14-نوفمبر-2023
 (الصورة: Getty)

(الصورة: Getty)

هل الموهبة تكفي لتكون صحفيًا؟ وماهي المعايير التي يحتكم إليها الصحافيون وسط التدفق الهائل للمعلومات؟ وهل هناك من يعترف بأخطائه وسط هذا سيل جارف للمعلومات على وسائط التواصل الاجتماعي للأخبار في ظل غياب مؤسسات تحكمها مواثيق شرف وأخلاقيات المهنة؟

ربما تكون البداية المملوءة بالرغبة والشغف  هي ما يجرّ الصحافي إلى ارتكاب أخطاء تكلّفه الكثير

ربما تكون البداية المملوءة بالرغبة والشغف  هي ما يجرّ الصحافي إلى ارتكاب أخطاء تكلّفه الكثير، ولكن في طريقه أثناء ممارسته للمهنة لسنوات طويلة، يكتفي أحيانًا بالتذكر ولكن نادرًا ما يعترف بها ويعددها لجيل اليوم، لتبقى في خانة التجارب التي يكتشف من وراءها الصحفي زوايا مظلمة وسط الأحداث ويمكن تدريسها في الجامعات أيضًا.

يعدِّد الكاتب الصحفي العربي محمودي أخطاءه و"كثير سواها" لم يتسنّ له أن يذكرها في كتابه الجديد الموسوم بـ" ذاكرة الأخطاء" التي احتفت بنشره "دار الأمة" وتم عرضه في الطبعة الـ26 من المعرض الدولي للكتاب، ورصد خلال تجربة ميدانية فاقت ربع قرن من الزّمن في أروقة الصحافة على 14 خطأ يمكن أن تكون باكورة تعليمية وتكوينية وتدريبية للمهنيّين أوّلًا ولطلبة الإعلام في كليات الإعلام والاتصال ثانيًا، لما تلفّه من "صدقية الأحداث- الأخطاء" تلوى الآخر، وبلغة بسيطة وسلسة ووصف للأحداث التي لا يمكن تلافيها وعلقت في ذاكرة الصحفي الذي ترعرع بين جدران المؤسسات الإعلامية الجزائرية ثم العربية التي فسحت له المجال لأن يكون ناقدًا للذّات حينًا ومعترفًا بأن " الذي لا يعمل لا يُخطئ" أحيانًا كثيرة.

الانعطاف الخطير

لا يُمكن أن تقرأ صفحات كتاب "ذاكرة الأخطاء" دون أن تعثُر بين عناوينه الكبرى على نقاط تقارب بين الصحفيين، تكشف عنها بعض التفاصيل أثناء تأديتهم للمهنة، خاصة لجيل كثيرًا ما يوصف بـ"جيل الصحافة الخاصّة" أو "المستقلّة" والاستقلاليّة هنا نعني بها أنها مستقلة عن المال العام، والتي بزغ فجرها في تسعينيات القرن الماضي.

ولعلّ الشّيء الملفِت للنّظر في هذا المؤلف الجديد، أنّه أعاد إضاءة تفاصيل حدثت خلال سنوات سميت بـ"عهد الصحافة الذّهبية" والتي أعقبت تحرير قطاع الإعلام، إذ تركت لعشرات من الأقلام أن تُطوِّع القلم وتخرج من عباءة القطاع العمومي، ووجدت فُسحة معتبرة للتّعبير ومُمارسة الحرية في عدة قطاعات.

اختيار مهنة "صاحبة الجلالة" من بوابة الصحافة الرياضية، مجال تعلّق به محمودي في بداياته في تسعينيات القرن الماضي، غير أن عدد من كبار زملاء المهنة آنذاك عرضوا عليه بشكل النصيحة بأن يأخذ قلمه نحو الكتابة في قسم الصحافة الفنية، غير أن خيار " القلب" كان صوب الرياضة.

من وِجهة نظره عدم الأخذ بتلك النّصيحة أحد أكبر أخطاء الإعلامي محمودي، فهو أشبه بانعطاف خطير كلفه الكثير، لكن بالرغم من ذلك صنع من خلال التغطيات الرياضية أسلوبًا خاصًا في تغطيات الأخبار وفعالياتها والأحداث المتعلقة بشتّى فعالياتها، ويمكن أن يغوص الصحافي فيها باستعمال مختلف الأنواع الصحافية.

الخلاصة مما سبق، أن كثيرًا من الصحافيين في بداياتهم الأولى ينساقون وراء "وهم" البروز والظهور، وهي خاصية إنسانية تمنع عنهم رؤية الفرص التي يتيحها الميدان، سواءً من خلال قرارات تصقلها المهنة مع مرور التغطيات والعمل اليومي، أو يسمحوا لمرؤُوسيهم أن يخرجوا ما يخفى من قدرات كامنة لا يمكن أن يكتشفها الصحفي وحده، عندما يخطو خطواته الأولى في البدايات.

درس في الصحافة

من أصعب التّنازلات في الصحافة أن تتوخّى تقديم المساعدة لشخص، تستلذّ الخطوة في البداية، ثم تتحول تلك الخطوة البسيطة إلى عادة يصعب عليك الإقلاع عنها أو تداركها مع مرور الزمن والأحداث التي تتغير يوميًا، لتصبح مثل الزئبق تفلت بين يدي الصحفي الشّغوف بالمهنة إلى فرصة من البيئة المحيطة بك للانقضاض عليك من حيث لا تدري.. السبب هو ارتكاب خطأ في بيت الصحافة لا يمكنك أن تمنع نفسك عن ارتكابه بسبب انعدام الخِبرة في البدايات، وكم هي الأخطاء التي لا يمكن تقديرها من قبل الصحفي التي تنمو وتتوسع ثم تتمدد كالأخطبوط الذي يطوق عنقه فتجهز عليه لبعض الوقت في أول فرصة ارتخاء مهني..

الاستماع لصوتك فقط كصحافي، هو أكبر الأخطاء، فرؤية زوايا أخرى هي مضمار يلوح في أفق ممارسة مهنة جليلة، غير أن من ينساق وراء صوته الأوحد سيدفع الثمن غاليًا في سنوات الممارسة، خاصّة أن دهاليز الصحافة تخفي الكثير من "الأوحال" قد تفسد القلم.

الفرق بين الهواية والمِهنة شاسِع، فالأولى هي تزيين فقط للواجِهة بينما الثانية فهي تبغي الاحتراف، لكنّها أحيانا تتطلّب المجازفة في مجال غير المجال الذي يطمح له الصحفيون، مثلما هو الحال في كتابة " مقال الرأي" أو "العمود الصحافي" الذي يتطلّب الكثير من الجهد المبني على تطويع الفكرة وتسييجها بمختلف أدوات الصحافة وآلياتها والسعي لوضعه في إطاره وسياقه وخلفياته أيضا، وهو في النهاية خطر على الصحفي المبتدئ.

تقاطع

الخطوط الحمراء أو الخطوط الفاصلة بين قلم الصحفي وتدابير الكتابة في مؤسّسة إعلامية، هي أكبر خطر يواجه الصحافي و"عظمه طري" بسبب عامل السنّ والتسرع، كما يقول الكاتب محمودي، فالنشوة الأولى من وراء ذلك تجعله يستلذ الاستمرار دون وعي منه، كمن يحمل صورة "الفارس الذي يجمع بين إقدام الشجاع وغرور المتهور" فكتابة العمود كمن يمسك لباسًا بعد وضعه على الحبل، فغالبًا ما لا تصمد الكلمات أمام هبوب رياح السياسة القوية ولا تقوى على حمل الأفكار التي يمكنها أن تبقى وصمة " عار" في جبين الصحافي أثناء ممارسته للمهنة، لذا فالتشبع بأخلاقيات المهنة هو هم يومي لأي كاتب صحفي.

في سؤال وجهته " الترا جزائر" للصحفي محمودي يتعلق بالفرق بين " الخطأ و الحماقة"، يقول إن أخطاءه حماقات كانت نتيجة لتجربته في بدايات ممارسة الصحافة، فبالرغم من أنه وصفها بـ "الحماقات" رغم أنه وكما يقول الأستاذ إبراهيم قارة علي " محمودي ولد صحفيًا كبيرًا رغم صغر سنه، وكان بإمكانه أنه يكون روائيًا لسلاسة أسلوبه المبدع.

هذه الأخطاء هي من تصقل الصحافي في المهنة التي لا تخلوا من الأخطاء حتى ولو بلغ من العمر بين غرف الأخبار عقودا أخرى من الممارسة والعمل والحركة والأحداث.

سكين مسموم

من محاسن الصحافة الرياضية وتغطية سباق الدراجات كتجربة فريدة،  أنها تمكن الصحافيين من الاستلهام من الميدان عدة زوايا لإنجاز عمل صحفي لافت، فهذه التجربة الثرية بحسب كاتب" ذاكرة الأخطاء" مكنته من رؤية الجزائر العميقة، فبدلا من متابعة سباق رياضي والاكتفاء بالتغطية الميدانية، فراح يطرح العديد من الأسئلة التي تليق في فنّ صحافة التحقيق والتحرّي والربورتاج والحوار والوصف طرح هموم سكان المدن الداخلية ومساءلة المسؤولين السياسيين فيما تعلّق بالتّنمية المحلية، رغم أن البداية هي تغطية رياضية قد يفضل الكثيرون على متابعتها من وراء منطقة البدء ثم الوصول وإعلان النتائج والفائزين.

الخطوط الحمراء أو الخطوط الفاصلة بين قلم الصحفي وتدابير الكتابة في مؤسّسة إعلامية هي أكبر خطر يواجه الصحافي

هذه التّجربة مكنته من المتابعة لسنوات لمجالات متعددة من النشاطات الرياضية، لكنها في رأيه "سكين مسموم" يمكن أن تذبح به الكثيرين لأنها تفتح الذهن على أطروحات في دهاليز الرياضة والسياسة، لهذا وجب على طالب الصحافة والممارس المهني أن يشحذ همته بالتعلم والاستزادة من التجربة، ووضع كراس الأخلاق عاليًا، لأن ارتكاب الأخطاء يمكن تلافيه بمجرد اعتراف واعتذار من أصحابه، لكن هل يمسح الاعتذار على قلب ذبحته المهنة بسكين حاد؟