على مرتفعات حي المدنية، وبجانب سكنات حي ديار المحصول الشعبي، ينتصب النصب التذكاري مقام الشهيد وحيدًا يَطلّ على خليج الجزائر العاصمة، وفي الجزء الخلفي يقع منبى رياض الفتح، وهو مجمع ذو طابع تجاري وثقافي، ولكنه كان يبدو بطوابقه الثلاثة خاويًا من الزوار.
صاحب مكتبة النهضة شدّد على دعم المكتبات لأنها في رأيه الواجهة الثقافية التي صمدت أمام تصحر الفعل الثقافي في رياض الفتح
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحًا، فمحلات بيع الألبسة والحلي والمجوهرات التقليدية مغلقة، وقاعات السينما لا تشهر أي عروض لأفلام سينمائية، والواجهة الزجاجية لــ "رواق أسمى" يعلوها الغبار، وفي الطابق الأعلى تستقبل الكافيتريات بعض المراهقين غالبًا من الذين يُفتشون عن أماكن بعيدة عن الأنظار، وفي الطابق السفلي للمبنى تقع مكتبة النهضة، التي تبدو مهجورة منذ زمن، وعلى بعد أمتار منها توجد مكتبة الشبيبة، التي تتزين واجهتها بكتب الأطفال الملونة.
معلم ثقافي يحتضر
فتحت مكتبتا النهضة والشبيبة أبوابهما سنة 1985-1986، لتعكس الواجهة الثقافية للمجمع التجاري رياض الفتح، رفقة أروقة عرض اللوحات، وقاعات السينما وساحات الفنية، كانت المكتبتان تَعدان من الواجهات الثقافية العاصمية، تستقبل كافة الأقلام والقراء والزوار، وتلاميذ المدراس وطلاب الجامعات، ولكن يبدو أن الوضع بدأ يتدهور ويتراجع لتعيش مكتبة النهضة والشبيبة وضعًا إكلينيكيًا في الفترة الأخيرة.
مَصطفى بن مجذوب، مدير ومسير المكتبتين، وهو رجل في السبعينات من العمر، تبدوا ملامحه مَهزُومة ومتعبة، ولكنه مازال متماسكًا مع ما تبقى له من عزيمة من أجل إنقاذ المكتبتين، ومتعلق بأمل يكمن في الاستجابة إلى نداء الاستغاثة والمساعدة الذي أطلقه.
يقول بن مجذوب في حديث إلى " التر جزائر" إن ممارسة مهنة المكتبي باتت من أفعال المقاومة. فمنذ 34 سنة يمارس بن مجذوب مهنة المكتبي وهو ناشر، زيادة على أنه كاتب وروائي.
بكثير من حديث نوستالجي، يسترجع المكتبي بن مجذوب الأيام الذهبية لنشاطات المكتبة منذ افتتاح مركز رياض الفتح، ويستحضر جلسات وحفلات توقيع الكتب، التي كانت تستقطب أسماء أدبية كبيرة، ومجاهدين ومجاهدات احتفوا بإصدارتهم في المكان.
يقول إن الحضور كان مميزًا واحتفائيًا، إذ كانوا يأتون من كل الفئات والأعمار، على غرار بوعلام صنصال، أمين الزاوي، ليلة عسلاوي، محفوظ قداش، أحمد سري والقائمة طويلة، لكن ولأسف كل الأشياء الجميلة اختفت، على حدّ تعبيره.
نداء استغاثة
متاعب مصطف بن مجدوب، بدأت تتضاعف وتزداد خلال وبعد أزمة (كوفيد - 19)، إذ يشير أنه رغم تراجع المقروئية، وتدهور وتقهقر نشاط رياض الفتح "غير أننا استمرينا في الوجود والمقاومة، وتحريك النشاط الثقافي قدر المستطاع".
بادر بن مجدوب بتنظيم مقهى أدبي أسبوعي في قاعة فرانس فانون، تجذب إليها عشاق الكتاب والقراءة، لكن صُدم وهَزهُ موقف الإدارة السابقة، التي طالبت منه إيقاف النشاط الثقافي دون مبرر أو توضيح. لم يستسلم بن مجدوب من التصحر الثقافي والكتابي، فحاول استغلال المساحات الفارغة لتنظيم معارض للكتاب، لعلها تعيد الروح إلى الجسد الميت، غير أن الطلب واقتراحه قُوبل بالرفض أيضًا.
يُشار أن رفض الإدارة استغلال مساحة للكتاب، لم يمنع من انتشار باعة الألعاب الأطفال أو المأكولات بشكل فوضوي في المكان نفسه.فالغلق والحجر الصحي لمدة عامين زاد من الضائقة المالية لعائلة بن مجدوب، حيث دفعته الظروف المادية إلى تسريح خمسة من عمال المكتبتين، لتبقى إدارتهما قائمة على شخصه رفقة أحد أبنائه.
يقول إن تراكم ديون الكراء، التي وصلت 140 مليون سنتيم جزائري، هو عاجز وغير قادر على تسديدها، وأن الإدارة لا ترغب في تفهم القضية، كما راسلته عبر محضر قضائي لدفع مستحقات الكراء، بالرغم من أن نشاط المكتبتين كانت شبه متوقف، ونشاط المركز الترفيهي كان مشلولًا بسبب الأزمة الصحية، حسب المتحدث.
وأفاد محدثنا أنه راسل الوزارة الوصاية المتمثلة في وزارة الثقافة، قصد النظر في طلب إعفائه من تكاليف الكراء، ووضعية المالية الصعبة التي يعرفها، مردفًا أنه لا يطالب بإعانة مالية أو أيّة مساعدة مادية، بل إعادة النظر في فاتورة الكراء والتكلفة المالية للكراء.
ويشدد محدثنا على ضرورة دعم المكتبات لأنها الواجهة الثقافية التي صمدت أمام تصحر الفعل الثقافي في رياض الفتح.
نداء إلى رئيس الجمهورية
من جهته، وأمام عدم وجود أي رد فعل من طرف وزارة الثقافة، كشف بن مجدوب أن أمله الوحيد هو التفاتة من رئيس الجمهورية، إذ بادر بإرسال رسالة إلى مصالح الرئاسة الجمهورية، موضحًا فيها تفاصيل الوضعية المالية التي تعيشها مكتبته.
وشدد محدثنا أن الأمر لا يتعلق بقضية شخصية، بقدر ما هي قضية مجتمعية تتعلق بالمحافظة على مساحات القراءة والكتاب.
في السياق، يطالب بن مجذوب تطبيق الفعلي وتفعيل القرار الوزاري الذي ينص على ضرورة اقتناء المؤسسات الحكومية سواء التربوية أوالجامعية ومختلف الهيئات العمومية الكتب من المكتبات الجوارية، وهذا قصد انقاذها من الإفلاس المالي، وبث متنفس مالي يسمح لها باستمرار في البقاء.
تحتوي مكتبة النهضة على عناوين كثيرة على علاقة بالثورة التحريرية ونضال الحركة الوطنية
كتب مفقودة متوفرة
تتميّز مكتبة النهضة هي كثرة عناوين التي تتضمن تاريخ الثورة التحريرية، ونضال الحركة الوطنية وبعض العناوين التاريخية المفقودة، إذ ما تزال المكتبة تتوفر عليها. ويَقف مصطفى بن مجدوب متمسكًا ببصيص أمل، في إيصال ندائه إلى السلطات العليا وإلى كل محبي القراءة وعشاق الكتاب، قصد إيجاد مخرج يحافظ على واحدة من الواجهات الثقافية التي باتت تختفي الواحدة تلو الأخرى.