14-يونيو-2024
فيسبوك

(الصورة: فيسبوك) الأزاوي زروال وقريبه

قبل أسبوع من عيد الأضحى المبارك يُسارع الجزائريون إلى إخراج عُدّة الذبح، من سكاكين متنوعة، لشحذها ابتغاء الإحسان في النحر، ولتقطيع أجزاء "السقيطة" أو " الجزرة" في سلاسة، وفي هذه الفترة ينتعش نشاط مهنة موسمية تمتد على مدار أسابيع وتنتهي أحيانًا صبيحة العيد.

يصنع هذا الشاب سكاكين الأضحى أمام زبائنه بطريقة مشهدية مثيرة متوارثة عن الأسلاف منذ آلاف السنين

يُداوم على مهنة السن والشحذ شبان وكهول لا يحتاجون في العادة سوى لآلة برد تساعدهم على تجليخ الآلات الحادة، دونما حاجة لعتادٍ ثقيلٍ، وهم يفعلون ذلك تلبية لحاجة مقابل دخل يعينهم على قضاء العيد في سعة، أو لدفع فواتير الغاز والكهرباء، أو حتى من أجل قضاء أيام في شاطئ البحر بمجرد بداية موسم العطل.

في مدينة لامبيز  بتازولت (10 كلم شرق باتنة)، شرقي الجزائر، يقصد السكان شابًا تارقيًا، تعوّد على المجيء من أقصى الجنوب لتنفيذ مهمّة خاصّة لا تدوم سوى خمسة عشر يومًا، تتعلّق هذه المهمّة العاجلة على حد قوله، بسن الأمواس المخصّصة لنحر وسلخ وتقطيع الأضاحي، والأهم صناعتها أمام أعينهم بطريقة مشهدية مثيرة متوارثة عن الأسلاف منذ آلاف السنين.

الأزاوي

سندان " الفيلبروكان"

في كلّ عام، يقطع الشاب الثلاثيني، الأزاوي زروال، مسافة 1500 كلم من ولاية إليزي ليصطلي على رصيف وسط مدينة تازولت، حاملًا معه عدته البسيطة: مطرقة ومصطبة خشبية من جذع صفصافة مجلوبة من برج عمر إدريس، وسندانًا للطرق هيأه من مِخماد عمود مرفقي لشاحنة "فيلبروكان"، ومَبَارد وأزاميل ومِحلاج " شاليمو"، ومنشار وقاطعة كهربائية.

بمجرد قدومه، يلتف حوله العشرات من السكان الذين ألفوا صنعته، يبتسم ثم يقول لـ "الترا جزائر: " أجيئ هنا لممارسة مهنة شحذ السكاكين والسواطير، خلال فترة عيد الأضحى، لأن الموضوع متعلّق بذبح وسلخ وتقطيع الأضاحي. هناك منفعة متبادلة بيننا، هم في حاجة ماسة لخدماتي وأنا في حاجة للمال.

طبعا أفضّل العمل في الشمال لأن الحرارة في إيليزي لا تطاق خلال هذا الفصل، بخاصّة أن المِحلاج الملتهب الموصول بقارورة غاز البوتان، لا يفارقني طوال اليوم فهو لازم لعملية الطرق والصقل المستمرة من الصباح حتى الليل".

سكاكين

قبيلة الحديد

لا يكمن سرّ إقبال الناس على التارقي من أجل إمضاء الأمواس فحسب، بل يتحلّق حوله صغار وكبار للاستمتاع بطريقته التقليدية في تطويع الحديد، أما السيد عمار بوجة 70 سنة، فقد جاء خصيصًا لشحذ خنجره الكبير وهو يشير لـ"الترا جزائر" قصدته لأن عمله متقن وتسعيرته مقبولة إذ تتراوح بين 100 إلى 150 دج. صحيح أني لا أتوقع أن يزدحم المئات هذا العام، لأن كثيرين لن يضحوا جرّاء غلاء الأسعار، وبالتالي سيقل الطلب على خدماته، لكن جزءًا كبيرًا من المضحين سيأتون إلى هنا، فثمة جودة في العمل، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها".

سواطير

يكلف الأزاوي ابن خالته الطفل إيلوم عمر، 17 سنة، القيام بالمهمة البسيطة طالبا مبلغ 150 دج بعد الطرق والسن بواسطة قاطعة كهربائية متوسطة الحجم، أما هو فيواصل الطرق والتلحيم، لصناعة سكين من مبرد قديم، وهو يقول: "ورثت هذه الحرفة من والدي سي محمد الأزاوي، الذي تلقنها من جده.

جميع أفراد العائلة ينتمون لقبيلة منتشرة في إليزي و تامنراست و أدرار و عين صالح تسمى "إينهظن" بالتارقية و تعني "المعاليم" بالعربية، و أفراد هذه القبيلة معلّمون في صناعة الحلي والسيوف التي يستعملها الطوارق في حروب الصحراء، و سكاكين ذبح المواشي و العير، و أوتاد الخيام منذ الأزل و"الباراميلات" و هي قطع حديدية تستعمل في حفر الآبار. أجوب مدن الشمال من حين لآخر، وقد جئت هنا خصيصًا بمناسبة عيد الأضحى. أنا لست شحّاذ سكاكين فحسب بل صانعها، وهي تلقى إقبالًا كبيرًا لصلابتها ومتانتها وحدتها".

فارق الصنعة

في واقع الحال يقوم المواطنون بتفقد عدة الذبح والسلخ كل عام، بعضهم يفضّل سنّها هنا، أو لدى آخرين يستعملون مشاحذ من حجر الرحى التقليدية، لكن الأكثرية الذين يقبلون عليه حسبما لاحظنا يجيئون من أجل شراء سكاكين وسواطير وفؤوس صغيرة بمناسبة العيد، كما لو أنهم يفضّلون اقتناء أدوات صلبة تدوم لسنوات طويلة، نظير ما يتفنن صاحبها الحريف في صناعتها بطريقة عجيبة وفريدة، بدل اقتناء تلك المعروضة في السوق والمقلدة بطريقة رديئة لماركات غير معروفة رغم ثمنها الزهيد.

يقول علي محمد 45 سنة لـ"الترا جزائر" إنه اشترى العام الفارط سكاكين من سوق الأرصفة "لكني لم أستطع أن أكمل بها عملية السلخ بعدما تآكلت حدتها، فاستعنت بأدوات جاري الذي اقتناها من عنده، لذا ارتأيت أن أقدم له طلبية لصناعة ثلاثة سكاكين، واحد للنحر واثنان للسلخ، فهو يصنعها من خردة معدنية تالفة، قبل أن تتحوّل أمام عينيك من خامة سوداء سميكة، إلى صفحة براقة قاطعة جراء ساعات من التلحيم والطرق على الساخن.

يبدو أن هذا هو سر الإقبال على التارقي مقارنة بباعة الطاولات الذين يعرضون السكاكين وحبال التعليق ومصاطب خشبية دائرية لتقطيع اللحم، بطريق الزمالة، فقد قال لي شاب في شبه نبرة يأس: "سوق السكاكين نائمة تمامًا قبل أسبوع من عيد الأضحى، والسبب أن الغلاء الفاحش في أسعار الكباش انعكس على سوق الخناجر والملحقات الأخرى، قلة من يشترون مقارنة بأعوام ماضية ربي يجيب الخير".

الأزاوي وقريبه

الخردة والتحفة

أما الأزاوي فيكشف أسرار حرفته لـ"الترا جزائر" ضاحكًا:  "جلّ ما أصنعه من سكاكين وسواطير من أنصال النوابض المعدنية للشاحنات المعروفة بـ " لام دو روسور ".

متفائلًا يضيف: " قد لا يكون العرض بمستوى المواسم الفارطة، لكني أملك طلبيات تبلغ من 15 إلى 20 طلبية في اليوم، أصنع السكاكين والسواطير والفؤوس " القادوم" من مخلفات ألواح شفرات نوابض الشاحنات المرمية، كما أسلفت، وأيضًا، من مشابك الحديد – السيرجوانات – والمبارد القديمة".

لا يتوقف هاتفه عن الرنين، رد على أحد المتصلين " صنعت لك سكينًا من مبرد قديم، بقي الثاني سأتولى أمره في ساعة".

كان المبرد قطعة حديدية لا فائدة منها قبل أن تتحول على يديه لنصل رقيق وحاد يقسم الشعرة إلى نصفين. تتذكر رغمًا عنك نظرية لافوازي الكيمائية "لا شيء يضيع كل شيء يتحول"، أما هذا الصنائعي فيرد بحكمة قديمة: "يفنى مال الجدين وتبقى حرفة اليدين". 

مليونا سنتيم يوميًا

تتراوح الأثمان من 500 إلى 700 دج لأمواس السلخ صغيرة الحجم، ومن 1500 إلى 1700 لسكاكين الذبح الكبيرة، وتبلغ قيمة القادوم 1500 دج، والساطور بـ 3000 دج، فيما تنجز مقابضها من خشب الزان الصلب المقتنى من محلات التجهيزات المنزلية.

أما المدخول فيصفه الأزاوي بالجيد والمقبول فيعقب واثقًا: "أجني مليون سنتيم يوميًا بحسب وفرة الطلب، أما في أيام الذروة التي تتزامن مع الأسبوع الأخير لشهر ذي الحجة، فقد سبق لي وأن جنيت مداخيل تفوق المليوني سنتيم يوميًا، وأظن أنه رغم التراجع الملحوظ في اقتناء الكباش تحظى منتجاتي الصلبة بسمعة كبيرة بعدما اختبرت على مدار سنوات في هذه المنطقة، ولكي أميزها عن غيرها أدخلت عليها وسما خاصًا بي هو رمز بثلاثة نجوم وهلال".

كان المبرد قطعة حديدية لا فائدة منها قبل أن تتحول على يديه لنصل رقيق وحاد يقسم الشعرة إلى نصفين

رغم عمله الموسمي يبدو الأزاوي وابن خالته إيلوم راضيين بالرزق الوفير، إذ تمكنهما الحرفة المطلوبة خلال فترة عيد الأضحى من كسب ما بين 30 مليون إلى 40 مليون سنتيم بخاصّة وأن أصحاب الخير بالمدينة وفّر عليهما مصاريف المبيت في الفنادق، بعدما منحهما أحدهم مرآبًا يبيتان فيه مجانًا، ناهيك عما يجلبه لهم جيران من طعام من حين إلى آخر، وأما ما سيفعله بذلك المبلغ فقد أجاب ضاحكًا: "سأخصص جزء منه لشراء أغراض للعائلة وكبشا أو إثنين، من فصيلة سيداون المنتشرة بمنطقتنا، حيث سأعود لإيليزي قبل يومين من العيد لقضائه بين الأهل والأحبة".