28-فبراير-2024
 (الصورة: Getty) مدينة تيمقاد بولاية باتنة

(الصورة: Getty) مدينة تيمقاد بولاية باتنة

لا تزال تيمڤاد المدينة الأثرية، الواقعة بين سفوح جبال الأوراس بولاية باتنة، شرق الجزائر، تبهر زوارها الأجانب خاصة الإيطاليين، وهم أكثر السياح ترددًا عليها قبل الأميركيين والفرنسيين، ذلك أنهم يعتبرونها مدينة أكثر اكتمالًا من نظيراتها في بومباي وهيراكلينوس الواقعتين جنوب إيطاليا، وثاني الفضاءات الرومانية اتساعًا بعد روما القديمة، هذا رغم مضي أكثر من ألفي عام من تشييدها من قبل الإمبراطور تاراجان في العام 100 ميلادية، هدية لشقيقته المحبوبة مارشيانا.

بيوت الرومان القديمة جميلة بهندسة مرتبة وذات حدائق للغرائس والورود، وبها آبار كثيرة لا يزال أحدها صالحًا للاستعمال رغم مضي ألفي سنة من تشييده

مصباح النبي إبراهيم

تيمڨاد، أو ثاموقادي (أرض الرخاء) التي يراها الناس اليوم، لم تكن كذلك قبل قرنين من الزمن، لقد كانت مطمورة تحت الأتربة، قبل أن يلتفت إليها القنصل البريطاني لدى الجزائر جايمس بريس خلال زيارة للمنطقة العام 1765، وقتها لم يكن يبرز منها غير الجزء العلوي لقوس النصر، تاراجان.

بحلول العام 1880 انتهى العالم روني كانيا من التنقيبات عن النقيشات اللاتينية، فتلاه في تلك السنة المهندس إيدموند دوتوا في أعمال الحفر الفعلية، ثم استمر التنقيب على يد ثلة من الأثريين، أبرزهم بالي وبوسويلد وتوران، إلى غاية العام 1960، فوقفوا على مشهد عظيم لمدينة نهضت من رمادها، فما كان مجرد أتربة مترامية أصبح بعد 80 عامًا من العمل مدينة تعج بالزوار والسياح، لكن عليك أن تنتبه لأمر، فأنت لا تشاهد حقيقة الأمر غير ثلاثة أرباع منها، إذ لا يزال 25 % من المدينة نائمًا تحت الصخر والتراب.

سياح

وأنت تلج المدينة عبر بوابة الزوار، يصادفك متحفها الذي يحتوي 86 لوحة فسيفسائية، للآلهة المعروفين هرقل ونبتون و ساتورن، ورواقًا يعرض مواسير من الرصاص، و أغراضًا منزلية كالفوانيس. و حتما ستشدك رسمة ضربت في مصباح زيتي، إذ تُبرز الصورة ملاكًا يمد يده من السماء لرجل يتهيأ لذبح صبي، حاملًا سكينًا بيد مستقبلًا كبشًا بأخرى.

مصباح زيتي سيدنا ابراهيم

تسأل الدليل عبد الحميد بلوافي، التقني والمرشد الأثري بموقع تيمڨاد عنها، فيكشف سرها: "هذه الرسمة تجسد قصة سيدنا إبراهيم الخليل، جميع عناصر القصة القرآنية متجسدة فيها، عدا فقط هوية الذبيح، فاللوحة تشير إلى أنه إسحاق، وطبعًا ذلك راجع للمعتقدات الكاثوليكية السائدة في بداية القرن الخامس ميلادية، بعد أفول الوثنية، وواضح التأثر بمرويات الكتاب المقدس، سواءً العهد الجديد، الإنجيل، أو العهد القديم، التوراة، فاليهود، أيضًا، يسمون ذبيحة إبراهيم بفداء إسحاق".

طعام الموتى وضريبة المكّاس

خارج المتحف أشكال أسطوانية محفورة في الحجر تشبه الساعات الحائطية، فيعلق الدليل: "فعلًا هي ساعات لقياس الزمن، وقد استخدمت لمعرفة الوقت المثبت في الحجر عبر أرقام تبدأ من واحد إلى أثني عشر. انعكاس أشعة الشمس بزوايا على الأرقام يدلك على الوقت، عندما يقع مؤشر الظلّ على الرقم "سيكستا"، أي ستة، فهذا يعني منتصف النهار، ومن تلك اللفظة "سيكستا" اشتقت كلمة "سييستا" التي تعني القيلولة. أما ليلًا فكانوا يقيسون الزمن بالساعات الرملية المعروفة".

نذر أموات يحوي طعاما و سمكا  تيمثاد

ثمة أضرحة نذرية منصوبة وأمامها طاولة جسدت فيها أطعمة وأسماك وخبز، وقد تبدو تلك المنحوتات غريبة نوعًا ما، لكن السيد بلوافي يبدد ذلك ضاحكًا: "في الفترة الوثنية كان السكان يعتقدون بالحياة الأخرى، لذلك يدفنون الأطعمة مع موتاهم، أما ذلك العسكري الذي دفنه أهله مع سيفه ودرعه، فراجع لاعتقادهم بأنه سيفيق بعد أربعين ليلة ليواصل حياته الحربية في العالم الآخر".

طاولة كيل ضريبة الدخول و حق المكس تيمقاد

على قارعة الطريق مصطبة أخرى ذات دوائر مجوّفة، تدفعك للاعتقاد بأنها لتجميع الماء وسقاية الطيور، لكن مرافق "الترا جزائر" صحح مفندًا: "هذه طاولة الحساب، تحتوي على تجاويف تستعمل مكاييل لقياس كميات الخمور وزيت الزيتون قبل الدخول للمدينة. هناك رأيان، الأول يفيد بأن على كل قاصد للمدينة دفع ضريبة دخول وكان ذلك تقليدًا رومانيا معروفًا. والثاني يؤكد بأنها أدوات تكيل كمية الزيت والخمر والعسل والطحين، التي يدفعها التجار مقابل دخولهم السوق، أي حق المكس".

مراحيض عمومية ومعجون أسنان

صممت المدينة على شكل طاولة شطرنج تمتد على مساحة 84 هكتار بتعداد سكاني بلغ 15.000 نسمة في القرن الثالث ميلادية، فهي شديدة التنظيم حيث يبدأ الشارع شمال جنوب "الكاردو ماكسيموس" من بوابة سيرتا، ليتقاطع مع الشارع شرق غرب "ديكومانوس ماكسيموس" عند وسط المدينة المسمى الفوروم. لا تتوقّف البراعة الخارجية عن البراعة التحتية، حيث تنتشر مجاري المياه التي تصرف مياه الأمطار مما يجعل تلطخ نعال الزوار بالأوحال مستحيلًا.

مرحاض عمومي جماعي تيمقاد 1

وبلا ريب، سيشاهد المتجوّل بين أطلال "بومباي أفريقيا" كما تكنى، مقاعد حجرية تشتمل حفرًا في المنتصف، وهي منتشرة بكثرة، بعضها فردية، وأمّا الجماعية فقد استوقفنا محدثنا ليقول: "هذه مراحيض عمومية، لقد صُمّمت بشكل يمكن الناس الجلوس وقضاء حاجتهم واستعمال لباسهم كسواتر للعورات، أحصينا مرحاضين عموميين، الأول يحتوي 26 مقعدًا، والثاني 36 مقعدًا. وخلال جلسات الراحة تلك يمكنهم التداول في شؤون سياسية أو تجارية أو مالية".

مرحاض عمومي جماعي تيمقاد 1

لا تتوقف أعاجيب الرومان هنا، فقد برعوا في تنظيف المراحيض بأداة تسمى "التريزوريوم" الذي تشبه مكنسة تسريح المراحيض، أمّا الأغاريب فهي أنهم كانوا يهيئون أحواضًا لجمع البول. قد يشكل الأمر صدمة تدفع للتساؤل عن الغرض، لكن المرشد يقطع الشك باليقين: "كانوا يجمعون الأبوال ويستخرجون منها حامض الأمونياك لدبغ الجلود، كما أنهم يخلطون ذلك الحامض بنوع من الحجارة، لتستعمل في تنظيف الأسنان، كما لو أنها معجون أسنان". 

"الرومانية" للمياه والتطهير

قبل الولوج إلى الفوروم تنتصب المكتبة إلى اليسار، وهي وقف تقدم به أحد أعضاء المجلس البلدي، خلال القرن الثالث للميلاد، وقد أنشأها بهبة بلغت 400 ألف سيستارس، واحتوت 3000 كتاب، وهي ثانية المكتبات العمومية الأثرية في العالم بعد مكتبة أيفيسيوس التركية، وإليها يعزى الفضل في تصنيف المدينة تراثًا عالميًا لدى اليونسكو منذ العام 1982، كما يؤكد بلوافي.

مرحاض تيمقاد

بيوت الرومان القديمة جميلة بهندسة مرتبة، وذات حدائق للغرائس والورود، وبها آبار. لا يزال بئر أحد البيوت، صالحًا للاستعمال رغم مضي ألفي سنة من تشييده، وقد وقفنا عند حافته، وألقينا به حصاة ارتد بها صوت الماء. وقبل فترة قام شبان بنزع مغلاقه الحجري الصقيل والثقيل، وسقوا الماء بدلو، ما دفع السلطات إلى حمايته بالإغلاق.

وإلى ذلك يشير حميد بلوافي نحو بيت آخر، مضيفًا: "منازل تيمﭭاد تضم في أفنيتها "نُطفيَات" وهي أحواض ومستطيلات تبنى لتجميع مياه الأمطار، لادخارها واستعمالها وقت الحاجات اليومية، أخذا بعين الاعتبار المناخ القاري السائد فهو شبه جاف صيفًا حيث قلة الأمطار".

يبدو كما لو أن تيمڨاد لم تكن تعرف أزمة توزيع مياه، ففي الجهة الشرقية اكتشف 96 بئرًا خاصًا، كما دوّن الخبير الأثري، علي ﭭربابي المدير السابق للموقع الأثري تيمڤاد، مخططًا تتبع خلاله جميع مسارات المياه عبر الأقنية للوصول إلى منبعها الذي عثر عليه في منطقة موري المجاورة. وأما شبكة تصريف المياه المستعملة فيصفها المرشد بلوافي قائلًا:" إن شبكة الصرف الصحي تبلغ بعض قنواتها ارتفاعها بـ 1.5 متر، ما يسمح لعمال التطهير معالجة طوارئ الانسداد في راحة تامة حيث يمكنهم التجوال داخلها وقوفًا".

ألعاب البطَّال وسوق سرتيوس

كل صباح يجتمع الرومان، في ساحة الفوروم، وسط المدينة، فهي القلب النابض لها، وهي مكان مقدّس يضم مقر البلدية والمعبد والمحكمة،وتنصّب فيه تماثيل الأباطرة والآلهة، ولأنه مكان العامة فقد ارتأى أحدهم أن ينجز طاولة ألعاب، تشبه لعبة " الخرڤبة"، أو "الدامة"، وغير بعيد عنها نقيشة لاتينية كتب فيها "فيناري.لافاري.لوديري. ريديري. أوشيي فيفيري"، وبشأنها يقول دليلي المتقن للغة اللاتينية: "حاول كاتبها أن يلخص الحياة، فقال: "الصيد والاستحمام، اللعب والضحك، هذه هي الحياة، وهذه النقيشة ليست رسمية على ما يبدو، أي لم تكتبها السلطات، بل كتبها رجل بطال كما قيل".

طاولة البطال.الصيد و الحمام و اللعب و الضحك هذه هي الحياة (1)

لم يكن التبضّع في تلك الأزمان يشكّل أزمة على الإطلاق، فقد كان ثمة ثلاثة أسواق، واحدة جهة الشرق متخصّصة في اللحوم والأسماك، واثنتان جهة الغرب قرب قوس تارجان، أشهرها سوق سرتيوس للخضار والفواكه الممتد على مساحة تفوق 500 متر مربع. وكان سرتيوس قائدًا في الجيش الروماني الثالث المنتشر بمدينة لامبيز - تازولت- الواقعة على بعد 10 كلم شرق باتنة، ثم تقاعد في تيمڨاد لينخرط في البزنس والتجارة، فأسس سوقًا على شرف زوجته فلانتينا، لكن هذا العسكري الداهية الذي بنى تلك السوق من حر ماله سرعان ما مارس المساومة على البلدية مطالبًا بمقايضة، أفلح خلالها في الحصول على 2400 متر مربع في حدود تيمڨاد ليبني واحدة من أعظم الدور فخامة.

وإلى جوار سوقه تقع سوق أخرى متخصصة في القماش والكتان. وطبعًا قد تستثيرك لفظة سوق الأسماك فتسأل المرشد السياحي الذي يجيبك: "كانوا يربون الأسماك في المياه العذبة في أحواض مخصصة للمائيات غير بعيد عن نبع موري، تماما كما يربي البعض سمك الشبوط في سد تيمڤاد اليوم".

ساعة رومانية تيمثاد

نقيشة لكبير المهرجين

لم تكن شؤون الثقافة والفنون خافية على واحدة من أكبر الحضارات احتفاء بالدم والقوة والاحتلال، كما يصفها شاعرها الغاضب أوفيد، ولذلك فقد حظيت ثاموﭭادي، بمسرحها الكبير الذي بنّاه الامبراطور أنطونينوس التقي حفيد المؤسس تاراجان حوالي العام 168 ميلادية.

يتسع المسرح المبني في قلب هضبة دائرية لقرابة 4000 متفرج، كانوا يحضرون عروض المسرحيات الأسطورية ومهرجانات الغناء والضحك تماما كما يحصل اليوم في مهرجان تيمڨاد الدولي، ولأنه لم تكن في تلك الفترة تقنيات كبيرة في بث الصوت للمتفرجين، فقد ابتدع المهندسون طريقة سهلة تعتمد على رجع الصدى عبر المسارب و المزاريب الداخلية للمبنى، فعلى الخشبة حيث يقف المغني أو المتحدث فتحة معلمة، كما تتواجد فوهتان على يمين و يسار الكواليس.

تيمقاد

يوضح بشأنهما بلوافي قائلًا:" الفتحة المعلمة التي يقف عندها الفنان تسمح بتغلغل الصوت في التجاويف ليتردد رجع صداها في المسرح الدائري. أما فوهات الكواليس فتستعمل للتخابر بين معدي العروض بصوت واضح بينهما، دون أن يسمعها أحد، تفاديًا لإزعاج المتفرجين، وحذر التشويش على الممثلين والمهرجين.

سوق سرتيوس و تظهر طاولات التجار الحجرية

أسأله: "قلت مهرجين"؟ فيجزم مؤكدًا:" نعم اشتهر ممثل وبهلواني كبير اسمه فانسانتيوس، وقد دفن عند حدود المدينة، التي خلدت أثره بكتابة تشريفية على يمين منصة المسرح تؤرخ لذكرى وفاته الثالثة والعشرين".

كل صباح يجتمع الرومان، في ساحة الفوروم، وسط المدينة، فهي القلب النابض لها، وهي مكان مقدّس يضم مقر البلدية والمعبد والمحكمة

في طريق العودة من جولة دامت ثلاث ساعات، من استنطاق حجر لا يزال يكتنز أسرارًا أخرى، لفت نظري بيت غير متناسق مع التنظيم الشطرنجي الهائل الذي صنع مجد تيمڨاد ماضيًا وحاضرًا، فأدرك السيد بلوافي سر التوقف فرد في هزل لا يخلو من حقيقة: "ذلك المنزل الذي تعدى على جزء من الطريق يمكن اعتباره أول بناء فوضوي في تيمڤاد".