07-ديسمبر-2023
صونيا عبدي

(تركيب: الترا جزائر)

غير بعيد عن "دار الجنرال"، وعلى تخوم حي "الكامب" أو المعسكر، أقدم حي كولونيالي بباتنة، شرق الجزائر، تدير صونيا عطاء الله، الأستاذة الجامعية في اللغة الفرنسية، ورشة لتصميم الأزياء التقليدية بطريقة جمالية عصرية.

مصمّمة الأزياء صونيا عطاء الله لـ"الترا جزائر": سفري المتكرّر إلى الخارج جعلني أطلق مشروعًا يحافظ ويدافع عن موروثنا الأزيائي والجمالي الذي يعاني التخلي وعدم التسويق

تمزج المصمّمة صونيا في ورشتها بين روح الماضي ووجه العصر، برونق لا يُضاهى، اكتسبته كما تقول ضاحكة من ثلاثة أشياء هي: "تجربة الحياة التي عشت، والأسفار العديدة، وتأثير الأجيال السابقة، فقد منحني والداي تربية مثالية، كما أن جدتي كان لها دور حاسم في تجربتي الحياتية والمهنية".

من عاصمة الأوراس إلى كان السينمائية

لا غرو أن يكون منزل السيدة صونيا التي استقبلتنا فيه، بطبق "عِيش" من الطراز العريق المطهي بشحمة أيث عبدي المعتقة، ملاذا سحريا، فقد عكفت على تصميه بحس راق، مزدان بلوحات فنية، ويحتوي مطلا فوق السطح تجلس فيه لتعانق قمة جبل ثوقر علّها تستلهم مع قهوتها الصباحية، أفكارا جديدة من وحي الحنين للجبل الإمبريالي الذي يستفزها بشموخه. تمتمت " لطالما حلمت أن أنجز نجاحا بارزا في مجال تصميم الأزياء لأحقق بذرة من الخلود تماما كقمة رأس الأرز الشامخة، ولم يكن الأمر سهلا أبدا".

لم تنجح في أول اختبار لها لنيل شهادة البكالوريا، لكنها ما سقطت أبدا، بل نهضت لتعيد الكرة من جديد، فحازت الشهادة الغالية في الرياضيات، ثم اتبعتها بأخرى في الأدب القريب من قلبها، فهي مطالعة نهمة للكتب والأعمال المتخصصة والروايات، وفي ذلك العمر العشريني العنفواني قررت أن تهاجر إلى فرنسا لتطوير معارفها في مجال الدراسة السياحية فحصلت على دبلوم تقني سامي في السياحة بمنطقة الكوت دازور، ما أهلها للاشتغال في أفخم فنادق مدينة كان العالمية. تصف تلك الفترة الذهبية من حياتها هامسة: "هاجرت من الجزائر جراء العشرية السوداء، لكني لم أهجرها إلى الأبد. يوم أشعرني العنف والانغلاق بالاختناق المعنوي، حملت حقائبي ورحلت إلى فرنسا، وعشت وعملت في مدينة كان وتزوجت هناك وأنجبت بنتا هي ثمرة زواج مختلط أصيب بالفشل بعد سنوات. التقيت هناك بكبار نجوم هوليوود وتعرفت عليهم، مثل كلينت أيستوود وساندرا بيلوك، وتيم برتون، وجوني ديب. لطالما كان لديّ انجذاب سحري نحو الأعمال الفنية مثل الأدب والسينما، ولم يكن ذلك بمحض الصدفة، بل هو نور داخلي كان يقودني إلى غاية كبرى سرعان ما ستنفجر في مجال الأزياء والتصميم".

روح نَّانَّا جمعة بن صالح الحركاتية

سافرت صونيا إلى نيويورك وكان من اليسير خوض حياة أخرى على الطريقة الأميركية، غير أنها سرعان ما أضربت عن الفكرة لأسباب عميقة، فسرّتها لـ"الترا جزائر"، قائلة: "عندما زرت أميركا اكتشفت أنني غير لائقة للعيش هناك، فأنا أهوى الحياة المتوسطية، حرارة الناس وضجيج الأسواق ورائحة البهارات، وبخاصة الشمس والألوان."

كنت دائمة العودة إلى باتنة، تكمل حديثها مبرزة تعلّقها بأرض الأوراس "ما قطعت الصلة عن هويتي الشاوية الأوراسية والجزائرية أبدًا، هناك بصيص ضوء روحي عميق يهيمن عليّ، هو روح جدتي أو نَّانَّا جمعة بن صالح الحركاتية."

لستسذكر جدّتها وكفاحها في الحياة "لقد تزوجت جدتي وأنجبت 11 طفلًا وعاشت في فرنسا، غير أنها سرعان ما عادت إلى باتنة. تركت بلد الأنوار لتعود لتعيش ولتموت في أرض الأسلاف والجذور كما كانت ترغب.ص

وفي نهاية المطاف وجدتُني ألد جدتي من جديد، عُدت مع ابنتي لأستقر في باتنة العام 2008، لأسباب بعضها متعلق بالدين والرغبة في تنشئة ابنتي وفقا لتقاليدنا المتوارثة، سأعرف لاحقًا على أن الرغبة في الحفاظ على الهوية ستقودني إلى مشروعي الحلم: الرغبة في تأبيدها للأجيال، والعبور بها نحو المستقبل في أبهى حلة ممكنة، تسرد مصمّمة الأزياء.

لباس

يوم وُلد الإلهام في نابل التونسية

في باتنة أنشأت محلًا للألبسة التقليدية، بحي 84 مسكن غير بعيدٍ عن المسجد العتيق، بالموازاة مع عودتها للدراسة من جديد بحصولها على بكالوريا جديدة أعادتها للدراسة مع طلبة في عمر أبنائها ولتصبح هي طالبة تتلمذ على يد أساتذة كانوا درسوا معها، فتخرجت بتفوق كأولى الدفعة، لكنها ما توقفت عن أسفار جلب الألبسة التقليدية من دول وبلدان متعددة، بينها تونس فجاءت لحظة انبثاق عميقة داخل محل لبيع الألبسة التقليدية الشبيهة باللباس التقليدي الشاوي، من خلال "اللحاف" أو "الملحفة" و "الفتلة" و "الصارما".

وهنا تعترف محدثتنا "عندما رأيت تلك الألبسة التونسية شعرت أنه يجب عليّ أن أفعل شيئًا من أجل موروثنا الأزيائي والجمالي الذي يعاني التخلي وعدم التسويق، خلافًا لما يفعله أشقاؤنا هناك. هكذا قرّرت بلا رجعة أن أتوقف عن البيع والاتجاه نحو مجال التصميم وطرق باب سوق الإبداع ببصمة صونيا عطاء الله".

أزياء المصمّمة صونيا عطاء الله ارتدتها شخصيات وفنانات عربية وأجنبية في تظاهرات سينمائية ثقافية

الغيرة الشديد على التراث المادي دفعها إلى الاقتناء المهوس للفضة الشاوية من المحلات، لا بل دخلت في نزاعات مع تجار الذهب لقيامهم بتذويب التحف القديمة التي كانت تصنع بطريقة أوراسية خاصة يميّزها عن غيرها بخاصية ما يعرف بـ"السيزلاج"، أو الطرق بأزاميل حرفيين مهرة، معتبرة ما يحدث في هذا السوق بالجريمة ضد التاريخ والتراث، بالنظر إلى أن القطع الفضية الضائعة غير قابلة للتعويض.

وتأمل مصمّمة أزياء الشاوية في أن "يعود الناس إلى استخدام القوالب القديمة المنتجة لهذا النوع النادر من الحلي التقليدي الأوراسي الموثق عالميًا بصور علماء الأنثروبولوجيا الذين تجولوا في الأوراس ثلاثينيات القرن الماضي على غرار جيرمان تيون وستيفن غزال وغيرهم كثير."

 

منديل الجدة وشاش أيث عبدي

حرصها الشديد على الموروث سيدفعها حتمًا إلى التنقيب في ذاكرتها الطفولية لتهتدي لفكرة عبقرية لإنتاج الملحفة الشاوية من جديد في قالب عصري يُعيد لها الحياة، ومرة أخرى ستلجأ لولادة جدتها جمعة الحركاتية فنيًا، حينما قررت أن تستخدم منديل رأسها وحزامها في الملحفة، فتقول: "تذكرت المنديل ومحرمة أيث عبدي التي كانت تضعه جدتي، وكذلك الشاش، وهما قطعتان من اللباس كان يستهوي نساء الأوراس منذ قرون، فقررت أن أرصع به الملحفة الشاوية، لسبب وحيد هو ألوانها المتعددة والصارخة وشكلها الربيعي والقزحي البديع، فبدأت في تصميم الملاحف و"البينوارات" و"الـﭭندورات"، التي صارت تملك كلها روح جدتي التي بعثت فيها الحياة من جديد." تشرح طريقتها بعفوية: "لا يعني ذلك أن تتطرز الملحفة بشكل شامل، يكفي فقط أن تدمج ألوان المنديل أو "المحرمة" في الكمين أو الياقة لتكون بصمة وراثية وتراثية تدل على المجال الثقافي الشاوي."

تسترسل: "ولأن الفكرة نجحت بشكل خارق، فقد نقلت تلك البصمة الشاوية للقشابية، وحتى لـ"الكيمينو" و"البلوشنغاي"، واللباس الأخير حقق رواجًا منقطع النظير وهو مطلوب بكثرة داخل الجزائر وخارجها ومن نساء أوروبيات -أكثرهن فرنسيات- أحسست أن منديل جدتي يمكن أن يكون عالميًا."

لباس

غواية الشخصيات والفنانات

انفتاح الأستاذة الجامعية المهوسة بالتراث التقليدي المطور، سيجعلها تلجأ لوسائط التواصل الاجتماعي خاصة تطبيق إنستغرام، الذي جلب لها أعين الزبائن، كان كافيًا لملحفة شاوية وحيدة أن تدفع الممثلة القديرة مليكة بلباي للاتصال بها لارتداء ملحفة شاوية بديعة خلال مهرجان "إيمدغاسن" السينمائي الدولي، المنعقد قبل عامين بباتنة، ثم توالت الطلبات حينما طلبت وزيرة الثقافة والفنون صورية مولودجي نموذجًا آخر لترتديه في مناسبة رسمية.

لتتهاطل بعدها موجة جديدة، أشرفت فيها صونيا على تلبيس فنانات عربيات شهيرات مثل السورية شكران مرتجى، وفنانات جزائريات على غرار نوال مسعودي وليديا لعريني وسهيلة بن لشهب، ما يفسر بشكل لافت نجاح خلطتها السحرية، فتعقب مغتبطة: "لقد رغبت دائمًا أن أقدم ملحفة شاوية بلمسة عصرية تقترب من الأناقة والجمالية، فهذا اللباس هو في الأصل التاريخي لباس الملكات، لذا ابتعدت عن التلويث الذوقي الذي لحقه منذ عقود، فقدمته في نمط قريب من "الهوت كوتير" أو الخياطة الراقية، إذ يمكن لبسه يوميا والذهاب به للسوق والجامعة والعمل، شريطة أن يكون متوائمًا مع عناصره الأساسية مثل الأكسسوار الفضي والحزام والجبين.

تحلم مصمّمة الأزياء صونيا عطاء الله في أن تُظّم عرض أزياء بقوس "تاراجان" بالمدينة الأثرية تيمقاد لإبراز العلاقة بين لباس إناث روما ونساء الأوراس

وتجزم الأوراسية بأنّ "الهدف الذي رسمته تحقق بأن صرت مصممة الفنانات وشهيرات الجزائر اللواتي هن سفيرات فوق العادة له ولنا ولتراث جدتي في المهرجانات التي يمثلون فيها صورة البلد الزاهية في المحافل الدولية".

وتحلم صونيا التي تعيش منذ سنوات سعادة مُفرطة، عقب شروعها في جني ثمرة سنوات من العمل والجد، أن تلج مجال "للباس الشاوي الجاهز"، أو ألبسة تقليدية جزائرية أخرى، وسبب سعادتها هي كما تشرح: "لقد نقلت البصمة الوراثية لمنديل جدتي وشيشان نساء أيث عبدي للأجيال الجديدة مثلما رأيته في رأس نّانّا جمعة في إبان طفولتي البريئة، وهذا يمثل لي فخرا لا يمكن شراؤه بأموال قارون، لأنه إحساس عائلي وإنساني عظيم وعميق، كما لو أني منحت حياة جديدة لهذه الألبسة التراثية".

تبتسم لتختم اللقاء بعد تناول "العيش" الحار "لي أفكار خصبة تتطلب دعمًا ماليًا كبيرا لتطوير ثقافة اللباس التقليدي، أحلامي كثيرة وكبيرة، أولها أن أنظّم عرض أزياء عالمي الطراز قرب قوس "تاراجان" بمدينة تيمقاد الأثرية. ثمًّة على ما يبدو قصة مثيرة بين لباس إناث روما ونساء الأوراس."