06-يوليو-2019

(لوحة أربعة عيون/ نورا شبلي)

هناك كُتب نقرأها لأنّها تُشعرنا بأنّها كُتبت لأجلنا، من هنا تتحوّل القراءة إلى ضرب من معايشة تجربة الكاتب (شلاير ماخر ودلتاي). لا نقرأ لنفهم مقاصد الكُتب، بل نقرأ أيضًا لأننا بحاجة إلى فهم ذواتنا؛ فالأعمال الأدبية العظيمة كُتبت لأجلنا حتى لو فصلتنا عنها العصور أو الجغرافيات.

كتب صاحب رواية "اللامرئي" عن تجربة موت والده، فتحوّلت فكرة الموت إلى مُحرّك للكتابة عن تاريخ عائلته

 هناك أسباب كثيرة جعلتني أقرأ كتاب "اختراع العزلة" للروائي الأميركي بول أستر الصادر عن منشورات المتوسّط، ومنها تجربة موت الوالد – رحمه الله – والتي دفعتني إلى كتابة روايتي "عزلة الأشياء الضائعة"، فاختراع العزلة هو أيضًا نصٌ كُتب انطلاقًا من تجربة وفاة والد أوستر، وإن كان هذا الأخير لم يبد أيّ تعاطف من التجربة، فقط أنّها دفعته للكتابة عن التاريخ السرّي لعائلة أوستر، وعبرها انفتحت ذاكرته على وقائع من طفولته ومراهقته وعلاقته المتوترة بوالده.

اقرأ/ي أيضًا: النصّ المقّدس والمتخيّل الاجتماعي عند محمد أركون

أما السبب الآخر؛ فهو أني، على غرار كتاب أستر، كتبتُ عن العزلة بعد أن دفعتني تجربة وفاة الوالد إلى الانعزال بفعل ألم الفراق. كانت تجربة قاسية، لكنها فتحت أمامي تلك المسالك داخل غابة الرواية بعد أن تأجّلت كلّ مشاريعي الروائية. هل كنتُ بحاجة إلى الموت لأكتب رواية؟ لقد اكتشفت أنه ثمّة علاقة شديدة بين الكتابة والفقدان والعزلة، وقد وجدتُ أنّها كانت حاضرة في كتاب أوستر.

كتب صاحب رواية "اللامرئي" عن تجربة موت والده، فتحوّلت فكرة الموت إلى مُحرّك للكتابة عن تاريخ عائلته، عن الأصول، مُدركًا بحدسه الروائي أن الكتابة عن الأصول عملية محفوفة بالمخاطر، وأنها عملية مُكلفة جدًا.

في معنى الذاكرة

كتب أستر: "الذاكرة طريقة أن يعيش المرء حياته، بحيث لا يضيع منها شيء" (ص199) هل هذا ممكن؟ أقصد استعادة الماضي بحيث لا نترك أيّ شيء يضيع منّا؟ فبدل سؤال: ما الذي نتذكّره؟ هناك سؤال جوهري هو: ما الذي ننساه؟ أن نكتب عن الذاكرة يعني هو محاولة استعادة المنسيّ الذي طمرته الأيّام تحت أتربة الزمن البعيد، ذلك المُهمل والمهمّش والمطرود من الذاكرة نفسها، فنحن لا نتذكّر إلاّ ما ترغبه الذات، وإن كان هناك من يستبعد في الذاكرة الرغبة والإرادة، بحكم أنّ التذكّرَ آلية لا شعورية، كثيرًا ما تفتح المنافذ السرّية للذكريات الخفية، والأعمق المخفيّة في دهاليز النفس.

 أليس المُهمل في الذاكرة هو ما يشكّل جوهرها الصامت، أيّ ذلك الخطر الذي يتهدّدنا باستمرار فنعمل، لاشعوريًا، على طرده بعيدًا عن مساحة التذكّر. ما لا نتذكّره، قد يبدو للوهلة الأولى أنه ما لا يُمكن استعادته تمامًا. فهل هناك فعلًا ذاكرة منسية بالمطلق؟

الأصل والجريمة الأولى

كتب أوستر عن تاريخ عائلته، ففي كل عائلة سرديتها التأسيسية، أو روايتها الأسرية بتعبير سيغموند فرويد. لكن أوستر هنا لم ينحَ منحى تلك الكتابة التي تتكئ على ضرب من الحنين إلى البدايات، بقدر ما وجدته شخصيًا يعمل على تدمير هذه السردية الأسرية، من خلال التعرّض إلى جريمة جدّته من والده التي قتلت زوجها بطلق ناري. كأنّ الأصول هي دائمًا استعادة لجريمة أصلية، تحاول الذاكرة السردية طمسها بأيّ شكل من الأشكال، لأنّها قد تشكّل إرباكًا للأجيال التي ستأتي.

لقد تحلّى أوستر بالشجاعة الكافية لكي يروي تلك القصّة، وقد بدت أنّها، وهو ينبش في أرشيف الجرائد المحليّة القديمة أنها لم تكن حدثًا أسريًا بالغ الخطورة، فقد قرأ عن الحادثة كما يقرأ أخبارًا عن جرائم وقعت في بلدة أخرى ارتكبها أناس لا يعرفهم. إنه يكتب بذلك الحياد المشوب بالحذر، لأنّه من حين إلى حين كانت اللغة تنفلت منه، فنشهد صعودًا للمشاعر والانفعالات التي صاغها في شكل دهشة أو استغراب.

هنا فهم أوستر، أنّ الذاكرة ليست شأنًا فرديًا وذاتيًا، فنحن إذا تذكرنا نجد أنفسنا منغمسين في ماضي الآخرين. الذاكرة هي شبكة معقّدة من الذاكرات المشتركة، فنحن نتذكّر كل هؤلاء الذين عبروا حياتنا فخلّفوا من ورائهم أثرًا ما.

هل بقي الآن من معنى لمصطلح السيرة الذاتية؟ فأين تبدأ الذاتية في السيرة؟ وأين تنتهي؟ إن السيرة هي سيرة الآخرين أيضًا. في هذه الفقرة ما يشبه بيانًا عميقًا لعلاقة التذكّر بإمحاء الذات أكثر ممّا هي استعادة لها بمفردها: "يُدرك  (أ) وهو جالس في حجرته يكتب كتاب الذاكرة، أنّه يتكلّم إلى نفسه كشخص آخر، لكي يروي قصّته، عليه أن يُغيّب نفسه" ( ص220).

تتأسّس كتابة الذاكرة على مفهوم "الآخرية"، وهي تتأسّس كذلك على فعل التغييب، أي تغييب الذات تحديدًا. الذاكرة هي عملية إزاحة للذات، عن مركزها، لتغدو ذلك الآخر الذي يقف من الجهة الأخرى من المرآة.

العزلة هويّة الكتابة

يقول أوستر: "كل كتاب هو صورة عن العزلة" (ص195)، ما يجعل هذه الجملة مفتاحية هو أنّ الكتاب ككل يتحدّث عن العزلة؛ ليست عزلة أوستر فحسب، بل هي عزلة فان كوخ، عزلة يونس في جوف الحوت، عزلة بينوكيو، عزلة شهرزاد، وعزلة والده الذي كان يكره العالم وظل متقشفًا في علاقاته.

لما كتبت روايتي "عزلة الأشياء الضائعة"، اكتشفتُ حاجتي إلى العزلة مدفوعًا بتجربة الموت المفاجئ لأبي. كنتُ أبحث عن طريقة لأكون غير مرئي، مثل الرجل الخفيّ الذي لا يراه أحد، لكنه في الوقت نفسه يستطيع أن يرى الجميع. تحوّلت الكتابة إلى طاقية إخفاء.

داخل عزلتي اختفت الأبعاد الهندسية والزمنية وتحولتُ داخليًا إلى كائن فصامي من خلال تجربة بطل روايتي زاهر أدهم، وتحوّلت الأحداث إلى ضرب من التهويم النفسي الذي بلغ مستويات من الغرائبية. تفرض العزلة على الكتابة أن تكون غير مبالية بالقوانين، لأنها تسير بمحاذاة الواقع دون أن تلتفت إليه على نحو جاد، فما يبدو جوهريًا هو العزلة ذاتها.

ليس غريبًا أن كتاب أوستر كان عن العزلة أيضا؛ عزلة والده الذي لم يكن اجتماعيًا، وعزلة شخصيات تاريخية صارت جزءًا من سيرة العزلة، ثم عزلة الروائي الذي تحوّلت العزلة إلى المكان الوحيد الذي باستطاعته أن يمارس فيه الكتابة.

مارس بول أوستر تجريبًا شكليًا لروايته "اختراع العزلة" من خلال توزيع كتابه إلى جزئين منفصلين

"اختراع العزلة " كتاب يُقرأ أكثر من مرّة، لأنّه كتاب متميّز حتى في شكله؛ إذ مارس أوستر تجريبًا شكليًا من خلال توزيع كتابه على كتابين منفصلين، وسأكون صريحًا بأن الكتاب الثاني كان أكثر إمتاعًا بسبب أنّه نحا منحىً تأمليًا، وفتح النصّ على نصوص أخرى: رواية بينوكيو، الكتاب المقدّس، ألف ليلة وليلة، الإخوة كرامازوف، نصوص سيغموند فرويد... إلخ.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

سِيُوران.. أو الكِتابة ضد الثرثرة

إدوارد سعيد ومواجهة المؤسّسة الاستشراقية