29-سبتمبر-2023
(الصورة: فيسبوك)

(الصورة: Getty)

قصّة طريفة يرويها أحمد مرواني لـ "الترا جزائر"، يقول فيها: عندما بدأت شرب القهوة من دون إضافة السكّر لا أتذكّر تحديدًا منذ متى وما هو السبب؟ أتذكّر أن الأمر كان قبل أكثر من عشر سنوات.

يقول محدث "الترا جزائر" إن السكّر الأبيض يجعلنا نلتهم أيّ أكلٍ أمامنا، أو كما وصفه أحد أطباء القلب، بأن السكر يجعلك تجوع وعندما تجوع تبحث عن أي شيء تأكله

مردفًا: "تأكّدت أن المذاق الحلو المُضاف أو النّكهات الحلوة التي تضاف للأطعمة التي نتناولها ماهي إلا سجن كبير نستطعِم لذّته ونتخاذل في مواجهته ونضعف أمام ألوانه بعدما غرق البياض الناصع في عمق المواد المخلوطة على غرار البنّ وغيره كثير".

ويستطرد المتحدّث: "السكّر الأبيض يجعلنا نلتهم أيّ أكلٍ أمامنا أو كما وصفه أحد أطباء القلب قائلًا: السكر يجعلك تجوع وعندما تجوع تبحث عن أي شيء تأكله".

32 سنة

من تجربته، يرى مرواني وهو أستاذ الرياضيات بإحدى ثانويات باتنة شرق الجزائر، أن السكّر في يُعتبر أحد السجون التي قضى فيها ما يزيد عن 32 سنة من عمره، ليعيش عشر سنوات الأخيرة وهو يحاول التخلّص منه شيئًا فشيئًا، والفوز بـ "حصانة البراءة" والخروج منه وهو "متفوق على ذلك الطعم الذي أنفق فيه المال الكثير وأفقده الكثير من لحظات استمتاعه بالحياة".

السكر

سجن الحلو أو السكّر يشبه إلى حدّ بعيد عاداتنا الغذائية غير الصحية، وغيرها من الأعمال اليومية التي نقوم بها دون وعي، فهي في المقابل ستتراكم وستعود إلينا في شكلٍ أمراضٍ أو تورّمات في الجسد لا نعرف جذرها وأسبابها العميقة، قد تصدرها الخلايا وتأخذ شكل تعب وإرهاق شديدين، رغم التحاليل الطبية الأولى للدم.

بالرغم من ذلك يبقى السبب الكامن أعمق بكثير من مجرد إرهاق عابر، وهو ما وصفته سامية بن حجوجة بعد رحلتها مع المرض فإن تداعيات السكر الأبيض هي مثل "الديون التي إن تماطلنا في دفعها في حينها، قد نضطر إلى دفع فاتورة باهظة في سبيل قضاءها، وقد تكون من أعمارنا."

الذّهب البني

"عندما نتعود على السكر يجعلنا ذلك أسرى ثم عبيدًا ثم يصبح الأمر أعمق من ذلك"، هذه العبارة أنقلها حرفيًا من أفواه كثيرين ممن يعشقون القهوة، بل يعتبرونها الرفيقة في كل الأزمان والأسفار والفرح والحزن، نجدها في هذا الرصد البسيط..

رغم أنهما وجهان لعملة واحدة لدى الملايين حول العالم، إلا أن السكّر والقهوة لا يلتقيان لقطاع واسع من الناس، ممن يستمتعون بمذاق القهوة الحقيقي ومرارتها اللذيذة، أليست المرارة أيضًا نكهة؟ تستفسر السيّدة بن حجوجة، فرغم بلوغها العقد السادس من العمر، إلا أنها تشرب القهوة دون سكر منذ زمن طويل معتبرة أن "الجنون كله في تزويد المشروب الساخن بذرات بيضاء تعطيه نكهة مغايرة لطبيعته الأولى، فالقهوة ذهب باللون البني".

تقول بن حجوجة في حديث إلى "الترا جزائر"، إن القهوة والسكر لا يجتمعان في فنجان واحد.. حتى وإن تعسّف أحدهما على الآخر أو حاول أحدهما التجني على مكانة الآخر أو بالأحرى عندما تستقبِل النُّكهة البنية المذاق الأبيض ويصعُب تخلّيها عنه والدليل على هذا أن السكر ينزل للأسفل بينما القهوة تنتصرـ على حدّ تعبيرها.

 سنوات العمر الجميلة

كثيرة هي الوصفات التي يدخل السكّر في تحويلها من النقيض إلى النقيض، فبعضهم عندما اكتشف مضار السكر قال لـ"الترا جزائر"، "إنه يشعر بغيض كبير لأنه كان يُطعم جسده شيئًا يشبه السمّ، بل هو السمّ نفسه".

على خلاف نظرة كثيرين، يرى ياسين (45 سنة)، موظف في مجال الاتصالات، أن "القهوة مرّة وتُشرب مرّة وكفى"، والسبب حسب رأيه، في أننا نغض الطرف عن هذه الحقيقة لأن"الناس تكره الحقيقة والنّاطقين بها والداعين إليها، فبعد أن استلذوا الوهم والبهتان، مثلما يستلذون الغيبة والنميمة وإطلاق الأحكام في كل لحظة دون رؤية زوايا النظر جميعها، ينبذون رؤية الحقيقة وسماعها لأنها تُؤذيهم نفسيًا".

التخلص من السكر في كل رشفة قهوة وحليب وعصير أمر صعب الوصول، لكن البعض تمكنوا من الاستغناء عنه، وكثيرون منهم يتجنبون الحديث عن هذه الحقيقة المرّة.

السكر

ليمون حامض

السؤال الأكثر إلحاحًا في هذا السياق: "لماذا وجد الليمون في عالم الثمار بلونه الأصفر يداعب اللون الأخضر ومذاقه الحامض، في توليفة نادرة؟ولماذا يُضاف لعصيره السكر؟ 

إلى هنا، أي شيء نضيفه لطعام طبيعي هو تجاوز صارخ على قوانين كونية طبيعية، قد يغير له المذاق وقد نستسيغه لبرهة، ثم نتجاوب معه وبعدها نذعن له ويصبح مع مرور الوقت مجرد إدمان، فالغرق في الإدمان المرتبط بالأذواق له تداعياته مع الزمن، وربما يحبس عنا معرفة الحقيقي من المزيف، ويلتبس أمامنا الأمر وربما الأول يصبح مزيفا في نظرنا بينما الثاني يصبح في السياق نفسه حقيقة، ونفقد معها الاستمتاع بالمذاق والطعم واللذة التي وهبها الله لنا في كل شيء..

السكّر له طعم شهي ويحفّز على تناول المزيد منه، فيمضي الناس لمدة طويلة من حياتهم يلهثون وراء تلبية الحاجة الماسة لمذاقه بل ويتأزمون عند الإعلان عن ندرته في المحلات والأسواق.

شرارة الاحتجاجات

بالرجوع فقط للعقد الأخير، نستذكر هنا أن السكّر تسبب في إصدار شرارة انفجار الوضع في الجزائر طيلة شهر كامل ابتداءً من يوم 5 كانون/يناير 2011، ووُسمت تلك الأحداث إعلاميًا بـ "أحداث الزيت والسكّر"، وتزامنت وقتها مع بدايات موجة الربيع التي أطاحت بأنظمة حاكمة في عدة دول عربية.

بسبب المادة البيضاء حُلوة المذاق – حسب الرّواية الرسمية- آنذاك، شهدت عديد المدن أعمال تخريبية طالت المنشآت الرسمية، انطلقت من حي باب الوادي، وهو أكبر الأحياء الشعبية في العاصمة الجزائرية، وتوسّعت شرارتها نحو مختلف الولايات الجزائرية، كردّ فعل من عدة فئات شعبية ضد رفع أسعار الزيت والسكر وأخذت منحى الاحتجاجات الاجتماعية.

لذلك، لا يختلف اثنان في الجزائر حول هاذين المادتين الضروريتين لوصفات قائمة الطبخ الجزائري، وخاصّة القهوة، بل يتندّر البعض عن شخص يشرب القهوة دون سكر، بينما يتفاجأ النادل عندما يسأل الزبون عن عدد ملاعق السكر التي سيضيفها لفنجان القهوة المطلوب، أو عدد حبات السكر الأبيض التي يبتغيه، فيكون الرد: "لا لا شكرًا قهوة دون سكر".

بالرغم من السياسة الاجتماعية المنتهجة من طرف المنظومة السياسية في الجزائر، التي تعتمد على دعم الحكومة لبعض المواد الأساسية منها السكّر، إلا أن فقدان هذه المادة في السوق أو ندرتها تشكّل دوما شرارة لانتفاضة المواطنين والدفع نحو حالة غضب ثم احتقان قد تصل إلى الفوضى، كما سبق ذكره آنفا، وقد تكون غير محسوبة العواقب، فقبل أزيد من 12 سنة خلّفت أعمال العنف ستة قتلى بسبب " الزيت والسكر" حسب تقرير لجنة التحقيق البرلمانية الجزائرية الصادر في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2011، حول ندرة بعض المواد الغذائية ذات الاستهلاك الواسع في السوق الوطنية الجزائرية وارتفاع أسعارها.

رغم الغطاء الاقتصادي والاجتماعي إلا أن السكّر تسبب وقتها في العديد من القرارات التي سنتها المنظومة الحاكمة برئاسة الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وسمحت ببروز قنوات خاصّة بلا غطاء قانوني، وغضت السلطة الطرف عنها، وصل عددها إلى 42 قناةً في الفترة ما بين 2012 إلى غاية 2018، وهي الفترة التي عرفت العشرات من الاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات، وفي المقابل كانت الحكومة سخية بتقديم تنازلات وتلبية مطالب فئات مهنية محددة كالرفع من الأجور وتعديل القوانين لأجل ما وصف بـ " شراء السلم الاجتماعي".

اقتصاديًا، يعدّ السكّر أهم حلقة في العديد من حلقات الصناعات الغذائية، وأهميته بحسب الأستاذ علي حموش بكلية الاقتصاد بقسنطينة، تكمُن في سقف الاستهلاك الضخم الذي يتمتع به السكر، وبالتالي فالإقبال على صناعته تتزايد مع كل شهر، تماشيَا مع سلسلة العرض والطلب، فلا يمكن -حسبه- أن نتصوّر يومًا صناعات المشروبات الغازية والحلويات وغيرها من الأكلات المصنعة دون السكّر.

ولفت حموش إلى أنه لا يمكننا الاستغناء على هذه المادة الحلوة، لأنّها أساس الصناعات أوّلًا وذات سمعة ثقافية اجتماعية لافتة وواسعة الاستهلاك.

وبالرجوع للأرقام التي تعنى بحجم صناعة واستهلاك السكر في الجزائر إذ بلغت ما مقداره 10 آلاف طن يوميًا و3.2 مليون طن سنويًا، حسب وكالة الأنباء الجزائرية.

اجتجاجات

الحياة حلوة

في كل صباح يستيقظ أغلب الجزائريون على روتين القهوة الصباحية، كثيرون دخلوا في زمرة المجموعات التي تطالب بـ "قهوة دون سكّر" أو بـ"الامتناع عن السكر" لحاجة طبية وصحية في آن واحد، غير أن اللافت للانتباه وجود بعض الأطعمة مثل الليمون يحتاج إلى القليل إلى السكر لتحلية مذاقه كعصير، فيما يلتجئ البعض إلى شرب عصيره دون محليات وتحمُّل مذاقه، وهذا هو الجواب للسؤال السابق: لماذا الليمون حامض؟ فالطبيعي أن مذاقه كذلك طيب ويستحق التجريب.

في هذا الصدد، اتخذ الكاتب نجم الدين سيدي عثمان مسار  كتابه "حياة حلوة من دون سكّر" في العام 2020، في خطوة كانت عبارة عن مزحة سحبته نحو المتعة، ومن تجربة القطيعة مع المادة البيضاء اللذيذة إلى حياة مليئة بالحيوية والقدرة على المشي وممارسة الرياضة ثم اختيار طريق حياة حلوة دون سكر.

القصة بدأت حسب سيدي عثمان في حديثه لـ "الترا جزائر" من الوعكة الصحية التي ألمت به وارتفاع ضغط الدم وتجاوز السكر عن المستوى الطبيعي، فكان القرار "صدمة" بمقاطعة السكر نهائيًا من وجباته والمرور نحو تنظيف جسمه من "السموم" فالأعراض الانسحابية كانت صعبة في البداية، كالخمول والاضطراب ليصبح شخصًا آخرا ولمسه للفرق بعد توقفه عن "التهام الحلويات والسكر الأبيض".

اتخذ الكاتب نجم الدين سيدي عثمان مسار  كتابه "حياة حلوة من دون سكّر" في خطوة كانت عبارة عن مزحة سحبته نحو المتعة

التجربة لاقت إعجاب الآلاف، منهم من جعلها عادةً يومية يمشي عليه خطوة خطوة، ومنهم من ترك الكثير من العادات السيئة فيما عجز البعض عن اتباعه لأن السكر في النهاية من بين الأذواق، وعلى عكس القول المأثر: الأذواق لا تناقش، إلا أن السكر ظلّ محل جدل من كبار العلماء والباحثين.