12-ديسمبر-2022
جامعة الجزائر (الأناضول/Getty)

جامعة الجزائر (الأناضول/Getty)

هل بناء الإنسان أهم أولًا من بناء المنشآت والبنى التحتية والمصانع؟ سؤال يبدو منطقيًا أو يحمل على الأقل إجابات يوصفها أستاذ علم الاجتماع بجامعة الجزائر عبد الباقي رحمون بالمسمومة عندما عرج بالحديث عن المشكلات التي تعرفها الجامعة عمومًا من مخرجات أكاديمية وبحثية، ومقارنتها بالواقع.

الباحث عبد الكريم آيت حمي: المدن الجزائرية فقدت جزءًا من روحها في علاقة بالتنشئة الأسرية والاجتماعية والبيئة

بالضرورة بناء الإنسان هو الأهم؛ بل هي عملية مستمرّة لا يمكن توقيفها أو تعويضها بآلة أو جهاز أو تكنولوجيا، ولكن في المحصلة يعتقد الأستاذ رحمون أننا في الجزائر أهملنا الفرد أو بالأحرى الاهتمام بالبحوث الإنسانية والاجتماعية التي ترافق- حسبه- تغيرات وتحولات الإنسان على مرّ السنوات والعقود والأزمنة وحياة الجماعات، بينما وقعنا في أزمة  تفويت الفرصة على تنميتها ومرافقتها اليومية ومعالجة أزماتها كلما أطلت علينا العلوم التقنية- التكنولوجيا بتجاربها واختراعاتها وما تحمله في النصف الآخر منها من أزمات تسببها للفرد مثلما تفعل اليوم مواقع التواصل الاجتماعي التي هي الأخرى وليد تطور مذهل للتكنولوجيا.

مشكلات اجتماعية

هذا السؤال أطلّ مرارًا وتكرارًا في " صالون العلوم الاجتماعية" الذي احتضنته مدينة وهران غرب الجزائر، مشفوعًا بمنتدى على مدار أربعة أيام يتناول عديد الورشات عن الأبحاث الاجتماعية التي تنتجها مختلف الدول المغاربية تحت مسمى "إنسانيات" في علاقتها بالإنسان والتحولات التي يعرفها من خلال الاحتكاك بين الماضي والحاضر والمستقبل.

ومن خلال هامش النقاشات التي كانت أكاديمية بحتة من قِبَل أكثر من 140 مشاركًا، حاول موقع "الترا جزائر" الاطلاع على عدد من النقاط متعلقة بالبحوث الأكاديمية التي تنطلق من أزمات الواقع المعاش في البلاد والتي يبدو أنها لازالت تعيش في " ظلام ترفض الخروج للنور" كما وصفت الباحثة في سلك الدكتوراه علم اجتماع العمران بجامعة  مستغانم، فريدة بلعاليا، معترفة في تصريح صحفي على أن تطوير البحوث الاجتماعية لا ينقص الجامعية الجزائرية ولا المغاربية، ولكن "الاعتناء بنتائج تلك البحوث وجعلها خزانًا لحلّ مشاكل المجتمع والأسرة والمؤسسات الاقتصادية هو الأهمّ ولكنه مفقود عمومًا".

وأضافت بلعاليا هناك مشكلة حقيقية بين الجامعة والواقع أو هناك حلقة وصل مفقودة بينهما، أي لا توجد جسور ممدودة بين الجامعةومخابرها وباحثيها وبين الواقع الذي نعيشه، أشبه بكثير بين ما يعيشه الإنسان في العالم في الفضاء الافتراضي وفضائه الواقعي، ليبرز – حسبها-  شقّ ثالث وهو الواقعي المخفي بين أسوار الجامعة، ولا يخرج منها ويبقى كنتائج يتوصل إليها الطلبة والباحثين تزين بهم رفوقها.

وعبرت بلعاليا في نهاية حديثها عن الأمل في أن " ترى البحوث الإنسانية والاجتماعية النور وتنطلق من مشكلة يعيشها المواطن الجزائري بغية إيجاد حلول لها وتسليم النتائج إلى المسؤولين في ذلك المجال بهدف مباشرة حلها أو إنهائها".

مدن دون روح

بينما عرج المهندس المعماري والمهتم بالمدن القديمة عبد الكريم آيت حمي في الحديث عن الهوية الجزائرية وربطها بالماضي والحاضر والمستقبل، لافتَا في حديث لـ" الترا جزائر"، أن الأهم أن تصبح للمدن الجزائرية نسخ متعددة لا يمكن الخروج عنها بإطلالات مستنسخة عن الآخر، دون مراعاة للخصوصية الذهنية الجزائرية.

ولفت المتحدث إلى أن المدن الجزائرية فقدت جزءًا من روحها وهو ما تسبب لنا في ارتفاع نسب الجريمة، وعلاقتها بالتنشئة الأسرية والاجتماعية والبيئة والربح السهل والترويج للمخدرات، مشيرًا إلى ظواهر لم تكن الجزائر تعيشها في السابق تسبب فيها شكّل العمران الحالي ونمو السكنات كالفطريات دون انسجامها مع الخلفية الاجتماعية لكلّ أسرة، فضلًا عن أنها مساكن من إسمنت لا تحمل معها " الروح والهوية".

لمن تكتب الجامعة؟

الندوات التي تشرف عليها عدّة مراكز بحثية وجامعية، مثل "مركز البحث في الدراسات المغاربية" و"مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية" بوهران، تطرقت أيضًا إلى أهمية تطوير هذه البحوث، غير أن هناك أطروحات "خرجت عن النصّ"، في لفت الانتباه إلى العديد من القضايا التي تتقاطع فيها بين التخصصات وخاصة منها الطبية والعقلية واللغوية، إضافة إلى علاقة الجامعة بالمجتمع و"العلوم الاجتماعية والفاعلون الاجتماعيون: النساء، الأُسر، الباحثون والفنانون"، علاوة على مسائل تاريخية وأسئلة كثيرة أهمها:" لمن يكتب الباحثون؟."

طرح آخر سبق للبعض أن تناوله في عدد من الندوات العلمية في النقاشات العلمية ويتمثّل في "علم المستقبليات"، إذ يقترح البعض تثمين مجهودات الباحثين وخاصة في سلك الدكتوراه أو المتخرجين حديثًا بشهادة دكتوراه في شتى التخصصات الاجتماعية والإنسانية، بأن يتم البحث في الاستشراف الإنساني أو ما تعلّق بمختلف التوقعات المرتبطة بالإنسان وتخصيص شعب أو فرق بحثية لهذا المجال.

وهنا وجب التذكير بأن البروفيسور رابح لونيسي سبق له وأن تطرق للأمر داعيًا إلى استبدال العلوم الإنسانية بـ "علم المستقبليات"، أو تعويض الكثير من التخصصات الإنسانية التي تحظى بعناية مادية وبشرية (أقسام وكوادر من أساتذة) في مختلف المراكز الجامعية الجزائرية، بهذا المقترح حسب رأيه.

وقال البروفيسور لونيسي إن كلّ هذه التخصصات وجب تنظيمها تحت مسمى واحد وهو "علم المستقبليات"، وهو مقترح يراه من المهم توظيف مختلف المعارف لفهم الحاضر واستشراف المستقبل والتحضير لمواجته.

المورد الأهم

خارج الأطر الأكاديمية، تناقص الاهتمام بالعلوم الإنسانية رغم المنشآت القاعدية لذلك، وهو ما يتوضّح كل موسم جامعي من خلال البنى التحتية والكادر التكويني من أساتذة ومخابر، لكن يطرح البعض من النخبة المنتمية لهذه الحقول الجامعية سؤالًا جوهريًا: "لماذا لا نهتم بالعلوم الإنسانية؟"

الأجوبة كثيرة إذ يتعلق الأمر أيضًا بالسلطة السياسية التي لا تقدر مخرجات التخصّصات الإنسانية والاجتماعية، إذ اعتبر الباحث في الأنتروبولوجيا علي بهناس من جامعة البليدة، إلى أهمية طرح الأسئلة المعقدة أو بالأحرى الآنية والمحرجة، وعلى سبيل المثال عن ذلك قال:" هل انتهت الأوبئة مثلًا؟ فجائحة كورونا حسبه علمتنا الكثير من الدروس، إن على صعيد الاستعداد للمتغيرات المناخية وعلاقتها بالفيروسات والأوبئة أو بعلاقاتها بصناعة الأدوية في الجزائر وطرق التغذية للإنسان، لافتا في تصريح لـ"الترا جزائر": "الأمر يتعلق بالإنسان، فهل يمكننا أن نهمل هذه الحلقة الأقوى في حياتنا اليومية؟".

السلطة السياسية التي لا تقدر مخرجات التخصّصات الإنسانية والاجتماعية

وجب التذكير أن هذه العلوم، رفعت من وعي الفرد الجزائري في وقت سابق قبل التعددية السياسية والحزبية ولما بعدها، فالنقد أو الانتقاد لا يبْغي القسمة ولا يستهدف تغطية الحقائق والواقع، بل هو مفيد لتطوير البلدان ومهم للأفراد أيضًا من جهة؛ خصوصًا في عصر الشبكات الاجتماعية والفضاءات المفتوحة والتطور التكنولوجي، مع الإبقاء على مرجعيتها وهويتها أيضا من جهة أخرى.