19-يونيو-2023
الرئيس الجزائري رفقة نظيره الروسي (الصورة: Getty)

الرئيس الجزائري رفقة نظيره الروسي (الصورة: Getty)

اختتم الرئيس عبد المجيد تبون زيارته لروسيا، مُوقعًا رفقة نظيره الروسي فلاديمير بوتين، سلسلة من الاتفاقيات وإعلان نوايا بشأن تعميق الشراكة الاستراتيجية بين الجزائر وموسكو.

اهتمت وسائل إعلام محلية ودولية بزيارة الرئيس الجزائري إلى موسكو مُسترسلة في قراءاتٍ وتخميناتٍ حول خلفيات زيارة تبون

وصف متتبّعون اللقاء الأخير بين الرئيس الجزائري ونظيره الروسي بـ "المثمر"، وزيارة حملت توافقًا حول عدد من القضايا الإقليمية، مثل قضية الصحراء والقضية الفلسطينية ودول الساحل، وتسنى من خلالها للجزائر لعب دور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، أمّا الشق الاقتصادي فبرز طلب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في التعجيل بانضمام بلاده إلى مجموعة "البريكس".

يعود تاريخ العلاقات الدبلوماسية والثنائية بين الجزائر وروسيا إلى الستين سنة الماضية، وهو أمر لم يغفل عن ذكره الطرف الجزائري والروسي، ولكن زيارة عبد المجيد تبون الأخيرة، تعزّزت بإعلان "الشراكة الاستراتيجية المعمقة"، إلى هنا يطرح متتبعون عدّة أسئلة حول ما يقصده هذا التعبير؟ ونوع "الشراكة المعمقة" التي اتفق عليها الطرفان؟

في ظل متغيرات جيوسياسية وجيو إقليمية، اهتمّت وسائل إعلام محلية ودولية بزيارة الرئيس الجزائري إلى موسكو، مُسترسلة في قراءاتٍ وتخميناتٍ حول خلفيات زيارة تبون، في ظلّ التوترات القائمة بين روسيا وأوكرانيا وحلف الناتو، متجاهلةً في السياق طابع العلاقات السياسية التقليدية والتاريخية التي ميّزت البلدين، فما هو مفتاح وسر في تمدد وتوسع العلاقات بين الجزائر وموسكو رغم التدافع الدولي الحالي ومحاولات عزل روسيا عن المحيط الدبلوماسي عربيًا وأفريقيًا؟

مساندة الثورة التحريرية

على هامش الزيارة، جاء منح رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون وسام عشير للجندي الروسي أندري بافينفكو، نظير مساهمته في نزع الألغام الاستعمارية من خطيْ شارل وموريس، في إشارة قوية إلى البعد التاريخي والرمزي الذي يربط بين الجزائر والاتحاد السوفياتي سابقًا، هذا البعد التاريخي يرمي إلى التذكير بـالدعم السوفياتي "سابقًا" للحركة التحرير الوطنية من الهيمنة الاستعمارية الغربية.

جدير بالذكر، أن سنة 1956 كانت أولى بداية التواصل بين قيادة الثورة الجزائرية في الخارج بالقيادة الروسية حينها، وتعزّزت هذه العلاقات مع الجانب الروسي سنة 1960، بعد اعتراف رسمي وعلني بشرعية الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وحقّ تقرير الشعب الجزائري في تقرير مصيره واستقلاله، رغم العلاقات الودية التي كانت تجمع آنذاك بين باريس وموسكو.

البعد الاشتراكي والنخبة الوطنية  

تاريخيًا، جاء ميلاد الدولة الوطنية سنة ،1962 في سياق صراع بين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي والكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والحلف الأطلسي (ناتو)، حيث كان يبدو أن المعسكر الغربي لم يهضم في العموم فكرة تحرر الشعوب والأمم من القبضة النيو-الليبرالية، ووقتئذٍ تشبعت معظم النخب الوطنية المدنية والعسكرية منها بالفكر والنموذج الاشتراكي، كرد فعل رافضٍ للإمبريالية.

دفع بتلك النخب الشابة الوطنية إلى الاقتراب من المعسكر الشرقي، الذي أبدى تقاربًا أيديولوجيًا، وتعاطفًا مع ميلاد الدول الوطنية الحديثة، وقد رسخ هذا الاعتقاد مع موقف الاتحاد السوفياتي من العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، والذي أكسب تعاطف النخبة الجزائرية مع موسكو.

من بين تمظهرات هذا التوجّه، هو سفر كثير من النخب للدراسة في روسيا وتعلم اللغة الروسية، وقد ظهرت عدة إطارات أكاديمية وعسكرية فيما بعد، ممن تكوّنوا في الجامعات الروسية.

التعاون العسكري

منذ استقلال الجزائر من الاستعمار الفرنسي، سعت موسكو أن تكون الجزائر شريكًا وحليفًا استراتيجيًا لها في المنطقة المغاربية والأفريقية، فعملت روسيا على سد الفراغ وملء فجوة رحيل الفرنسيين عبر إرسال كوادر تقنية وطبية ومساعدات عسكرية ولوجستية، ومما شجع السعي الروسي هو التقارب الأيديولوجي والفكري الذي أعلن عنه أول رئيس للدولة الجزائرية أحمد بن بلة، والتقارب الذي حصل بين أحمد بن بلة مع مختلف ثوار العالم على غرار فيدال كاسترو وتشي غيڨارا، وتشكيل تحالف ضد الهيمنة الغربية.

لقد شكل التعاون في المجال العسكري وبناء المؤسسة العسكرية الجزائرية المجال الحيوي والمركزي بين الجزائر وموسكو، على غرار الدعم المالي والتكوين في مجال الموارد البشرية ومضاعفة الجهود في تشكيل مؤسّسة عسكرية عصرية وقوية، حيث وتعززت مكانة الجزائر في مجال التعاون العسكري بين موسكو والجزائر إلى الصف السابع سنة 1972، من حيث المساهمات المالية والمساعدات العسكرية السوفيتية آنذاك.

فترة فتور

في الثمانينات، وبعد رحيل الرئيس الجزائري هواري بومدين، شهدت العلاقات الجزائرية-الروسية مرحلة تراجع وفتور، خصوصًا بعد تولي الشادلي بن جديد قيادة الدولة، إذ أسفرت تلك الفترة على انفتاح الجزائر أكثر نحو الغرب، خصوصًا بعد انهيار جدار برلين سنة 1989، وبروز معالم تصدع الاتحاد السوفياتي، ورغم ذلك حافظت الجزائر على مستوىً من التعاون العسكري والتقارب الدبلوماسي الثنائي وهذا نتيجة التعاون الثنائي لقرابة ثلاثة عقود خلت.

تحويل الديون الروسية

جدير بالذكر أيضًا، أن روسيا كانت من بين الدولة الصديقة التي ألغت ديون الجزائر في فترة مضطربة، وهذا بعد مفاوضات وصفت بـ "الصعبة"، والمقدرة آنذاك بـ4.7 مليار دولار، إذ ألغيت الديون الروسية خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الجزائر في آذار/مارس سنة 2006، هذا الدين الذي تعاقدت عليه الجزائر خلال فترة الستينيات والسبعينات من القرن الماضي، وكانت الديون الروسية تشكل 25 %، من حجم الديون العالقة للجزائر تجاه روسيا، والمقدرة بـ 36 مليار دولار.

ومقابل هذا الإلغاء، تعّهدت الجزائر بشراء سلع وخدمات من روسيا مقابل مبلغ معادل من الدين الذي ألغي، وأبرز تلك السلع التي تم الاتفاق عليها كانت من العتاد العسكري والحربي.

وشكّلت المبادرة الروسية المتمثلة في إلغاء الديون رغبة قوية من روسيا والحاكم الجديد بوتين وقتها، في الدفع بالعلاقات مع الجزائر إلى مستويات أعلى، وقبوله بشروط المفاوض الجزائري.

الثنائية القطبية

من بين الرسائل التي حرص الرئيس تبون إرسالها إلى الطرف الأوروبي والغربي، هي استعداد الجزائر للوساطة بين روسيا وأوكرانيا؛ وهي رسالة تتضمّن الموقف الرسمي الجزائري المحايد إزاء الصراع القائم اليوم بين موسكو وكييف، إذ اشتملت رغبة الوساطة الجزائرية رسائل تتضمن الوقوف على مسافة واحدة مع الصراعات الجيو إقليمية والجيو استراتيجية والتدافع القائم بين روسيا وحلف الناتو، مع كل ما يحمل هذا الصراع من انعكاسات خطيرة على الأمن والسلم العالمي.

في هذا السياق، تبحث عن شركاء قصد تطوير علاقات تشمل قطاعات اقتصادية وأمنية وزراعية وطاقوية وصحية، وتشدد على انفتاحها على المحاور والأقطاب الاقتصادية والسياسية، شريطة عدم الخضوع إلى الضغوط والابتزاز والإكراهات والتبعية وفرض الاحترام المتبادل.

الانضمام إلى بريكس

تشكل زيارة عبد المجيد تبون لروسيا دفعًا دبلوماسيًا قويًا باتجاه عضوية الجزائر في تكتل مجموعة "بريكس"، وتعتبر رغبتها في الانضمام إلى مجموعة "بريكس" تأكيدًا عن الابتعاد عن تسيس القرار الاقتصادي، والحرص على وجود عالم متعدد الأقطاب، نظام عالمي يسوده التوازن لا الهيمنة ويضمن فرصًا متساوية. نظام دولي يعالج الصراعات والحروب وفق رؤية موسعة لا أحادية أو فردانية.

تأتي زيارة عبد المجيد تبون لروسيا كمحطة من محطات البحث عن التموقع الدبلوماسي العالمي وسط التحوّلات والمتغيرات

ختامًا، تأتي زيارة عبد المجيد تبون لروسيا كمحطة من محطات البحث عن التموقع الدبلوماسي العالمي وسط التحوّلات والمتغيرات، وترسم الجزائر علاقاتها الدبلوماسية وفق مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والبعد عن الهيمنة المركزية الغربية التقليدية.