كثيرة هي الوجوه الثّقافيّة والسّياسيّة والإعلاميّة التّقليديّة -ذلك أنّ تجربة الحراك الشعبي أسّست/ تؤّسس لمفهومٍ جديدٍ للأفعال الثّقافيّة والسّياسيّة والإعلاميّة، ومن لم يفهم ويُواكب، سيكون مشمولًا بحكم "يتنحّاو قاع"- التي لم تتجاوز في مواكبتها للحدث مقام التخوّف، أي الدّور الفطريّ للعجوز وهي ترافق أحفادها، فتكتفي بالجلوس في الشّرفة حتّى تتصيّد أخبارهم، إلى مقام التشوّف، أي مقام العارف الذّي يستطلع الأفق ويقترح ما يُسرّع قدومه بلا انزلاقات.
كثيرة هي الوجوه الثّقافية والسّياسية والإعلاميّة التّقليدية التي لم تتجاوز في مواكبتها للحدث مقام التخوّف إلى مقام التشوف
ولم تتّعظ بمعطًى صارخٍ على مدار الجمعات السّبع، هو أنّ كلّ التخوّفات، التّي تعرفها أيّام الأسبوع، تمحوها مسيرات الجمعة. بما يُظهر أنّ النّخب في بقعةٍ والحراك في بقعةٍ أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: تحولات الحراك الشعبي.. تصالح مع السياسة والفضاء العام
لاحظتُ مثلًا، أنّ كثيرًا من هذه "النخب" تعاملت مع لفتة "قصر الشّعب" في مدينة برج بوعريريج، من زاوية الخوف فقط من انهيار المبنى، وإمكانية حدوث كارثة. وكأنّ السّلطات الولائيّة لم توفد خبراء لمعاينته والتأكّد من قدرته على التحمّل، أو أنّ النّخبة الشّابّة المؤطّرة للحدث لم تتّخذ الإجراءات المانعة لأيّ تدافع.
ولم يتعدَّ تعاطي هذه "النّخب"، مع لفتة شباب البرج، ولفتات شبابٍ آخرين في مدنٍ أخرى، إلى قراءة أبعادها الرّمزيّة، ضمن المخيال العام لفعل الحراك. ذلك أنّ الحراك الشّعبيّ فعل أثمره وعيّ عامّ، ولا ينبغي أن تكتفي النّخبة، حتّى تبرهن على أنّها نخبة جديرة بالمرور إلى الغد الجديد، بالتّفاعل معه من باب الانفعال.
ثمّة قصر الشّعب لا يدخله الشّعب في الجزائر العاصمة، فقد ظلّ فضاءً مغلقًا على الوجوه الرّسميّة، في عهد الأتراك الذّين بنوه عام 1748، وفي عهد الفرنسيين، ثمّ في عهد الرؤساء الجزائريين، بعد الاستقلال.
وثمة "قصر الشّعب" في برج بوعريريج لا تدخله رموز السّلطة إلا لتداس رمزيًّا، في الشّعارات المنطوقة والمكتوبة، من طرف الشّباب، الذّين أرادوا أن يعيشوا لحظة علوٍّ، من خلال اعتلاء المبنى، الذّي هو هيكل مختلف على ملكيته، بما أسّس لمفهوم "فخامة الشّعب".
ولأنّ الحراكيين رفضوا منذ البداية، فكرة التّمثيل، حين كان الطّرف المؤهّل لأن يكون مفاوضًا لهم هو ما باتت تسمى بـ"العصابة"؛ فقد عمدوا إلى إسماع أصواتهم من خلال سياسة التّكثيف، في شكل شعارات، أقواها "يتنحّاو قاع".
وعلينا ألا نغفل اللّحظة التّي طلع منها هذا الشّعار والوجه الشّاب المسحوق، الذّي وقّعه على المباشر التّلفزيونيّ، في لحظة غضب وصرامة. وفي شكل أماكن رمزيّة باتت بؤرًا تجلب الانتباه إليها، مثل "غار حراك" في العاصمة، و"قصر الشّعب" في برج بوعريريج.
ولئن هيمن "غار حراك" وساحة البريد المركزيّ، في الجمعات الأربع الأولى، بحكم البعد الرّمزي للعاصمة وقربها من عيون الإعلام المحلّي والدّوليّ، فإنّ "قصر الشّعب"، الذّي بات رمزًا لصوت المدينة الدّاخليّة، وليس لمدينة برج بوعريريج فقط؛ استطاع أن يفرض نفسه هو الآخر، ويكسر المركزيّة العاصميّة، في بعدها المتعسّف، حيث بات واضحًا أنّ ثمّة توجّهًا لاختزال الحراك فيها، حتّى إذا مُنعت المسيرات داخلها يظهر أنّ الحراك مات.
لأن الحراكيين رفضوا فكرة التمثيل لأن الطرف المؤهل لها كان "العصابة"، عمدوا لإسماع أصواتهم بالتكثيف في شعارات أقواها "يتناحو قاع"
لقد تحوّلت العبارة والرّسمة المرافقة لها في "التّيفو"، الذّي ينزل من أعلى بناية "قصر الشّعب" في برج بوعريريج، إلى لحظة شعبيّة مكثّفة، وغير مخترقة من فلول بوتفليقة، ومن الأطراف الأيديولوجيّة الرّاكبة للموجة، تختصر ما أراد الشّعب قوله خلال تلك الجمعة. ومن دخل "قصر الشعب" فهو آمن.
اقرأ/ي أيضًا: