيد السياسية الكبرى طريقة غير مجدية وتُسيء أكثر ما تنفع
وبالعودة إلى وجهات النظر المطروحة في الشأن الأكاديمي، هناك ثلاثة أشكال تُبرز جدلية العلاقة بين الجامعة والسياسة؛ فطرف يرفض المشاركة نهائيًا للجامعة في هذا المجال، وآخر يصر ّعلى أن تكون المشاركة كاملة بينهما، بينما يرى طرف ثالث بأن المشاركة مقبولة ولكن وفق شروط محدَّدة.
بين كل هذه الآراء تتداخل بعض النشاطات الأكاديمية والسياسية داخل أسوار الجامعة في مساحات لا يمكن فصلها عن بعضها، تتجسد ملامحها في نشاط عدة منظمات طلابية مدعومة من طرف بعض الأحزاب السياسية حسب ما هو متعارف عليه في الوسط الجامعي، أو من خلال بعض تخصصات التعليم العالي، المرتبطة بالعلوم السياسية والنشاط السياسي في البلاد.
يشار هنا، إلى مشاركة عدة منظمات طلابية محسوبة على بعض الأحزاب السياسية، في التعبئة الانتخابية في الوسط الجامعي وممارسة الضغط على إدارة المؤسسة الجامعية، وحضورها ومتابعتها الندوات والتجمعات الحزبية في البلاد في سنوات سابقة.
ومنذ زمن طويل، عُرف أيضًا أن تعيين عمداء الجامعات الجزائرية، كان يتم أيضًا بناءً على انتماءاتهم السياسية والحزبية، حيث كان أغلب المعيين على رأس الجامعات معروفون بانتمائهم لأكبر الأحزاب الموالية للسلطة، ودأبت العادة في تعيين عمداء الجامعة على هذا النحو على مدار عقود في البلاد.
رغم تخوّف كثيرين من إقحام الجامعة في الصراعات السياسية أو اهتمامها بالسياسة على حساب العمل الأكاديمي، فإن انخراط الجامعة في الفعل السياسي أو اهتمامها بالشأن السياسي أمر "غير معيب"، مثلما يقول الأستاذ في علم الاجتماع السياسي نور الدين زايدة، بل يجعلها على ارتباط دائم بالوضع السياسي.
أما بخصوص الشكل الثاني، الذي يتمثل في انفصال أو انعدام العلاقة بين الجامعة والعمل السياسي، حيث لا تتدخل التنظيمات السياسية في شؤون الجامعة، تظهر سلبية هذا الشكل بحسب مُحدِّث "الترا جزائر"، في حرمان العمل السياسي المنظم في المجتمع من مشاركة أهم القيادات الفكرية بالجامعة، وأكثر العناصر فعالية ونشاطًا وتأثيرًا في هذا العمل، وهم طلاب الجامعة، على حدّ قوله.
في هذا السياق، يدافع رأي ثالث عما أطلق عليه المتحدث بـ "الحياد الإيجابي تجاه العمل السياسي، ويقصد به أن تدرّس الجامعة مبادئ الأحزاب وتناقش برامجها بعيدًا عن نشاطاتها العلمية ومنع انخراط هيئة التدريس في هذه الأحزاب أو المشاركة في تنظيماتها".
وفي الأخير يقترح نور الدين زايدة، أن تؤدي النخب الجامعية دورها في تحسين مشروع التنمية في المجتمع، ولا يمكنها أن تكون في منأىً عما يحصل، بل أحيانًا تكون هي الفاعل في تحفيز الجامعيين في المشاركة في تطوير ونهوض مؤسسات الدولة.
مكاسب سياسية
من جهتهم، يعتقد متابعون، أن تخندق بعض الكوادر تحت مسمى "النخب والشخصيات والكفاءات الوطنية"، هو ما دفع عشرات الكوادر الجزائرية إلى السير وراء "وهم تحقيق المكاسب السياسية والمناصب"، مثلما أشار إلى ذلك أستاذ القانون الدستوري فريد مسعودان، معتبرًا أن "الممارسة السياسية أو محاولة إقحام الجامعة وراء شعارات الندوات العلمية تحت مسمى "رعاية الرئاسة، هو ما جعل الكليات تُقحم دومًا مع الأطروحات السياسية ولا تفلت من العقاب إن هي لم تفعل".
وأضاف قائلًا: "عندما يتعلق الأمر بالمجال السياسي، لا يمكن للجامعة أن ترافع عن أطروحات مخالفة للرأي السائد، أو البوح بأكثر من رأي، سواءً في السر والعلن".
ويتفق كثيرون مع هذا الرأي، إذ ظلت الفكرة السائدة في العقدين الأخيرين تتصل دومًا بضرورة الانسياق وراء الطرح العام أو عدم الخوض في تقييم التسيير ومخططات السلطة إلا من جانب واحد، خصوصًا في المواعيد السياسية الكبرى.
وقال فريد مسعودان في إفادته لـ "الترا جزائر" أن هناك استياءً شعبيًا وسياسيًا أيضًا من مختلف الخطابات التي انتهجتها النخبة والمسؤولين في الجزائر، التي يمكن تنزيلها فيما يسمى بـ "التملق السياسي"، وهو ما جعل الرئاسة الجزائرية تتدخل لإلغاء "سياسة الكادر"، أي ذلك الإطار الخشبي الذي يحمل صورة الرئيس والذي كان في وقت سابق "علامة للولاء"، وما خلفه من تبديد للثقة في الأوساط الشعبية وزرع التوجس في التجمعات.
ويعلق المتحدث، أن "توجه العديد من الجامعات الجزائرية إلى تخصيص بحوث أكاديمية لخطابات الرئيس وقراراته ومختلف المواعيد السياسية الكبرى، طريقة غير مجدية وتُسيء أكثر ما تنفع".
منطلقات عميقة
ما يحدث اليوم في الجامعة في علاقة بالسياسة، له منطلقات تاريخية، وجب التعريج عليها، بحسب مطلعين على شؤون الجامعة، وفي هذا الشأن يقول الباحث في السلطة والمجتمع عبد الله بودراس، إنه منذ الاستقلال وضعت الدولة الوطنية الجامعة على رأس انشغالاتها الأساسية على مستويين: يتعلق الأول بتكوين الكوادر والقيادات أو رجال الدولة التي تساعد على تسيير أمور البلد وإدارة الشأن العام والمؤسسات التي تم تأسيسها لاحقًا فيما بعد مرحلة الاستعمار.
أما المستوى الثاني، حسبه، يتعلق أساسًا بتكوين الإطارات السياسية والقيادات الشابة، ولذلك أصبحت الجامعة منذ الاستقلال حاضنة سياسية لتكريس خطاب السلطة ونشر أفكار الخطاب الرسمي الدولة، وهو ما دفعها لأن تقوم بـ "مركزة النشاط الطلابي ومراقبته، وحصره في تنظيم طلابي واحد الذي تمحور حول مسمّى الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين، الذي كان بدوره يتبع مباشرة الحزب الواحد جبهة التحرير الوطني".
وكمسألة أولى، كانت السلطة السياسية في الجزائر تنطلق من تعاطيها السياسي مع الجامعة كونها المحضن الأساسي للنُّخب، يضيف الأستاذ بودراس لـ "الترا جزائر" كما كانت ترصد تأثيرات الحركة الطلابية ودورها في بعض الدول، حيث كان الطلبة هم من يحركون المظاهرات والاحتجاجات الاجتماعية وحتى السياسية منها.
هذا لا يختلف كثيرًا، حسب بودراس، عن بعض النماذج في عديد الدول، إذ يَعتبر الطلبة الجامعيين "القوة الطلائعية والنّخب التي يتوجب تأطيرها ومنعها من الانفلات خارج إطار السلطة"، وهي الصورة نفسها التي تنعكس سواء على الطلبة والأساتذة أي الكوادر الجامعية عمومًا.
أما المسألة الثانية، حسبه، فإن "الجامعة تعتبر الفضاء الطبيعي للأفكار والخطاب السياسي، وسرعة انتقال الأفكار خاصة منها المتمردة، ما جعلها تحت أعين السلطة".
رغم احتراز السلطة إلا أن الجامعة الجزائرية لم تشذ عن باقي الجامعات في العالم من حيث تصادم الأفكار والتيارات، حيث ظهرت إضافة إلى التيار الوطني الموالي للسلطة ثلاثة تيارات سياسية فاعلة في الجامعة التي ستتشكل لاحقًا في المشهد السياسي، وهي التيار اليساري من خلال الطلبة الذي يتبعون حزب الطليعة الاشتراكية، الذي كان يستفيد نسيبًا من السلطة، بسبب تبنيه لفكرة "المشاركة النقدية" وهو شعار مفاده دعم خيار السلطة الاشتراكي ولكن بشكل نقدي، والتيار الإسلامي الذي بدأ يبرز منذ منتصف السبعينيات، وصولا لأحداث الجامعة المركزية عام 1982، والتيار البربري التابع للحركة الأمازيغية.
ومنذ بداية الثمانيات بدى أن هناك انفلاتًا للجامعة من قبضة السلطة، بدليل الصدامات السياسية والميدانية بين التيارات الثلاثة في الجامعة، وهذا ما يوضح الأحداث التي شهدتها الجامعة وشدة الصراع السياسي في الجامعة بعد أحداث 5 تشرين الأول/أكتوبر 1988، حيث ظهرت تعددية الحركة الطلابية وبرز سيطرة واضحة للإسلاميين على مناخات الجامعة، وانعكست كل الصراعات السياسية الحاصلة في الجزائر على الجامعة، كما برزت الحركة المطالبة بالتعريب التي قادها طلبة التيار الإسلامي.
في هذه المرحلة تم تسيير الصراع في الجامعة بالحدّ الأدنى، لكن السلطة نجحت في المرحلة اللاحقة في احتواء الحركة الطلابية واستعادة الجامعة، والفصل التدريجي للجامعة عن المشهد السياسي، وإبعاد الجامعة عن الأحزاب، ونجحت في تمييع الحركة الطلابية عبر تجفيف منابع مصادر القوة لديها، وتمييع الساحة الطلابية بعدد كبير من التنظيمات الطلابية تجاوز عدد الـ 30 تنظيمًا بل وأكثر من ذلك في مشهد سنة 2023.
لذلك، يمكن ملاحظة أن تعاطي السلطة مع الجامعة كان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقوة النظام السياسي والظروف العامة للدولة، فحين كان فيها النظام قويًا في الستينيات إلى غاية الثمانينيات، كانت السلطة لديها القدرة الكاملة للسيطرة على الجامعة، ومنذ منتصف الثمانينيات ومع بداية الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية، حدث تراخٍ في تعاطي السلطة مع الجامعة، وفي مرحلة الأزمة الأمنية في بداية التسعينيات، كانت الدولة في لحظة ارتباك سياسي، وهذا ما جعل الجامعة تنفلت بشكل كامل من يدها.
تموقع سياسي
لكن عادت الجامعة أدراجها نحو التموقع السياسي، ولكن برأس واحدة رغم تعدد النوافذ على حدّ تعبير أستاذة العلوم السياسية كريمة بوناب من جامعة الجزائر، معترفة أن "الجامعة لم تكن حرة في فترة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وهو ما جعل منها وسيلة لترويج العديد من الأطروحات الداعمة للسلطة آنذاك جملة وتفصيلًا، رغم وجود ثغرات للنخبة والفكر الحر، وهو ما لاحظناه فترة الحراك الشعبي".
وأكدت الباحثة بوناب، أنه لا يمكن أن نرى تقدم أي بلد دون تحرير الجامعة، في النهاية من هو الخاسر؟ تتساءل محدثة "الترا جزائر" وتجيب في الآن نفسه: "الخاسر الأكبر هو الجامعة والباحثين والفكر عمومًا، فقوة الطرح والتباري بالفكرة والحجة يجعل من الوسط الجامعي محضنة للرقي والتنمية".
وواصلت قائلة في الفترة الحالية استرجعت الدولة قوتها، حيث نرى أن "الجامعة بدت ظاهريًا تسيطر عليها الدولة.. الحركات الطلابية والنخب الجامعية مؤيدة للخطاب السياسي".
الجامعة والسياسة
حتى نكون عادلين في القسمة، نالت الجامعة الجزائرية نصيبها الأكبر في تصدير " الرعاية السامية لفخامة رئيس الجمهورية" خلال العقدين الأخيرين، لجميع معظم المؤتمرات والملتقيات والندوات، إذ لا يمكن أن تنظم في الفضاء الجامعي عبر كليات الجزائر إلا إذا كانت "تحت الرعاية السامية لفخامة الرئيس" الذي يشرف على كل كبيرة وصغيرة في تلك الفعاليات الأكاديمية، ما جعلها تخلق نوعًا من الازدراء داخل الحرم الجامعي.
وعلى هذا الأساس، فإن الجامعة لا يمكنها أن تخرج من نطاقه وقضاياه المختلفة، لهذا أصبحت فضاءً لمختلف القوى والتيارات، وهناك من يرى أن الجامعة لا يمكن فصلها عن السياسة مهما كان، باعتبارها محضنة للنخبة والأفكار ولها مواقف "حساسة" تجاه كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بحسب فاعلين في الساحة الأكاديمية، إذ تشكل المجال الخصب الذي تنمو فيه "بذور التشاركية والديمقراطية والعمل الجماعي والعديد من القيم التي يتشبع بها الطالب الجامعي خاصة من القيم السياسية".
وبناء على ما سبق، يطرح الأستاذ كريم مولاي من جامعة قسنطينة رؤية أخرى في علاقة الجامعة والسياسة، بأن هناك أوجه لتلك العلاقة بين الجامعيين عمومًا والشأن السياسي، مشددًا على أنه لا يمكن الفصل بينهما؛ بل لا يمكن استبعاد الجامعة عن الاهتمام بالأحداث، كما أردف في حديث لـ "الترا جزائر" أنه لا يمكن أن تقحم الجامعة في الصراعات السياسية أو أن تكون جهاز مساندة لمرشح ما في الاستحقاقات الانتخابية".
الأكاديمي كريم مولاي: الجامعة تساهم في تشكيل الثقافة السياسية وتعزيز وتنمية المشاركة السياسية للطالب
واعتبر أن الجامعة تساهم في تشكيل الثقافة السياسية وتعزيز وتنمية المشاركة السياسية للطالب، كما تراعي الجامعة أثناء قيامها بدور التنمية السياسية وإعداد النخب للعمل السياسي، وطبيعة التغيرات والتصورات والإصلاحات التي تطرأ عليها كمؤسسة فاعلة، على حدّ قوله.