26-أبريل-2019

يصعب الحديث عن وعي جمعي دون الإجابة عن أسئلتنا المصيرية (الأناضول)

هناك قاعدة أساسية في كلّ حراك شعبي، وهي: إمكانية توجيه مساره نحو مسالك ضيقة قد لا تفضي إلاّ إلى المجهول.

بناء جزائر جديدة لا يتحقق إذا استعرنا نفس الأدوات القديمة، أي ببعث روح الثقافة التي نمت داخل المناخ الملوث للمرحلة السابقة

صحيح أنّه لا أحد يتمنّى مثل هذا السيناريو، إلاّ أنّ مظاهر التحوّل داخل الحراك بدأت تظهر، ولو بشكل باهت، لكنّها في ذاتها تمثّل مؤشرات خطيرة لابد الحذر منها.

اقرأ/ي أيضًا: غباء الدولة وتفاهة السياسة

من بينها الدخول في مهاترات حول الأَعلام وحول الهوية وحول اللغة. وما يجعلها مجرّد تهافت شعبوي هو التوقيت غير المناسب لإثارتها؛ فالحراك الشعبي اليوم في الجزائر، له هدف واضح هو رحيل النظام، والتمهيد لبناء جزائر جديدة.

لكن بناء جزائر جديدة لا يتحقق إذا استعرنا نفس الأدوات القديمة، أي إذا بعثنا روح الثقافة التي نمت داخل المناخ الملوث للمرحلة السابقة.

ما هي الجزائر الجديدة التي نبحث عنها؟ أخاف أن أقول بأنّ كل واحد منّا يحمل في داخله الجمهورية التي يحلم بها: هناك من يحلم بدولة القانون، وهناك من يحلم بدولة الرفاهية، هناك من يحلم بدولة دينية، وهناك من مازال يحلم بالإنفصال والتأسيس لدويلات مستقلة.

هناك تصورات كثيرة وبعضها يقع على الطرف النقيض من الأخرى. لم نسأل بعد عن هذا السؤال، كما أنّنا إلى اليوم لم نحدّد تصوّرًا واضحًا عن طبيعة الجزائر التي نبحث عنها.

هناك الكثير من العوامل التي تقول بأننا نريد -ويا للأسف- جزائر جديدة، لكن بنفس العقلية التي شكّلها النظام. لنتحدث على سبيل المثال عن الصراع الدونكيشوتي اليوم حول الهوية؛ إنه صراع مصطنع، اضطلع به النظام السياسي منذ 1962 إلى اليوم، ونجح في اختلاقه حتى يُبقي الشعب في حالة ثوران مستمرة. 

وهذا النوع من الصراعات الهوياتية تخدم الأنظمة الاستبدادية، لأنها علامة مسجلة عليها، تعرف جيدًا متى تشعل فتيلها ومتى تقرع أجراس الحرب وكيف تذكي الفتن العرقية والعنصرية، ومتى تقرأ فوق الجثث خطبها التأبينية.

ألم أقل في مقال سابق، أنّ ما يقيم أساسات الدولة الاستبدادية هي جحافل الأغبياء الذين يمثلون وقود الحروب العرقية والهووية، فهؤلاء مستعدون للموت العدمي.

لماذا كل هذا اللغط العبثي اليوم حول الهوية؟ لسبب واحد على الأقل: لأنّنا إلى اليوم لم نفصل في قضايانا المصيرية، فكلّ الأسئلة الجوهرية تؤجّل باستمرار، أو يتم الإلقاء بها في مكان ما، لتترك مكانها لفراغ هائل، هو الفراغ الذي ينهش اليوم هذا الوعي الجمعي.

ما دمنا لم نجب بعد عن أسئلتنا المصيرية، فمن الصعوبة اليوم الحديث عن وعي جمعي. أخاف أن أقول إنّ ما نعيشه اليوم قد يكون مزيج من الانفعال العمومي المعدي -وهو مشروع في كلّ الأحوال- في حين أنّ الوعي هو مسألة عملية مستمرة من التأسيسات، تعضدها مرجعيات سياسية واجتماعية وأخلاقية وفكرية. أين كلّ هذا اليوم، والنّاس تنبش في سير بعضها البعض بحثًا عن دليل للإدانة؟!

نبل الهدف لا يجب أن ينسينا هذه المسألة وهي أننا لابد من إنتاج أدوات جديدة للتفكير في المرحلة القادمة. تأمّلوا جيدًا: الخطابات نفسها تكرّر نفسها، حتى بين النخب التي ألقت بنفسها في الشارع، فهذه الأخيرة لم تجدد خطابها ولا أفكارها، ولا أدواتها في تفسير الحدث التاريخي، لكن أيضًا لم تفصل بعد في النموذج السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي نبحث عنه.

صحيح أنّ إزاحة النظام هو مرحلة ضرورية جدًا تسبق التفكير في المآلات القادمة، إلاّ أنّ التفكير في المستقبل أيضًا لا يقبل التأجيل.

يمكن أن أستعير هنا بكثير من التصرف أسئلة طرحها ميشيل فوكو في كتابه "نظام الخطاب": هل يحق لنا أن نقول كلّ ما نريد؟ وما هو الخطر في تناسل الخطابات بهذا العدد الهائل؟

صحيح أنّ إزاحة النظام مرحلة ضرورية قد تسبق التفكير في المآلات، لكن التفكير في المستقبل أيضًا لا يقبل التأجيل

يلعب السياق هنا دورًا ضروريًا في تحديد ما يمكن قوله وتحديد الطريقة التي سنقول بها. أعتقد أنه حان الوقت لخفض صخب هذا الأديدُ، والتفكير فيما يجمعنا وليس فيما يفرّقنا إلى أشياع وفرق وأرخبيلات متناثرة هنا وهناك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

التفكير في حراك 22/2 الجزائري

أسبقية الوطني على الأيديولوجي